‏البيتكوين كإيديولوجيا: هل يمكن أن نعيش الواقع بتعصب لعملات رقمية؟

6 دقائق
‏البيتكوين كإيديولوجيا: هل يمكن أن نعيش الواقع بتعصب لعملات رقمية؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/ REDPIXEL.PL
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أمامي على الجدار، كان رسم لرجل مقنع يمثل ساتوشي ناكاموتو، وهو يقول: “لا تنتظر، وكن بنكاً لنفسك”. إنها واحدة من عدة رسومات منتشرة لساتوشي، بما فيها رسم يصوره وكأنه ينطلق طائراً من ورقة الدولار النقدية كبطل خارق. (كانت تلك الرسومات مبتكرة على نحو خاص، بما أنه لا أحد يعرف هوية ساتوشي الحقيقية، فهذا اسم مستعار) كان التلفاز المعلق على الجدار يعرض القيم الحالية للمئات من العملات المشفرة.

وكانت البيتكوين (Bitcoin) تشغل أكبر مساحة على الشاشة، متبوعة بعملتي إيثيريوم (Etheruem) وباينانس (Binance)، وبعدها عملات أخرى، ممثلة بمربعات صغيرة للغاية لدرجة أنها لا تكاد ترى. وكانت الأرقام على الشاشة تتذبذب بصورة متواصلة. فقد تأرجحت قيمة البيتكوين بين 21,163.64 و21,12.75 و21,101.5 دولار. أما خلفي، فكانت هناك خزانة مليئة بالتذكارات والتحف المزينة بشعارات ورسوم البيتكوين للبيع، مثل الكؤوس والقمصان والخواتم.

اقرأ أيضاً: ما إيجابيات وسلبيات الدفع بالعملات المشفرة بدلاً من العملات التقليدية؟

هذا المكان هو مقهى بيتكوين إمباسي، وهو مكان عصري من طابقين في حي روما نورت في مدينة مكسيكو. ويتيح لك هذا المكان استخدام بيتكوين للدفع لقاء تناول الهوت دوغ (مستخدماً عملة دوغ كوين (Doge Coin) أو محفظة مالتي دوغ (Multidoge) أو دوغ تشين (Dogechain))، أو إعادة تعبئة محفظة البيتكوين الخاصة بك بدفع قيمة البيتكوين بعملة البيزو. كما يسعى هذا المكان إلى أن يصبح نقطة تجمع لأوساط البيتكوين في أميركا اللاتينية. وفي هذا السعي، فإنه يؤدي إلى نوع من التضارب، فهو مكان تجمع فيزيائي لأوساط يمكن اعتبار أفرادها رقميين حتى العظام.

اقرأ أيضاً: 6 خطوات سهلة تضمن لك دخولاً سلساً إلى عالم العملات المشفرة

العملات المشفرة في أميركا اللاتينية

يقول البعض إن أميركا اللاتينية تعتبر أكثر المساحات أهمية لاختبار بناء البنى التحتية والمجتمعات على أساس العملات الرقمية، بدءاً من السلفادور وبورتو ريكو، وصولاً إلى غواتيمالا. وبناء على رأيك بالعملات المشفرة، فإن هذا الأمر مثير للحماس إلى أقصى درجة أو سلبي للغاية. فوفقاً لتقرير أعدته جمعية الأميركيتين/ مجلس الأميركيتين، فقد ارتفع استخدام العملات المشفرة في أميركا اللاتينية بنسبة 1,370% بين 2019 و2021.

وعلى الرغم من أن اعتمادها على نطاق شامل ما زال بعيداً، فإن أنصار العملات المشفرة يطلقون وعوداً كبيرة في هذا المجال، وذلك ببناء نظام مالي جديد ولا مركزي لتعزيز الشمولية المالية، ومكافحة الفساد، وتشكيل قوة معاكسة للتضخم. ولكن تحقيق هذه الوعود ليس بالأمر السهل على الإطلاق، وكما في حالة السلفادور، فإن الأشخاص الذين يدفعون ثمن الفشل بالفعل ليسوا في أغلب الأحيان الأشخاص الذين يروّجون لهذه الأفكار على تويتر بصور تظهرهم يطلقون الليزر من أعينهم.

اقرأ أيضاً: خطوة بخطوة: دليلك الشامل إلى إنشاء محفظتك الرقمية الأولى

بدأت مالكة مقهى بيتكوين إمباسي وإحدى المؤسسين، لورينا أورتيز، بالاستثمار في بيتكوين في 2017. وقد كانت وقتها في حاجة إلى كسب بعض المال بسرعة لتذهب في رحلة إلى اليابان، فقد كان صديقها مشرفاً على رحلة سياحية إلى هناك، ودعاها للذهاب معه. تقول أورتيز، والتي تبلغ من العمر 33 عاماً: “لقد بدا لي من المنطقي للغاية وجود أداة يمكن أن تساعد الناس في التحرر من النظام الفاشل الذي نتعايش معه”.

كانت بيتكوين عملة ذائعة الصيت وثورية، بشكل يتوافق مع أفكارها. وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، بدأت باستثمار صغير بمبلغ 25 دولاراً أميركياً فقط. وفي ديسمبر/ كانون الأول، وصلت قيمة بيتكوين إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق. ولكن أورتيز قررت أن تتخلى عن الرحلة، وتكرس نفسها للعملات المشفرة، عشقها الجديد.

وفي بداية 2018، بدأت أورتيز بالتحدث مع أحد مؤسسي المقهى، ديفيد نورييغا، حول الحاجة إلى مكان تجمع فعلي لأنصار البيتكوين في مدينة مكسيكو. وهكذا، أسهم نورييغا بما لديه من خبرة تقنية في بيتكوين، على حين كانت أورتيز تمتلك الخبرة اللازمة لإدارة مطعم. وهكذا، فتح المقهى أبوابه في شهر ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام.

اقرأ أيضاً: هل ينجح مليارديرات العملات المشفرة في بناء مدنهم الخاصة؟

ومنذ ذلك الحين، كما تقول أورتيز، تنامت سمعة المقهى من خلال كلام الناس عنه غالباً. وشهد المقهى فترات جيدة وأخرى سيئة: فخلال فترات ازدهار بيتكوين، كان الأشخاص من غير المستثمرين فيها يدخلون إلى المكان لتوجيه بعض الأسئلة حول بيتكوين. أما خلال فترات انخفاض الأسعار، فكان معظم زبائن أورتيز من الأنصار المخلصين لبيتكوين، والذين يحضرون الاجتماعات المتكررة، ويتشاركون النصائح.

وبعد المقابلة بوقت قصير، امتلأ الطابق الثاني للمقهى بعشرين شخصاً تقريباً لحضور أحد هذه الاجتماعات حول الأفكار الشائعة والخاطئة حول بيتكوين، وذلك بقيادة أحد المؤثرين الكولومبيين في مجال البيتكوين. وخلال الاجتماعات، يدفع نصف الزبائن تقريباً فواتيرهم بالبيتكوين، كما تقول أورتيز، ولكن هذه النسبة تنخفض إلى 10 أو 20% عندما لا يكون هناك لقاء. يعج المكان بالمنشورات التي تتضمن العديد من النصائح حول تفادي عمليات الاحتيال بالعملات المشفرة، وهو أحد أهداف أورتيز الأساسية، كما تقول: بناء فضاء يتيح للناس التعلم وتوجيه الأسئلة.

البيتكوين كإيديولوجيا

ولكن بيتكوين إمباسي ليس الوحيد من نوعه. فهناك مقهى في براغ، وآخر في مانهاتن، ومطعم برغر في لوس أنجلوس، وجميعها تعمل بطرق مشابهة. هذا أمر منطقي، فبالنسبة للمناصرين المخلصين، فإن بيتكوين “ليست استثماراً، بل إيديولوجيا”، كما تقول أورتيز.

بطبيعة الحال، من الجدير بالذكر أن أوساط البيتكوين المبنية على هذه الإيديولوجيا تتضمن الكثير من الحالات الموثقة من التمييز ضد النساء، والعنصرية، والتحرش، والتطرف، ومعاداة السامية، والتآمر، وعمليات الاحتيال المباشرة. وفي أغلب الأحيان، فإن أوساط العملات المشفرة تتعامل بعدائية مع الغرباء والنقاد، كما أن الحوار على الإنترنت حول العملات المشفرة معروف بارتفاع نسبة الإساءات فيه، وفي الواقع، فإنه من الصعب أن نتخيل أن ثقافة أخوية العملات المشفرة هي ثقافة تستحق الاقتداء والتقليد. ولكن، وعلى الرغم من ضرورة الاعتراف بوجود عناصر خبيثة في هذه البيئة، فإنه ليس من المنصف أن نقتصر في تقييمنا لهذه المجموعة الضخمة من الناس على أعلى الأصوات فيها وأكثرها إثارة للمشكلات. وفي استقصاء حديث لمركز بيو (Pew)، تبين أن 16% من الأميركيين البالغين استخدموا العملات المشفرة للاستثمار أو التجارة أو لأغراض أخرى. وفي هذه الأوساط، تصبح فضاءات التجمع واللقاءات أمراً مهماً. وكما قالت لي أورتيز: “كان من المستحيل لجميع الثورات والحركات الاجتماعية وكل الزعزعات واسعة النطاق أن تبدأ دون وجود أقلية صغيرة تنمو بالتدريج عبر المجتمع”. وفي أميركا اللاتينية، كما تضيف، “لدينا تقليد عريق في المساهمة الشخصية في بناء المجتمع”.

اقرأ أيضاً: استهلاك بيتكوين للطاقة يجب أن يقل حرصاً على مصلحتها (ومصلحة الكوكب أيضاً)

لقد تضخمت بيئة العملات المشفرة في المكسيك منذ افتتاح هذا المقهى، فأربع سنوات وفق معايير البيتكوين تكافئ 20 سنة عادية، على حد تعبير أورتيز. وفي مايو/ أيار من عام 2021، تحولت بورصة بيتسو (Bitso) للعملات المشفرة في المكسيك إلى أول شركة يونيكورن للعملات المشفرة (شركة خاصة بقيمة تتجاوز مليار دولار) في أميركا اللاتينية، وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته، أعلن متجر إلكترا (Elektra) أنه سيقبل الدفع بالبيتكوين للمبيعات المنفذة عبر الإنترنت. ومن المرجح أن الملياردير ريكاردو ساليناس بليغو، رئيس مجلس إدارة مجموعة إلكترا المثير للجدل، والذي يتسم بأنه محافظ متشدد، يعتبر أيضاً أكثر مناصري البيتكوين تأثيراً في البلاد، ففي يونيو/ حزيران من عام 2021، أعلن أن بنك أزتيكا (Azteca)، والذي يرأسه أيضاً، سيحاول أن يصبح أول بنك مكسيكي يتعامل بالبيتكوين. ولكن المشرعين المكسيكيين رفضوا اقتراحه على الفور. وفي 2022، أعلن ساليناس بليغو أن محفظة السيولة المالية الخاصة تضم عملة بيتكوين أو أسهماً مرتبطة بالبيتكوين بنسبة 60%.

اقرأ أيضاً: تحديد أهداف الحكومات من استخدام البلوك تشين

لقد كان ساليناس بليغو أحد مواضيع الحوار في أول اجتماع حضرتُه في مقهى بيتكوين إمباسي، وقد تضمن هذا اللقاء حواراً بين محامٍ، ومستشار، وأستاذ في الاقتصاد، حول إمكانية ووجوب تنظيم البيتكوين قانونياً. يتمتع ساليناس بليغو بعلاقة قديمة مع الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، وقد رغب أحد الحضور بمعرفة ما إذا كان من المحتمل أن يتمكن من إقناع الرئيس بالانضمام إلى مالكي البيتكوين. وقد أجمع الحضور على النفي.

قمر ما زال بعيداً

دام الحوار في تلك الليلة ساعة ونصف الساعة تقريباً، حيث أعرب الحضور عن امتعاضهم من سام بانكمان فرايد بسبب تشويه سمعة العملات المشفرة، واستخدموا هواتف آيفون التي يحملونها للانتقال بين إنستغرام (Instagram) وتويتر (Twitter) ومحافظ البيتكوين. وقد حاول أحد الحضور، وهو بريطاني انتقل مؤخراً إلى المكسيك، أن يقنعني بفتح محفظة بيتكوين على الفور (أنا لا أمتلك عملات مشفرة)، كما سألني مكسيكي يعمل في شركة ناشئة للعملات المشفرة عن رأيي، كوافدة جديدة، بأهم إيجابيات وسلبيات البيتكوين.

كما لاحظت أن أحد الجالسين على الطاولة المجاورة رسم شعار بيتكوين بقلم تخطيط على ظفر إبهامه. وعلى الجدار أمامنا، انتصبت لافتة من أضواء النيون تحمل عبارة “Eat Sleep Crypto Repeat” (كل، اشرب، تعامل بالعملات المشفرة، كرر كل ما سبق) مع رسم لمركبة فضائية، وعبارة “we’re going to the moon” (نحن ذاهبون إلى القمر).

اقرأ أيضاً: ما ملامح المرحلة المقبلة في مجال العملات المشفرة؟

ولكن تبيّن أن القمر لا يزال بعيداً للغاية. مع كتابتي لهذا المقال، لا أستطيع إلا أن أفكر في تغريدة نشرتها أورتيز في أوائل شهر يناير/ كانون الثاني. فقد كان أحد أنابيب الصرف الصحي المتصلة بالمطعم مكسوراً، ولهذا، كان المطعم يعاني من مشكلات بسبب تسريب مياه الصرف الصحي. ولم يتمكن مالكو المطعم من دفع السلطات المحلية إلى اتخاذ أي إجراء على مدى شهر كامل، وكانوا يأملون أن متابعيهم يمكن أن يساعدوهم لزيادة الضغط على السلطات على تويتر.

اقرأ أيضاً: مراجعة تاريخية: متى كان الاستثمار في البيتكوين سيجعلك غنياً؟

وهو ما بدا لي صورة مثالية حول إدارة مقهى بيتكوين: فمن الممكن أن تمضي كامل وقتك متحدثاً عن مستقبل رقمي لا مركزي ومؤتمت مالياً. ولكن، وفي المحصلة، ستبقى عالقاً في الواقع مع بيروقراطية حكومية متثاقلة، وأنبوب مكسور يسرب مياه الصرف الصحي.

وعندما سألتُ أورتيز عن هذا، ضحكَت. فهو إحساس مألوف. ففي كل مرة تذهب فيها إلى البنك، أو تضطر للجوء إلى مسؤولي الحكومة، أو تتعامل فيها مع متاعب مثل مشكلة أنبوب التصريف، “يصبح الأمر أشبه بالعودة إلى الأرض. ’على رسلك يا لور، لا تحلقي بعيداً، فهذا واقعك‘”، كما قالت لي. إنها تنظر إلى هذا الوضع على أنه درس مهم. “ففي المحصلة، يجب أن يدرك المرء أين يقف بالفعل”.