كيف نحول المعادن الأرضية النادرة إلى موارد مستدامة؟

12 دقيقة
معدن أرضي نادر يكشف لنا ملامح مستقبل الموارد التي يزخر بها كوكبنا
مصدر الصورة: TMY350 عبر ويكيميديا كومونز

ملخص: إلى متى سنظل نضخ المواد من الآبار ونستخرجها من المناجم قبل أن نضطر إلى إعادة النظر في الأشياء التي نصنعها؟ وكم من المواد يمكننا إعادة تدويره حتى نرميه من جديد في أتون اقتصادنا التكنولوجي المضطرم؟ أسئلة تبرز بقوة في الوقت الذي يدخل فيه معدن أرضي نادر مثل النيوديميوم في تصنيع المغانط العالية القدرة التي تعتمد عليها تكنولوجيات عديدة مثل الهواتف الذكية والتوربينات الريحية. وقد يتجاوز الطلب على هذه المغانط الكميات المتاحة في العقد المقبل، حيث يبلغ المخزون الاحتياطي من هذا المعدن وفقاً للتقديرات 12.8 مليون طن. لكن الأبحاث تشير إلى صعوبة التنبؤ بذروات الإنتاج المستقبلية للمواد، ويأمل بعض الخبراء في إيجاد أساليب جديدة لتوفير مثل هذه المواد، مثل الاستفادة القصوى مما نستخرجه بدلاً من استخراج مواد جديدة، في محاولة لإحداث دورة مستدامة بين منبع المواد ومصيرها النهائي في حاويات القمامة. وقد يصعب إنهاء هذه الدورة كما نأمل نظراً لأن ملاحقة التقدم التكنولوجي تظل الهاجس الأكبر لدينا.

إذا تجاهلنا محتوى النيازك التي تضرب سطح الأرض، والمركبات الفضائية التي تترك مدار الأرض متجهة نحو أعماق الفضاء، سنجد أن كمية المواد المتوفرة على هذا الكوكب لا تتغير كثيراً.

هذه الحقيقة البسيطة حول مواردنا المحدودة تزداد وضوحاً وإثارة للخوف مع تسارع وتيرة التغيير التكنولوجي، وحاجة مجتمعنا إلى مجموعة تتوسع بصورة متواصلة من المواد اللازمة للحفاظ على هذه الوتيرة. ولهذا، منذ أن بدأنا استخراج هذه المواد بأسلوب منهجي تقريباً ونحن نحاول التنبؤ بالفترة التي ستبقى فيها هذه المواد قادرة على تلبية طلبنا. إلى متى سنبقى نضخ المواد من الآبار ونستخرجها من المناجم قبل أن نجد أنفسنا مضطرين إلى إعادة النظر في الأشياء التي نبنيها ونصنعها، وأسلوبنا في بنائها وصنعها؟

لقد ازداد تعقيد هذه التنبؤات مع مرور الزمن. والآن، أصبحت لدينا مسألة أخرى تؤثّر في هذه التنبؤات، وهي مقدار المواد التي يمكن أن نستخلصها من السلع المصنّعة التي انتهى بها المطاف إلى أكوام النفايات. هل نستطيع أن نعيد تدوير أجزاء من هاتف آيفون، أو من القطع الداخلية لأحد التوربينات الريحية الضخمة؟ ما هي النسبة التي يمكن أن نعيد تدويرها من هذا الشيء أو ذاك، حتى نرميها من جديد في أتون اقتصادنا التكنولوجي المضطرم؟

اقرأ أيضاً: تصميم مسكن فضائي يجمع نفسه ذاتياً يَعد بتحسين تجربة رواد الفضاء

لماذا لسنا متفائلين بشأن وفرة الموارد الأرضية؟

تميلُ التقديرات المتعلقة بكميات المواد التي ستكون في متناول أيدينا في المستقبل في جوهرها إلى الاستناد إلى افتراض معقد وضمني في أغلب الأحيان، وهو أننا سنواصل صُنع المنتجات نفسها تقريباً في المستقبل باستخدام المواد ذاتها التي نستخدمها حالياً. لكن التكنولوجيا تتغير بسرعة كبيرة، وعندما ندرك أخيراً ما هي المادة التي قد نحتاج إليها لاحقاً، أو نطوّر نظاماً متخصصاً للتنقيب عنها أو إعادة تدويرها، فقد تصبح افتراضاتنا كلها باطلة بعد ظهور الجيل الجديد من التكنولوجيات.

نحن نمر حالياً في خضم مرحلة قد تؤدي إلى إحداث تحولات كبيرة. فقد بدأت احتياجاتنا من المواد المطلوبة لتزويد العالم بالطاقة تنتقل من الوقود الأحفوري بأنواعه المختلفة إلى مصادر الطاقة التي لا تنتج انبعاثات غازات الدفيئة التي تؤثّر في مناخنا. واليوم، أصبحت بعض المعادن التي اكتشفناها منذ ما يزيد على القرن تدعم التكنولوجيات التي نعتمد عليها للحصول على طاقة أقل تلويثاً للبيئة، ما يعني أن أي نقص في كميات هذه المعادن قد يؤدي إلى إبطاء عجلة التقدم.

ولنأخذ مثالاً على هذه المعادن النيوديميوم، وهو أحد المعادن الأرضية النادرة. لا شك في أن هذا المعدن قد لا يضاهي بعض المعادن الأخرى شهرة، لكنه معدن يعتمد عليه البشر منذ أجيال عديدة؛ فمنذ بدايات القرن العشرين، جرى استخدام النيوديميوم لإضفاء اللون الأرجواني على الزجاج المستخدم لأغراض الزينة. أمّا اليوم، فنستخدم النيوديميوم في أنظمة التبريد الكريوجيني للوصول إلى درجات الحرارة المنخفضة للغاية والضرورية لأجهزة مثل النواقل الفائقة، كما نستخدمه في المغانط العالية القدرة التي تعتمد عليها تكنولوجيات عديدة، بدءاً من الهواتف الذكية وصولاً إلى التوربينات الريحية.

ومن الممكن أن يصل الطلب على المغانط التي تعتمد على النيوديميوم إلى مستويات تتجاوز الكميات المتاحة منها في العقد المقبل. إن التوقعات المتعلقة بإمدادات المعدن على المدى الأبعد ليست قاتمة، لكن نظرة متأنية إلى الاحتمالات المستقبلية للنيوديميوم تكشف الكثير من التحديات التي من المرجّح أن نواجهها على امتداد مقاطع سلسلة التوريد خلال القرن المقبل وما بعده.

ذروة الذعر

قبل أن نبحث في مستقبل هذه المادة، من المهم أن نشير إلى أنه لطالما كان التوصل إلى تنبؤات دقيقة من هذا النوع أمراً صعباً للغاية، ويكفي أن ننظر إلى عملنا المتواصل لوضع نظريات حول إمدادات الوقود الأحفوري.

تقول إحدى النظريات، التي غالباً ما تتردد روايتها الخاصة عن القصة في المقررات الدراسية لمادة الاقتصاد، ما يلي: بما أن المخزون المتاح من النفط محدود، فسوف يصل العالم في لحظة ما إلى مرحلة ينفد فيها هذا المخزون. وقبل ذلك، سيصل استخراج النفط إلى ذروة معينة، وبعدها سيدخل إنتاج النفط مرحلة من التراجع الذي لا يمكن عكسه. تحمل هذه الذروة اسم "ذروة النفط".

يعود تاريخ هذه الفكرة إلى بدايات القرن العشرين، لكن أحد أشهر التحليلات المتعلقة بها يعود إلى الجيولوجي السابق في شركة شيل (ٍShell)، م. كينغ هابرت. ففي ورقة بحثية تعود إلى عام 1956، درس هابرت الكمية الإجمالية من النفط (وغيره من أنواع الوقود الأحفوري، مثل الفحم والغاز الطبيعي) التي اكتشفها الجيولوجيون على كوكب الأرض. بناءً على تقديرات المخزون، والكمية التي استهلكها العالم، تنبأ بأن إنتاج النفط في الولايات المتحدة سيصل إلى الذروة ويبدأ بالتراجع بين عامي 1965 و1970. كما تنبأ بأن يصل الإنتاج العالمي من النفط إلى الذروة بعد ذلك بفترة قريبة، في عام 2000.

بدا لفترة من الزمن أن هابرت محق في تنبؤاته؛ فقد ازداد إنتاج النفط في الولايات المتحدة حتى عام 1970، عندما وصل إلى ذروة مرتفعة للغاية، وتراجع بعد ذلك على مدى عقود عدة، حتى 2010 تقريباً. لكن بعد ذلك أدّى التطور في تقنيات الحفر والتصديع المائي (إحداث كسور تحت الأرض باستخدام الماء حتى تمتلئ بالنفط) إلى اكتشاف مخزونات كان من الصعب الوصول إليها. وهكذا، شهد مستوى إنتاج النفط في الولايات المتحدة ارتفاعاً حاداً في العقد الأول من القرن الـ 21، وبحلول عام 2023، أصبحت البلاد تنتج كميات من النفط أكبر من أي وقتٍ مضى.

استمر الذعر المرتبط بذروة النفط فترة طويلة بعد وفاة هابرت، لكن الاقتصاديين والجيولوجيين كانوا على خطأ في كل مرة تنبؤوا فيها بأننا وصلنا إلى ذروة إنتاج النفط، أو نوشك على الوصول إليها (حتى الآن).

والآن، ثمة سبب جديد قد يجعلنا نرى إنتاج الوقود الأحفوري يبلغ ذروته فعلياً ثم يتراجع بعدها في نهاية المطاف، وهو ما نسميه "الانتقال الطاقي" أو "التحول إلى الطاقة المستدامة" (energy transition). يمثّل مصطلح "التحول إلى الطاقة المستدامة" اختصاراً يعبّر عن الجهود الكبيرة المبذولة للتحول بعيداً عن مصادر الطاقة التي تنتج غازات الدفيئة، نحو مصادر الطاقة المتجددة، وغيرها من الخيارات المنخفضة الكربون.

تشير نظرية هابرت إلى أن ثبات كميات الإمداد سيرغم الإنتاج على التراجع بدءاً من الذروة. لكن مع إدراك العالم مخاطر التغيّر المناخي، ومع بدء انتشار مصادر الطاقة المنخفضة الكربون على نطاقٍ واسع، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة النووية، فقد ينتهي بنا الأمر إلى التوقف عن استخراج الفحم والنفط والغاز الطبيعي، وترك هذه المواد في مكانها في أعماق الأرض. خلاصة القول، قد يتجه الإنتاج إلى الانخفاض مرة أخرى بسبب نقص الطلب، لا بسبب نقص العرض (أي المخزون المتاح).

ومن المفارقة أن هذه المصادر الطاقية الصاعدة حديثاً، أصبحت مصدراً جديداً لذعر "الذروة". فعلى الرغم من أن ألواح الطاقة الشمسية والتوربينات الريحية والبطاريات لا تحتاج إلى الوقود، فإن تصنيعها يحتاج إلى مجموعة كبيرة من المواد، بما في ذلك الليثيوم والنحاس والفولاذ والمواد الأرضية النادرة مثل النيوديميوم.

معدن النيوديميوم الخام
يتسم النيوديميوم بأنه عنصر أساسي في تشغيل الكثير من أجهزتنا، ومن المحتمل أن نواجه أزمة في الكميات المتاحة منه. مصدر الصورة: غيتي إميدجيز

إذا واصلنا استخراج هذه المعادن ومعالجتها واستخدامها والتخلص منها، فلا بُدّ من الناحية النظرية أن تنفد هذه المواد في مرحلة ما في المستقبل. ومع بدء التحول إلى الطاقة المستدامة، حاولت الكثير من التوقعات فهم المعطيات لتحديد المعادن التي يجب أن نقلق بشأنها، والفترة التقريبية التي ستبدأ تنضب فيها. لكن الخبراء يقولون إن فهم مدى توفر الموارد في هذا القطاع أكثر تعقيداً بكثير من تحديد ذروة مستقبلية واحدة لها.

يقول مدير مركز أبحاث الجيولوجيا الاقتصادية في جامعة نيفادا بمدينة رينو، سيمون جاويت: "إن نمذجة الذروة ليست بالأسلوب الذي ينطبق فعلياً على المعادن". وفقاً لما قاله جاويت في ورقة بحثية تعود إلى عام 2020، من المستحيل تقريباً أن نفهم إن كنا قد وصلنا إلى ذروة الإنتاج في أي مادة محددة، أو حتى إن كان من الممكن التنبؤ بهذه الذروات.

اقرأ أيضاً: ما الذي يمكن أن تتعلمه تكنولوجيات الطاقة المتجددة من تقنية طاقة كهرومائية جديدة؟

النيوديميوم: نظرة من كثب

لنلق نظرة أدق على النيوديميوم. يبلغ المخزون الاحتياطي من هذا المعدن -أي الكمية التي نعرفها والتي نعلم أن استخراجها مُجدٍ اقتصادياً- وفقاً للتقديرات 12.8 مليون طن. ولكي نمنع الاحترار العالمي من تجاوز مستويات ما قبل الثورة الصناعية بأكثر من 1.5 درجة مئوية، فقد نحتاج إلى ما يصل إلى 121,000 طن للتوربينات الريحية فقط، وذلك وفقاً لدراسة تعود إلى عام 2023 حول الطلب العالمي على المواد المتعلقة بالتحول إلى الطاقة المستدامة. وبناءً على تقديرات كمية المعدن التي نفترض أنها ستصل إلى مرحلة المنتجات النهائية انطلاقاً من مرحلة المنجم، فمن الممكن أن نستهلك هذه الاحتياطيات خلال قرن تقريباً.

إذا واصلنا استخراج هذه المعادن ومعالجتها واستخدامها والتخلص منها، فلا بُدّ من الناحية النظرية أن تنفد هذه المواد في مرحلة ما في المستقبل.

غير أن المشكلة في أسلوب التفكير هذا تكمن في أن المخزونات الاحتياطية والموارد غير ثابتة على الإطلاق؛ فمن ناحية، يكتشف الجيولوجيون مكامن جديدة طوال الوقت، ومن ناحية أخرى، فإن ما كنا نعتبره باهظ التكلفة وصعب التعدين قبل بضعة عقود قد يكون من الممكن استخراجه باستخدام التكنولوجيات الحالية. ولهذا، فإن تلك الكميات المتاحة من هذه المادة ظلت تواكب الإنتاج إلى حدٍّ كبير، بدلاً من استنفادها ببطء.

وعلى حد قول جاويت في ورقته البحثية: "نحن ننتج حالياً من المعادن أكثر من أي وقتٍ مضى، ولدينا المزيد من الموارد والاحتياطيات المعدنية أكثر من أي وقتٍ مضى".

ويُضيف قائلاً إن السؤال المطروح ليس إن كنا سنستهلك كلَّ ما هو متاح نظرياً على هذا الكوكب، أو حتى إن كانت كميات المواد التي نستطيع الوصول إليها وتعدينها ستنفد قريباً. بل إن كنا على استعداد لقبول العواقب الاجتماعية والبيئية والجيوسياسية لأسلوبنا الحالي في التعدين، وإن كنا قادرين على تغيير هذه العواقب نحو الأفضل، لأننا قد نستخرج من بعض المواد كميات أكبر بكثير في المستقبل القريب.

حفريات كبيرة

من المتوقع أن يشهد الطلب على المواد الأرضية النادرة زيادة حادة في العقود المقبلة، وترجع هذه الزيادة إلى حدٍّ كبير إلى زيادة الطلب على المغانط المصنوعة من النيوديميوم. عادة ما نصنع هذه المغانط من خليط من النيوديميوم والحديد والبورون مع عناصر أخرى مضافة، وتولد هذه المغانط حقلاً مغناطيسياً أكبر باستخدام كمية أقل من المواد مقارنة بالمغانط الأخرى المتوفرة اليوم.

وعلى حين ترجّح التوقعات أن يتضاعف الطلب على مغانط النيوديميوم 3 مرات خلال العقد المقبل، فإن الإنتاج العالمي من النيوديميوم سيرتفع إلى الضعفين فقط، وذلك وفقاً لشركة أداماس إنتيليجنس (Adamas Intelligence) الاستشارية المتخصصة في المعادن والمواد المعدنية الاستراتيجية. قد نحتاج إلى فترة تصل إلى عقد من الزمن تقريباً لبناء مناجم جديدة، ومن الممكن أن تسهم فترات الإنجاز الطويلة هذه في حدوث أزمة في العرض، وذلك على حد قول المدير المشارك لشؤون المناخ في مجموعة الدراسات المختصة بالبيئة التي تحمل اسم "معهد بريكثرو" (Breakthrough Institute)، سيفر وانغ.

يمكن للفترات القصيرة التي يتجاوز فيها الطلب العرض أن تؤدي إلى تقلبات مختلفة، وارتفاع في الأسعار، وتباطؤ في تطبيق التكنولوجيات الجديدة. وفي وقتٍ يشهد تطورات متسارعة على غرار تحولنا الحالي إلى الطاقة المستدامة، فإن هذه الظروف الاقتصادية الصعبة قد يكون لها تأثيرات بعيدة المدى، ما قد يؤدي إلى ترسيخ التكنولوجيات القديمة وعرقلة التقدم.

لكن على الرغم من هذه التحديات المتَوَقعة وما ينتج عنها من احتمال حدوث تقلبات عشوائية، فمن الناحية النظرية، ثمة الكثير من النيوديميوم المتاح للجميع. إن تسمية المعادن الأرضية النادرة ليست دقيقة تماماً، فمعظمها ليس بهذه الندرة. في الواقع، فإن الكثير من هذه المعادن متوفر في قشرة الأرض بكميات تضاهي كميات النحاس، كما أن النيوديميوم الموجود في قشرة الأرض أكثر شيوعاً بنحو 1,000 مرة من البلاتين أو الذهب.

لكن، على النقيض من هذه المواد، فإن المعادن الأرضية النادرة لا توجد في أغلب الأحيان ضمن مكامن مركزة. ويتطلب الحصول على طن واحد من مركّزات المعادن الخام نقل 1,000 طن من الصخور.

يمكن أن تكون عملية التعدين والتكرير هذه معقدة تقنياً وضارة بيئياً، ويعود هذا جزئياً إلى كون المعادن الأرضية النادرة متشابهة كيميائياً فيما بينها، ما يجعل فصلها دون استخدام مواد كيميائية شديدة التأثير أمراً صعباً، وذلك على حد قول الأستاذة المساعدة في جامعة ديلاوير، جولي كلينغر، التي تدرس السوق العالمية لهذه المواد.

اقرأ أيضاً: لماذا تشهد صناعة استخراج المعادن الأرضية النادرة سباقاً محموماً؟

يعتمد استخلاص هذه المعادن في كثير من الأحيان على إذابة الخامات المسحوقة في حمض قوي. إذا كانت المؤسسات التي تدير هذه المناجم لا تتعامل بعناية مع النفايات والمواد الكيميائية المستخدمة، فقد تخاطر بتلويث مجاري المياه المحلية. غالباً ما يتعين على المؤسسات التي تدير مناجم المعادن الأرضية النادرة أن تتعامل مع النفايات المشعة، لأن بعض العناصر مثل الثوريوم واليورانيوم توجد عادة ضمن المواد المعدنية التي يجري استخراجها من أجل استخلاص المعادن الأرضية النادرة وحولها.

ثمة جهود حالية ترمي إلى إيجاد أساليب للتعدين دون إنتاج مخلفات خطيرة، كما أن إدارات المواقع الجديدة تحاول تطبيق كل ما يمكن تطبيقه من الأساليب في معالجة المواد الأولية المُستخرَجة لاستخلاص أكبر كمية ممكنة من المنتج النهائي منها، وإعادة البقايا إلى عملية التكرير لتقليل الهدر قدر الإمكان. وتعمد إدارات مواقع أخرى إلى دراسة إمكانية الاستفادة من نفايات عمليات التعدين السابقة،

لكن بعض الخبراء يأملون بإعادة النظر بالكامل في الأساليب المتبعة في توفير هذه المواد. فماذا لو درسنا إمكانية استثمار ما استخرجناه سابقاً من الأرض، بدلاً من استخراج مواد جديدة؟

حلقة مغلقة

إذا درسنا مسار دورة حياة الكثير من المواد الشائعة الاستخدام، فمن المرجّح أن نرى خطاً مستقيماً يبدأ عند المنجم ويتجه نحو المنتج، لينتهي في نهاية المطاف في إحدى حاويات القمامة. وفي محاولة لتخفيف المخاوف المتعلقة بالعرض (الإمدادات) والأضرار البيئية، يدعو بعض الخبراء إلى أسلوب جديد في استهلاك المواد، بحيث يركّز على تخفيف الهدر أو التخلص منه تماماً.

من شأن هذا النظام أن يثني الخط الواصل بين المنجم وحاوية القمامة وتحويله إلى شكل جديد، بحيث تبقى المواد المُستخرَجة قيد الاستخدام أطول فترة ممكنة، وربما حتى إلى الأبد. ثمة مجموعة كبيرة من الاستراتيجيات التي تُتيح إطالة عمر المواد، بدءاً من إصلاح المنتجات وتجديدها، وصولاً إلى تفكيكها وإعادة تدوير المعادن الموجودة فيها عندما تصبح هذه المنتجات في حال مزرية إلى درجة تجعل إصلاحها غير ممكن.

ويمكن أن يبدأ هذا قبل وصول المنتج إلى المستهلكين بفترة طويلة حتى، وذلك بالاستفادة إلى أقصى حد من المواد خلال استخراجها من الأرض. يقول الباحث العلمي في مختبر أميس الوطني (Ames National Laboratory)، إيكينا نليبيديم، إن عملية إعادة التدوير تصبح صعبة عند خروج المواد من الشركة وانتقالها إلى داخل الأجهزة والمنتجات المختلفة.

إذا درسنا مسار دورة حياة الكثير من المواد الشائعة الاستخدام، فمن المرجّح أن نرى خطاً مستقيماً يبدأ عند المنجم ويتجه نحو المنتج، لينتهي في نهاية المطاف في إحدى حاويات القمامة.

حالياً، ثمة نسبة صغيرة ويصعب تقديرها كمياً من العناصر الأرضية النادرة التي يجري إنتاجها من خلال إعادة تدوير المنتجات التي وصلت إلى نهاية عمرها الإنتاجي. (وفقاً لتقديرات الكثيرين في هذه الصناعة، تبلغ هذه النسبة تقريباً 1%، على الرغم من قلة البيانات المتاحة حول جمع المعادن الأرضية النادرة، على حد قول نليبيديم). في ظل الزيادة المتوقعة في الطلب، بدأت شركات عدة، بما فيها نوفيون (Noveon) وريسايكل (REEcycle) وسايكليك ماتيريالز (Cyclic Materials)، تعمل على زيادة الإنتاج، واتخاذ الخطوات اللازمة لإطلاق صناعة إعادة التدوير.

عادة ما تمثّل المغانط نسبة صغيرة من الوزن الكلي للمنتج، وهذا أحد التحديات المهمة التي ستواجه الشركات الصاعدة في مجال إعادة تدوير المغانط. فالتفتيش في أكوام من قطع المنتجات للعثور على هذه المغانط نظام ينطوي على الكثير من العيوب، كما أن شركات إعادة تدوير المغانط ستجد نفسها مضطرة للتعامل مع مواد قيّمة أخرى لا تهمها على الإطلاق، وليس لديها عملية فعالة تتيح عزلها.

""
صورة فوتوغرافية تحت ضوء مستقطب لنترات النيوديميوم. مصدر الصورة: غيتي إميدجيز

يقول نليبيديم إنه في المستقبل، قد يتطلب تحسين الجدوى الاقتصادية لعملية إعادة تدوير المعادن الأرضية النادرة توسيع البنية التحتية كي تُتيح إعادة تدوير ما تبقى من أحد الأجهزة. سيُتيح وجود نظام مركزي لتفكيك المنتجات إمكانية استخراج مواد مثل النحاس والذهب ومعادن مجموعة البلاتين، وغالباً ما تكون هذه المعادن موجودة في المنتجات نفسها التي توجد فيها المعادن الأرضية النادرة. يُتيح هذا النظام إعادة استخدام المزيد من المواد الموجودة في نفايات المنتجات مقارنة بما هو ممكن حالياً، حيث تركّز الشركة على المواد الأعلى قيمة والأسهل استخراجاً وترمي ما تبقى إلى جهاز لتفتيت النفايات.

إن بناء نظام أوسع نطاقاً لاستعادة المزيد من المواد يمكن أن يساعد على زيادة الاستقرار في إمدادات المعادن. وقد يقدّم هذا مساعدة كبيرة للغاية إذا كانت المواد التي نعتبرها ذات قيمة في المستقبل مختلفة عن المواد التي نعتبرها ذات القيمة الأكبر اليوم.

اقرأ أيضاً: ما هي المعادن المهمة التي يعتمد العالم فيها على الصين وكيف يتم توريدها؟

تحولات سريعة

تتطور التكنولوجيا بوتيرة متسارعة، فالكثير من المواد البالغة الأهمية بالنسبة لنا حالياً لم يكن حتى قيد الاستخدام منذ قرن مضى.

ويكفي أن ننظر إلى تاريخ منجم ماونتن باس (Mountain Pass Mine)، وهو منجم للمواد الأرضية النادرة في ولاية كاليفورنيا. يقول المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي للعمليات في شركة إم بي ماتيريالز (MP Materials) المالكة للموقع، مايكل روزينثال، إن أهم منتج لهذا المنجم كان يتغير كل 20 عاماً تقريباً منذ بدأ الإنتاج في 1952.

ففي الستينيات، كان ماونتن باس ينتج اليوروبيوم المستخدم في شاشات أجهزة التلفزيون الملونة التي كانت منتشرة في تلك الفترة. وفي العقود التالية كان الهدف الأساسي للإنتاج هو السيريوم، الذي كان يُستخدم في الزجاج المخصص لأجهزة التلفزيون المزودة بأنابيب الأشعة المهبطية. وبعد أن حلّت تكنولوجيات جديدة مثل الشاشات العاملة بالمصابيح الثنائية الباعثة (LED) محل أجهزة التلفزيون المزودة بأنابيب الأشعة المهبطية، تراجع الطلب على السيريوم. حالياً، يركّز عمل المنجم على النيوديميوم والبراسيوديميوم، وهو عنصر آخر يدخل أحياناً في تصنيع المغانط.

لكن حتى مع الجهود الحثيثة التي يبذلها الجيولوجيون للعثور على مناجم جديدة، واندفاع الشركات نحو المباشرة بتأسيس أنظمة إعادة التدوير، يعمل الباحثون من جهة أخرى على جعل المغانط المصنوعة من المواد الأرضية النادرة أقل أهمية بالنسبة إلى مستقبلنا التكنولوجي، أو ربما حتى عديمة الأهمية.

حالياً، تنبع ضرورة استخدام النيوديميوم في هذه المغانط القوية من قدرته على دفع الإلكترونات في الحديد إلى الدوران باستمرار في الاتجاه نفسه، ما يؤدي إلى إنتاج حقل مغناطيسي قوي. لا توجد بدائل أخرى تستطيع مضاهاة مغانط النيوديميوم من حيث الأداء،

لكن قد نحصل على خيارات أخرى قريباً. تعمل شركة نيرون ماغنتيكس (Niron Magnetics) على تصنيع مغانط نتريد الحديد، التي تولد حقلاً مغناطيسياً قوياً دون الحاجة إلى أي معادن أرضية نادرة. افتتحت الشركة أول منشأة تصنيعية لها في أوائل عام 2024، وعلى الرغم من أن منتجاتها لا تستطيع الحلول محل مغانط النيوديميوم العالية الجودة بعد، فليس هناك أي سبب جوهري يمنعها من الوصول إلى هذا المستوى من الأداء في المستقبل. إذا تمكنت نيرون أو غيرها من الشركات من تطوير مغانط جديدة، فقد يعني هذا أن سوق المعادن الأرضية النادرة ستشهد نقلة يمكن أن تبطل أهمية الأنظمة الحالية لإعادة تدوير المغانط وفائدتها.

في عالم مستدام على أكمل وجه، سنستخدم المواد المستخرجة من الأرض، ونعيد استخدامها مراراً وتكراراً إلى أجل غير مسمى. لكن التحولات التكنولوجية والتغيرات التي تشهدها حياتنا قد تجعل من الصعب علينا أن ننهي هذه الدورة حيث بدأت، بحيث تتحول إلى حلقة مغلقة من الاستدامة. وبدلاً من ذلك، قد يتخذ اقتصاد المواد لدينا شكلاً حلزونياً. فالموارد قد لا تنتهي إلى حيث بدأت تماماً، بل إن النظام الذي أسسناه لاستخراج هذه الموارد واستخدامها سيستمر في ملاحقة التقدم التكنولوجي، وربما إلى ما لا نهاية.