الأسئلة الكبرى: هل يمكن أن تساعدنا التكنولوجيا على قراءة أفكار شخص آخر؟

9 دقائق
الأسئلة الكبرى: هل يمكن أن تساعدنا التكنولوجيا على قراءة أفكار شخص آخر؟
مصدر الصورة: آرييل ديفيس
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

من الناحية الفنية، أصبح علماء الأعصاب قادرين على قراءة عقل الإنسان منذ عدة عقود. لكن هذا ليس بالأمر السهل. ففي البداية، يجب أن يستلقي الشخص دون حراك داخل النفق الضيق لجهاز المسح بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، طوال فترة قد تصل إلى عدة ساعات، فيما يشاهد الأفلام أو يستمع إلى الكتب الصوتية. في هذه الأثناء، ستُطلق الآلة أصواتاً مرتفعة خلال عملها على تسجيل تغير أنماط تدفق الدم داخل دماغك، وهو نشاط يعبّر بصورة غير مباشرة عن النشاط العصبي. بعد ذلك، سيلقم الباحثون المشرفون على هذه التجربة التطوعية أزواج البيانات المتطابقة زمنياً والمكونة من بيانات تدفق الدم ولقطات الفيلم أو الكلمات المنطوقة في الكتاب الصوتي، إلى برنامج يدرس السمات المميزة لاستجابة دماغك للأشياء التي تراها وتسمعها.

لا يمكن إجراء كل ما سبق دون موافقتك، ولهذا، يمكنك الاطمئنان على خصوصية أفكارك إذا اخترت الاحتفاظ بها لنفسك، على الأقل في المستقبل المنظور. لكن إذا اخترت التطوع لتحمّل هذه الساعات الطويلة داخل نفق الجهاز الماسح الذي يُثير رهاب الأماكن الضيقة، فسوف يتمكن البرنامج من تعلم كيفية إعادة توليد المواد التي كنت تشاهدها أو تستمع إليها وفق أسلوب مخصص، وذلك فقط من خلال تحليل تدفق الدم عبر دماغك.

اقرأ أيضاً: دراسة تكشف كيف يتلاعب الذكاء الاصطناعي بأفكار المستخدمين وآرائهم

في 2011، تمكن علماء الأعصاب في جامعة كاليفورنيا في بيركلي من تدريب برنامج كهذا على إنشاء نسخ ضبابية لمقاطع الفيديو التي كان يشاهدها المشاركون في التجربة. وفي عمل أحدث، استخدم الباحثون أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل ستيبل ديفيوجن (Stable Difffusion) وجي بي تي (GPT) لبناء نسخ أكثر واقعية بكثير -وإن لم تكن دقيقة تماماً- من الأفلام والمدونات الصوتية بناءً على النشاط العصبي. ونظراً للضجيج الإعلامي الذي يحظى به الذكاء الاصطناعي التوليدي، والاستثمارات المالية التي يجتذبها، فمن المؤكد أن هذا النوع من تكنولوجيا إعادة التشكيل التحفيزية سيواصل تطوره وتحسنه، خصوصاً إذا نجحت شركة نيورالينك (Neuralink) التي يمتلكها إيلون ماسك في نشر الزرعات الدماغية على نطاقٍ واسع بين الجماهير.

“قراءة العقل” لا تقتصر غلى قياس تدفق الدم!

لكن، وعلى الرغم من أن فكرة استخلاص فيلم من النشاط الدماغي لشخصٍ ما قد تبدو مثيرة للحماسة، فإنها في الواقع ليست سوى شكل محدود للغاية من أشكال “قراءة العقل”. وإذا أراد العلماء رؤية العالم كما تراه أنت، لن تكون القدرة على استنباط الفيلم الذي كنت تشاهده كافية، بل يجب أن يتمكنوا أيضاً من معرفة رأيك بالفيلم، والمشاعر التي أثارها لديك، والأشياء التي ذكّرك بها. يمثّل الوصول إلى هذه الأفكار والمشاعر الداخلية عملية أصعب بكثير. لقد تمكن العلماء من استنباط وجود شيء معين، بين احتمالين اثنين، في أحلام شخص ما، لكن هذه الطريقة غير فعّالة ضمن ظروف أقل تقييداً.

ويُعزى هذا إلى حاجة خوارزميات التعلم الآلي إلى شيئين: الإشارات الدماغية والمعلومات التي تحدد العوامل المرتبطة بها، على شكل أزواج متزامنة بصورة مثالية، وذلك لتحديد معنى هذه الإشارات. وعند دراسة التجارب الداخلية، لا يجد العلماء ما يمكن الاعتماد عليه سوى ما يقوله الأشخاص أنفسهم عما يجول في رؤوسهم، ويمكن لهذه المعلومات أن تكون موثوقة. يقول المحاضر المختص بالفلسفة في جامعة ماكوري في أستراليا، رافاييل ميليير: “لا تُتيح هذه الطريقة إجراء قياس مباشر لما يفكر فيه الأشخاص بوصفه حقيقة راسخة”.

يتطلب ربط النشاط الدماغي مع التجارب الذاتية التعامل مع الطابع المتقلب وغير المحدد للغة، خصوصاً عند استخدامه للتعبير عن العالم الباطني الغني لشخص ما. ولتحقيق هذا الشرط الصعب، يعمل العلماء مثل ميليير على دمج الذكاء الاصطناعي العصري مع تقنيات تعود إلى عدة قرون، بدءاً من استراتيجيات المقابلات الفلسفية، وصولاً إلى ممارسات التأمل القديمة. وقد بدأ العلماء، شيئاً فشيئاً، بتحديد بعض المناطق والشبكات الدماغية التي تؤدي إلى ظهور أبعاد محددة من التجربة البشرية.

اقرأ أيضاً: عراب الذكاء الاصطناعي يتوقع خروجه عن السيطرة من خلال إعادة برمجة نفسه

يقول ميليير: “يمكننا تحقيق التقدم في حل هذه المعضلة، وقد حققناه فعلاً. لا أقصد أن هذا العمل سهل وسلس، لكنني أظن أنه أقرب إلى الحل بالتأكيد من اللغز الكبير الذي تمثّله مسألة الوعي”.

أقصى الطريق

منذ أكثر من 300 سنة، تساءل الفيلسوف جون لوك إذا كان الجميع يرون اللون الأزرق بصورة متطابقة، أو إن كانت تجربة “الأزرق” لشخص ما تبدو أقرب إلى تجربة “الأصفر” لشخص آخر. يمكن أن تمثّل الإجابة عن هذه الأسئلة الدقيقة أفقاً بعيداً يحاول علم الأعصاب المختص بالتجربة الوصول إليه. لكن المجال لا يزال حالياً في مراحله الأولى، ولهذا، يجب أن يركّز على تجارب أكثر إثارة للمشاعر. يقول ميليير: “إذا أردنا بناء تصور أفضل حول السمات المميزة لحالاتنا العادية والواعية في حياتنا اليومية، فقد يكون من المفيد أن نرى ما يحدث عند الانتقال إلى حالة من نوع مختلف”.

يركّز بعض العلماء على حالات التأمل أو الهلوسات الشديدة. أمّا ميليير، فهو مهتم على نحو خاص بفهم الوعي الذاتي، أي إدراك الشخص لذاته بوصفه فرداً يفكر ويشعر في مكان وزمان محددين، ولهذا فهو يدرس ما يحدث في الدماغ خلال نوبة الهلوسة. ومقارنة بين كيفية استجابة المشاركين في التجربة بعد النوبة للأسئلة على غرار “لقد شعرت بنفسي أو ذاتي تتفكك” وأنماط نشاطهم الدماغي، اكتشف الباحثون بعض التغيرات التي يمكن ربطها بفقدان الوعي الذاتي. على سبيل المثال، فإن شبكة النمط الافتراضي (DMN) (وهي مجموعة من مناطق الدماغ التي تصبح نشطة جميعاً عندما يغرق الشخص في التفكير) تميلُ إلى فقدان تنسيقها الطبيعي.

اقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتعلم كيف يخدع البشر؟

من المؤكد أن تناول جرعة مركزة من العقاقير المسببة للهلوسة هو الطريقة الأسهل لفقدان الوعي الذاتي في أثناء الاستيقاظ. لكن إذا لم تكن راغباً في تناول هذه المواد، فثمة خيار آخر، وهو تخصيص عشرات الآلاف من الساعات لممارسة التأمل. يستطيع خبراء التأمل البوذي من ذوي المهارات العالية أن يدخلوا عمداً في حالة تبدأ فيها الحدود بين النفس والعالم الخارجي بالتلاشي على ما يبدو، ويمكن حتى أن تختفي هذه الحدود بالكامل. من المثير للاهتمام أن هذه الحالات تقترن أيضاً بتغيرات في نشاط بعض المناطق الأساسية في شبكة النمط الافتراضي، مثل القشرة الحزامية الخلفية.

غير أن دراسة خبراء التأمل قد تكون طريقة صعبة للوصول إلى التجارب المتطرفة، نظراً لكون العينة المتاحة من المشاركين المحتملين صغيرة للغاية. من ناحية أخرى، يوفّر خبراء التأمل بعض الإيجابيات المميزة بوصفهم مشاركين في الاختبار، وفقاً للأستاذة المساعدة المختصة بعلم النفس في كلية هارفارد للطب، سارة لازار.

يتمتع خبراء التأمل بسيطرة عالية على حياتهم الداخلية، حيث يستطيعون طوعاً توليد شعور بالامتنان العميق، أو الدخول في حالة من التركيز الفائق، ويميلون إلى توصيف تجاربهم الباطنية بتفاصيل دقيقة تتجاوز قدرات الأشخاص العاديين غير المدربين. تقول لازار، وهي نفسها خبيرة في التأمل: “يُعزى هذا إلى أننا نمضي وقتاً طويلاً في الاستماع إلى ما يجري في داخلنا فعلاً والتركيز عليه فقط”.

أمّا نحن الذين لا نمارس التأمل فقد نغفل أحياناً عما يحدث في رؤوسنا إلى درجة أننا قد لا نلاحظ دخولنا في حالة من الشرود، وهو ما يحدث في أغلب الأحيان. ولدراسة ما تفعل أدمغتنا في هذه الحالة، كانت مختصة علم النفس في جامعة بريتش كولومبيا، كالينا كريستوف، تضطر إلى أن تطلب من المشاركين في تجاربها، وبصورة متكررة، أن يحددوا إن كانت أذهانهم شاردة في تلك اللحظة، وإن كانوا يدركون أنهم فقدوا تركيزهم. وغالباً ما كانوا يجيبون بالنفي. كانت شبكات النمط الافتراضي لدى المشاركين في تجاربها أكثر نشاطاً خلال شرودهم، وعلى وجه الخصوص، عندما كانوا لا يدركون أنهم في حالة شرود.

اقرأ أيضاً: كيف قرر مهندس في جوجل أن نظام الذكاء الاصطناعي لديها أصبح واعياً؟ ولماذا أوقفته الشركة؟

لكن، وكي تدرس نشوء حالة الشرود الذهني بمزيدٍ من التفصيل، اضطرت كريستوف إلى الاعتماد على خبراء التأمل، القادرين على اكتشاف هذه الحالة عند حدوثها. كانت مشاركة هؤلاء الخبراء حاسمة للتجربة، فقد أتاحت لها اكتشاف وجود نشاط كبير في شبكة الوضع الافتراضي قبل بدء شرود الذهن بلحظات قليلة.

وبتجميع هذه النتائج، يمكن بناء تصور متناسق إلى حد ما. عندما تتساءل عما ستتناوله على العشاء، أو تشعر بالقلق بسبب خلاف وقع مؤخراً مع أحد الأصدقاء، تدخل شبكة الوضع الافتراضي حالتها النشطة، أمّا في حالات التركيز الشديد الخارج عن الإطار الذاتي، تفقد الشبكة نشاطها أو تزامنها. لكن هذا لا يعني أن العلماء قادرون على تحديد إن كنت مدركاً لنفسك أم كان ذهنك شارداً في عالم آخر بمجرد النظر إلى نشاطك الدماغي.

في إحدى الدراسات، تمكن الباحثون من تفكيك رموز حالات داخلية معينة، مثل التركيز على التنفس، والتركيز على الأصوات، والشرود الذهني، وذلك بدقة أعلى من الدقة المتوقعة لدى الاعتماد على الصدفة، لكن نتائجهم بقيت خاطئة في أكثر من نصف الحالات. إضافة إلى هذا، لا تعبّر هذه التوصيفات التقريبية عن الوضع الداخلي الفعلي للشخص على نحو دقيق.

على الرغم من هذا، تعتقد لازار أن البيانات الدماغية يمكن أن تساعدنا على فهم تجاربنا الذاتية على نحو أفضل. يرتبط توقف نشاط شبكة الوضع الافتراضي، والقشرة الحزامية الخلفية على نحو خاص، بحالات “التركيز دون جهد” التي يواجه المبتدئون في التأمل صعوبةً في تحقيقها أغلب الأحيان. ولهذا، بدأ بعض الباحثين يختبرون إمكانية مساعدة الناس في تعلم التأمل من خلال رؤية بث مباشر لبيانات أدمغتهم، في عملية تعرف باسم الارتجاع العصبي (neurofeedback). تقول لازار: “بمجرد شعورك بالحالة الصحيحة مرة أو مرتين، يمكنك تحديد هدفك الذي ستسعى إليه بسهولة أكبر. لأنك شعرت بهذه الحالة بنفسك”.

طرح الأسئلة الصحيحة

إذا كنت عالم أعصاب مهتماً بالتجارب الذاتية، فأنت محظوظ نسبياً؛ فقد شهدت الأبحاث حول التأمل ومواد الهلوسة توسعاً سريعاً خلال العقد المنصرم، كما أن تكنولوجيات تصوير النشاط العصبي غير الباضعة تزداد تطوراً ودقة باستمرار. لكن البيانات لا تعني شيئاً دون دلائل واضحة حول ما يمر به المشارك، والطريقة الوحيدة للحصول على هذه المعلومة هي السؤال. يقول ميليير: “لا نستطيع ببساطة الاكتفاء بالتوصيفات المبهمة”.

تمثّل استطلاعات الرأي النفسية إحدى المقاربات المعتمدة. فهي تتميز بطابع كمي يُتيح الاستفادة منها بسهولة، وهي سهلة الاستخدام، غير أنها تتطلب من المشاركين حشر تجاربهم الذهنية في قوالب محددة مسبقاً وغير معبرة على نحو كافٍ. لكن البدائل متاحة. فعلم الظواهر، وهو فرع من الفلسفة لتحليل التجارب الذاتية بالتفصيل الدقيق، ركّز لأكثر من قرن على تحسين أساليبه للحصول على هذه التوصيفات، وهي فترة تعادل ثلاثة أضعاف عمر جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. نظّم ميليير جلسات تدريب لزملائه من علماء الأعصاب في “علم الظواهر الدقيقة”، وهو طريقة مقابلات فلسفية تهدف إلى الحصول على أكبر قدر من المعلومات المتعلقة بالتجارب الذاتية من المشارك دون توجيه الإجابات نحو أي اتجاه معين.

اقرأ أيضاً: ليس خيالاً علمياً: الذكاء الاصطناعي صار قادراً على قراءة أفكارك

لكن تفسير التوصيفات النصية الطويلة، وهي النوع الذي تنتجه مقابلات علم الظواهر الدقيقة، أكثر صعوبة من التعامل مع استطلاعات الرأي. فالباحثون يستطيعون تقييم كل إجابة يدوياً وفقاً للنواحي التي تهمهم، لكن هذه العملية قد تكون معقدة ومجهدة للغاية، كما أنها تجرد المقابلات من الكثير من التفاصيل الدقيقة التي تجعلها قيّمة للغاية.

قد توفر خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية، مثل تلك التي يعتمد عليها تشات جي بي تي، بديلاً أكثر فاعلية واتساقاً، فهي قادرة على إجراء تحليل آلي وسريع لكميات ضخمة من النصوص بحثاً عن سمات مميزة محددة. وقد بدأ ميليير إجراء بعض التجارب بتطبيق معالجة اللغة الطبيعية على توصيفات تجارب الهلوسة من قواعد البيانات المتاحة على الإنترنت، مثل إيروويد (Erowid)، واكتشف أن التحليلات الناتجة تتوافق على نحو جيد مع البيانات المُستَخلصة من الاستبيانات.

لكن، وحتى بمساعدة علم الظواهر الدقيقة، يمثّل التعبير عما يجري داخل الذهن البشري على شكل نص واضح ومرتب مهمة صعبة للغاية. ولهذا، وبدلاً من أن يطلب العلماء من المشاركين أن يبذلوا جهداً كبيراً للتعبير عن تجاربهم بالكلمات، بدأ بعضهم يستخدم التكنولوجيا في محاولة لإعادة إنتاج هذه التجارب. وبهذه الطريقة، لا يُطلب من المشاركين سوى تأكيد أو نفي مطابقة التجربة الناتجة لما كان يحدث داخل أذهانهم.

وفي دراسة لم تخضع بعد لمراجعة الأقران، حاول فريق من العلماء من جامعة ساسكس في المملكة المتحدة إجراء هذه التجربة من خلال محاكاة الهلوسات المرئية باستخدام الشبكات العصبونية العميقة. عادة ما تعمل الشبكات العصبونية الالتفافية، وهي مستوحاة في المقام الأول من نظام الرؤية البشري، على تحويل الصورة إلى معلومات مفيدة، أي وضع توصيف لمحتواها على سبيل المثال. لكن تشغيل الشبكة على نحو عكسي يُتيح استخدامها لإنتاج الصور، وهي مشاهد حالمة وهمية توفر الدلائل حول آليات العمل الداخلية للشبكة.

اقرأ أيضاً: نظام ذكاء اصطناعي يعتمد على الملاحظات الطبية لتعليم نفسه كيفية كشف الأمراض في صور الأشعة السينية للصدر

انتشرت الفكرة على نطاقٍ واسع عام 2015 بفضل شركة جوجل، وذلك على شكل برنامج يحمل اسم ديب دريم (DeepDream). وعلى غرار الكثيرين حول العالم، بدأ فريق ساسكس يعبث بالنظام على سبيل التسلية، وفقاً لأستاذ علم الأعصاب وأحد مؤلفي الدراسة، أنيل سيث. غير أن الفريق أدرك بسرعة أنه قد يتمكن من الاستفادة من هذه الطريقة لإعادة إنتاج تجارب مرئية متنوعة وغير معتادة.

وبالاعتماد على التوصيفات الشفوية من أشخاص يعانون أمراضاً تتسبب بالهلوسة، مثل فقدان البصر وداء باركنسون، إضافة إلى أشخاص تناولوا المواد المسببة للهلوسة مؤخراً، صمم الفريق مجموعة كبيرة من الهلوسات المُصطنَعة.

وهو ما أتاح للفريق الحصول على توصيفات غنية لما كان يحدث في أذهان المشاركين بتوجيه سؤال بسيط إليهم: أي واحدة من هذه الصور هي الأقرب إلى تجربتك المرئية؟ لم تكن عمليات المحاكاة مثالية، على الرغم من أن الكثير من المشاركين تمكنوا من تحديد صورة مشابهة تقريبية.

وعلى عكس بحث تفكيك الرموز، لم تتضمن هذه الدراسة أي صور مسح دماغي، لكنها قد تقدّم معلومات قيمة حول آليات الهلوسة في الدماغ، وفقاً لسيث. يقدّم بعض الشبكات العصبونية العميقة أداءً ممتازاً في نمذجة الآليات الداخلية للمناطق المرئية في الدماغ. ولهذا، قد تكون التعديلات التي طبقها سيث وزملاؤه على الشبكة مشابهة لما يمكن أن نسميه “تعديلات” بيولوجية كامنة تسببت بالهلوسة لدى هؤلاء الأشخاص. يقول سيث: “تمكّنّا، في إطار قدراتنا، من بناء فرضية على المستوى الحاسوبي حول ما يحدث في أدمغة هؤلاء الأشخاص بحيث يؤدي إلى هذه التجارب المختلفة”.

لا يزال هذا المجال البحثي في مراحله المبكرة، ولكنه يشير إلى أن علم الأعصاب قد يصل يوماً ما إلى مرحلة تتجاوز توصيف ما يتعرض له شخص آخر. فقد تمكن الفريق من خلال الشبكات العصبونية العميقة، من تجسيد هلوسات المشاركين على نحو واضح في العالم الخارجي، حيث يستطيع الجميع المشاركة في دراستها.

اقرأ أيضاً: الشبكات العصبونية الاصطناعية تُعلّم نفسها شم الرائحة كخلايا الدماغ تماماً

لكن نقل أنواع أخرى من التجارب إلى العالم الخارجي قد يكون أصعب بكثير، فالشبكات العصبونية العميقة ناجحة في محاكاة الحواس مثل الرؤية والسمع، لكنها لا تستطيع بعد نمذجة العواطف أو الشرود الذهني. إلّا أن تكنولوجيات نمذجة الدماغ، التي تتطور باستمرار، يمكن أن تفتح احتمالاً جديداً وثورياً: فقد لا تقتصر قدرات التكنولوجيا على معرفة ما يجري داخل عقل شخص آخر وحسب، بل يمكن أن تصل إلى مشاركتها فعلياً.