فيروس كورونا ينتقل عبر الهواء: ما الذي يعنيه ذلك؟

6 دقائق
فيروس كورونا ينتقل عبر الهواء: ما الذي يعنيه ذلك؟
الصورة الأصلية: كيه 8 عبر أنسبلاش | تعديل: إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

العدوى بفيروس كورونا: يبدو أن مسافة مترين غير آمنة دوماً

كيف تحدث عدوى الإصابة بفيروس كورونا؟ قد تكون الإجابة عن هذا السؤال الآن أسهل بكثير من بداية انتشار الجائحة شهر فبراير الماضي، ونعلم الآن أن فيروس كورونا المستجد ينتقل بشكلٍ مُشابه لفيروسات الأنفلونزا، أي عبر القطرات السائلة التي تخرج من الجهاز التنفسي لجسم الإنسان، وبشكلٍ أساسيّ عبر السعال أو العطس أو حتى الكلام. هذه الحقائق قادت لتوجيهات الصحة العامة للتقليل من انتشار الفيروس وتخفيض احتمالية العدوى، وهي المحافظة على مسافة مترين عند الحديث مع الأشخاص من حولنا وارتداء الكمامات والحرص على غسل اليدين لمدة 20 ثانية.

مع إجراء المزيد من الأبحاث المتعلقة بديناميكية انتشار الفيروس في الأماكن المغلقة التي ثبت حدوث عدوى فيها، تبين أن إجراءات الوقاية المتعلقة بمسافة الأمان لم تكن كافية؛ أصيب 52 شخصاً في أحد تدريبات الجوقات الموسيقية في الولايات المتحدة الأميركية بالفيروس وذلك من قِبل شخص واحد فقط، وأظهرت إحدى الدراسات في الصين كيفية حدوث عدوى بين زوار مطعم بالرّغم من المسافة الكبيرة فيما بينهم، والتي تزيد عن مسافة الأمان المعروفة، أي مترين.

مع تزايد الأبحاث، ازدادت الأدلة التي تشير إلى أن الفيروس يستطيع الانتشار ضمن مسافةٍ أكبر من المتوقع، خصوصاً في الأماكن المغلقة، وهو ما شكل دافعاً لنشوء نقاش وجدلٍ كبير حول كيفية انتشار الفيروس: هل يمكن لفيروس كورونا أن ينتشر عبر الهواء، دون الحاجة للقطرات السائلة كبيرة الحجم -نسبياً- من الجهاز التنفسي؟ وما الذي يعنيه بالضبط أن الفيروس ينتشر عبر الهواء؟ تمت الإجابة عن هذه الأسئلة مؤخراً، وذلك بعد جدلٍ طويل مع منظمة الصحة العالمية التي أصرّت في البداية أن الانتقال الهوائيّ (Airborne Transmission) لفيروس كورونا غير مرجح ومستبعد خارج بيئة المستشفيات، ولكن المنظمة في شهر يوليو الماضي –وبعد تلقي خطاب مفتوح من 239 عالم وباحث من 32 دولة– غيرت من توصياتها وأضافت ملاحظات تشير إلى أن الانتقال الهوائي للفيروس في البيئات المغلقة -خصوصاً ذات التهوية السيئة- هو أمرٌ غير مستبعد، ويمكن اعتباره أحد وسائل انتشار العدوى.

بهذه الصورة، يمكن التعامل مع هذا الأمر -أي إمكانية حصول عدوى عبر الانتقال الهوائي للفيروس- على أنه حقيقة. ولكن ما الذي يعنيه الانتقال الهوائي للفيروس؟ وما الأمور التي تفرضها علينا هذه الحقيقة؟

كلمة واحدة ومعاني كثيرة: الهباب الهوائي Aerosol

لا تستطيع الفيروسات التسبب في عدوى من تلقاء نفسها، بل تحتاج إلى وسيطٍ ينقلها من شخصٍ مُصاب إلى شخصٍ سليم ليُصبح بدوره مصاباً، ويتحول بدوره إلى ناقل جديد. بما أن فيروس كورونا يُصيب الجهاز التنفسيّ للإنسان، فإن الوسيط الأساسيّ الذي يستطيع عبره الانتقال من شخصٍ إلى آخر هو القطرات السائلة التي تخرج من الجهاز التنفسيّ، وهذا يعني القطرات الناتجة عن السعال والعطس وحتى الكلام والتنفس.

تُعد هذه القطرات كبيرة الحجم نسبياً، وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن القطرات السائلة المسببة للعدوى تمتلك حجماً يتراوح ما بين 5 وحتى 10 ميكرون. الفكرة هنا أن هذه القطرات لا تمتلك قدرة على الحركة لمسافاتٍ طويلة، وعادةً ما تقع على الأرض عند مسافة بحدود مترين من الشخص الذي خرجت من مجراه التنفسيّ، وهنا نستطيع أن نفهم السبب الكامن وراء التوصية المتعلقة بمسافة الأمان. ولكن ماذا عن الانتقال الهوائيّ للفيروس؟ هنا يبرز مصطلحٌ الهباب الهوائي (Aerosol).

في مجال ديناميك الموائع والعلوم الجوية، يُستخدم مصطلح الهباب للإشارة إلى جسيمات سائلة ذات أبعاد صغيرة جداً، بحيث تمتلك هذه الجسيمات القدرة على البقاء لفترةٍ طويلة في الهواء قبل أن تقع على الأرض، ويُعد الضباب وغيوم الرذاذ أحد الأشكال الطبيعية للهباب، ويمكن أن يتشكل الهباب بشكلٍ اصطناعيّ، وأشهر الأمثلة على ذلك هي الأجهزة الطبية المستخدمة في علاج الأمراض التنفسية ودعم المرضى.

فيروس كورونا صغير جداً، فهو من حيث المبدأ عبارة عن مادة وراثية محاطة بطبقة شحمية وبروتينات ارتباط سطحية، وبشكلٍ وسطيّ فإن حجم فيروس كورونا هو 0.1 ميكرومتر، وبالتالي فإن القطرات السائلة صغيرة الحجم الخارجة من الجهاز التنفسيّ قادرة على حمله. ليس ذلك وحسب، بل إن جسيمات الهباب التي تمتلك أحجاماً تصل حتى 1 ميكرومتر تستطيع أيضاً حمل فيروس كورونا ونقله في الجو.

إذن من المسؤول الأساسي عن إحداث العدوى؟ هل هي القطرات السائلة “الكبيرة” أم جسيمات الهباب “الصغيرة”؟ في الواقع، هنالك جدلٌ في الوسط العلميّ حول كيفية التمييز بين القطرات السائلة (Droplet) والهباب (Aerosol)، وبالنسبة للبعض، فإنه لا يوجد فرقٌ واضح. ما يهم -من حيث المبدأ- أن هناك دلائل على أن الفيروس يستطيع البقاء والانتقال في الجو لفترةٍ زمنية طويلة نسبياً، والانتقال لمسافاتٍ أطول من مسافة الأمان (أي مترين) خصوصاً ضمن البيئات المغلقة. لا تزال منظمة الصحة العالمية تستخدم بعض الأبعاد للتمييز بين القطرات السائلة وجسيمات الهباب، ولو أن هذا الأمر غير متفق عليه على نطاق واسع في المجتمع العلمي.

أحد الأجوبة عن هذه المعضلة، أي معرفة المصدر الأساسيّ للعدوى، أتى من ليديا بورويبة، الباحثة في مجال ديناميكا الموائع في جامعة إم آي تي. تشتهر ليديا بورويبة باعتبارها إحدى أبرز العالمات والباحثات فيما يتعلق بديناميكية انتشار الأمراض، خصوصاً تلك التي تنتشر عن طريق القطرات السائلة، مثل الرشح. قامت بورويبة بنشر ورقة بحثية في شهر مارس الماضي بينت فيها كيف أنه يمكن ببعض الحالات حدوث عدوى بين شخصين حتى لو كانت المسافة بينهما بحدود 6 أمتار، وهي مسافة يفترض أن تكون أكثر من آمنة، بحيث أن القطرات السائلة التي تخرج من الشخص المصاب لن تتمكن من الوصول إلى الشخص السليم، وبسبب وزنها وخسارتها لطاقتها ستقع معظمها على الأرض عند حدود مترين بينهما.

كشفت بورويبة أن هواء الزفير هو فعلياً عبارة عن سحابة غازية تتضمن داخلها قطراتٍ سائلة ذات أحجام مختلفة، وإذا كان منشأ السحابة الغازية هو العطس، فإنه يمكن لمكونات هذه السحابة أن تتحرك حتى مسافة قدرها 6 أمتار، والأهم من ذلك، فإن العامل الأساسيّ في قدرة مكونات هذه السحابة على الحركة ضمن البيئات المغلقة هي تركيبة السحابة نفسها وليس حجم القطرات، ومضافاً إلى ذلك عوامل أخرى مثل درجة الحرارة والرطوبة. عند أخذ هذه النتائج -مع خلاصات أبحاث أخرى كشفت عن وجود الفيروس ضمن جسيمات الهباب التي تمتلك أبعاداً أقل من 5 ميكرومتر (منظمة الصحة العالمية تعتبر أن المسبب الأساسيّ للعدوى هو قطرات سائلة بأبعاد ما بين 5 حتى 10 ميكرومتر)- فحينها يتأكد لدينا ما أشار إليه العديد من العلماء والباحثين: الفيروس موجود في الهواء، بغض النظر عن التسمية التي تريد أن تستخدمها، سواء كانت قطرات سائلة صغيرة أو جسيمات الهباب.

فيروس كورونا في الهواء وينتقل عبره: ماذا بعد؟

إثبات إمكانية انتشار فيروس كورونا عبر الهباب يعني أمرين أساسيين: الفيروس قادر على البقاء في الجو فترةً زمنية قد تطول حتى عدة ساعات، وهو قادر على الانتقال لمسافاتٍ تتجاوز مسافة الأمان التقليدية، أي مترين. لا يوجد حيزٌ كبير للجدل ضمن هذا السياق؛ لأن الأدلة العلمية المتراكمة حول ذلك أكبر من أن يتم تجاهلها، وذلك كما أشارت مجلة نيتشر المرموقة ضمن مقالٍ مطوّل حول هذا الخصوص.

ما يهمنا هنا هو فهم التداعيات التي ينطوي عليها ذلك: الانتباه من الأماكن أو المواقف التي قد نعتقد أنها غير خطيرة أو آمنة. لو عدنا لمثال الجوقة الموسيقية التي أصيب 52 من أفرادها بفيروس كورونا، فإن ما لم نذكره في بداية المقال هو أن أفراد هذه الجوقة تدربوا لمدة ساعتين ونصف ضمن كنيسة، أي مكان مغلق ومن دون تهوية جيدة. الفكرة هنا أن وجود بعض الأنشطة مثل الحديث والصراخ وحتى الغناء ممكن أن تزيد من كثافة الفيروس في جسيمات الهباب بمعدلٍ كبيرٍ جداً، قد يصل حتى 50 مرة، ومع قدرة هذه الجسيمات الصغيرة البقاء في الهواء فترة طويلة والحركة بحرية -نسبياً- ضمن البيئة المغلقة، فإن هذا يعني أن خطر الإصابة سيرتفع، ومجدداً، حتى لو كانت المسافة بين الأشخاص الموجودين في المكان المغلق هي مترين.

هذا الأمر هامٌ جداً؛ لأننا على أعتاب فصل الشتاء وانخفاض درجات الحرارة، وهو ما سيدفع الأشخاص للبقاء وقتاً أطول في البيئات المغلقة الدافئة، وبالرّغم من كونه أمراً ضرورياً في ظل انخفاض درجات الحرارة، إلا أنه ينطوي على رفع مخاطر العدوى بشكلٍ كبير؛ لا يتطلب انتشار الفيروس عطس أو سعال حاد، بل وجود شخص مصاب وتحدثه لفترة طويلة ضمن مكانٍ مغلق -ولنقل مطعم- سيكون سبباً كافياً للتسبب في عدوى الكثيرين من حوله. لنتذكر هنا أمراً لا يجب إغفاله: هنالك الكثير من الحالات المصابة بالفيروس التي لا تظهر أي أعراض، والأفراد المنتمون لهذه الحالات قادرون على نقل العدوى.

من المهم جداً الإبقاء على توصيات مكافحة انتشار الفيروس: المحافظة على التباعد الاجتماعي، والغسل المطول والمتكرر لليدين، وارتداء الكمامات ضمن البيئات المغلقة. هذا سيكون مسؤولية الأفراد، ولكن الآن ومع ضوء المعلومات حول آليات انتشار الفيروس في الهواء، سيتوجب أيضاً فرض إجراءات إضافية تتعلق بتهوية الغرف وترشيح هوائها بشكلٍ مستمر ودوريّ، خصوصاً في البيئات المكتظة مثل المطاعم والمكاتب وأماكن العمل، حيث يلتقي الكثير من الأشخاص مع بعضهم البعض لفترةٍ زمنية طويلة كل يوم. بمعنى آخر، وطالما أنه لا يوجد لقاح حتى الآن، تتطلب المرحلة المقبلة من مواجهة جائحة كورونا حلولاً تتجاوز التزام الأفراد بالقواعد الصحية؛ هنالك حاجة لإعادة هندسة الأماكن المغلقة لضمان أقل مخاطر عدوى ممكنة، وحتى تعزيز إمكانية العمل عن بعد ما أمكن، وغياب مثل هذه الإجراءات يُهدد بموجةٍ ثانية من الإصابات وما قد ينتهي به الأمر بإغلاقٍ اضطراريّ من جديد لمعظم أشكال الحياة، وهو ما لا يرغب فيه أحد.