شركة ناشئة تدعي أنها أحرزت تقدماً كبيراً في استعادة الشباب لكبار السن

6 دقائق
شركة ناشئة رائدة تدعي أنها أحرزت تقدما كبيراً في استعادة الشباب لكبار السن
حقوق الصورة: shutterstock.com/ideadesign
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لا تقتحم الشرطة أبواب جلسة علمية وتُخرج نصف الجمهور على نحو متكرر.

لكن هذا ما حدث بتاريخ 16 يونيو/ حزيران 2023 في مركز مؤتمرات مدينة بوسطن خلال جولة من العروض التقديمية العلمية التي شارك فيها العالِم المتخصص في تكنولوجيا “التجديد” في شركة ألتوس لابز (Altos Labs) الناشئة السرية والثرية والمتخصصة في مكافحة الشيخوخة، خوان كارلوس إزبيسوا بيلمونتيه.

قاطع ضباط الشرطة تقديم متحدث آخر وأمروا بصوت عالٍ أي شخص لا يجلس على مقعد بالخروج، وذلك بعد أن بدأ حشد كبير بالتزاحم في الممرات بحثاً عن مكان في القاعة لحضور التقديم.

قال مسؤول في المؤتمر لحشد من طلاب الدكتوراة والباحثين في مرحلة ما بعد الدكتوراة الذين تجمّعوا أمام الأبواب بعد إخراجهم من القاعة: “لن تعودوا للداخل”.

حماس غير مسبوق بمعرفة أسرار الشيخوخة

يُظهر هذا الموقف كيف يتصاعد حماس الجمهور بينما يكشف الباحثون عن أسرار الحياة ويدّعي بعضهم، مثل بيلمونتيه، أنهم سيستخدمون التكنولوجيا الجزيئية لتمديد الحياة بقدرٍ كبير في النهاية، بمقدار قد يصل إلى 40 عاماً حسب قوله. 

لم تكن مكافحة الشيخوخة موضوع المؤتمر في بوسطن، بل كان مؤتمراً للمتخصصين في مجال الخلايا الجذعية. يعمل هؤلاء على محاكاة طريقة تطور الخلايا البشرية المتخصصة في أثناء الحمل في المختبر. تتضمن النتائج التي توصل إليها هؤلاء بالفعل عضيّات تنمو لتشكّل أعضاءً تشبه أدمغة الأجنة، والخلايا الشبكية المُصنّعة التي حُقنت في عيون المكفوفين، التي تبدو نتائجها الأولية واعدة. 

مع ذلك، في حين أن الباحثين في مجال الخلايا الجذعية يسعون إلى محاكاة البرامج الجزيئية التي تستخدمها الأجسام لتنمو، فإن الاكتشافات الجديدة يمكن أن تسمح للباحثين بعكس عمليات النمو نفسها، ما قد يمكّنهم من جعل الحيوانات الأكبر أصغر سناً.

قال عالِم أحياء الخلية في جامعة ييل ورئيس الجمعية الدولية للأبحاث الجذعية (International Society for Stem Research) التي نظّمت المؤتمر السابق الذكر، هايفان لِن: “عكس عملية النمو هو الإنجاز الأهم بالنسبة للمهندسين”.

قال لي لِن لاحقاً في ذلك اليوم إن ذلك يفسّر الحضور الصاخب في المؤتمر؛ إذ قال: “أعتذر عن مقاطعة المؤتمر، ولكن يجب أن ننظر إلى المسألة من وجهة نظر أبعد، الاهتمام لهذه الدرجة في هذا المجال هو أمر جيد، وأصبح موضع اهتمام كبير، أكبر مما توقعنا”.

اقرأ أيضاً: هل تنجح أدوية الشيخوخة في إبطاء التقدم بالعمر؟

شركة ألتوس لابز

بعد مشاهدة الحشد الهائج من الباحثين في المؤتمر، ليس مستبعداً حدوث أعمال شغب في الشوارع إذا اكتشف العلماء فعلاً علاجاً للشيخوخة، وهو علاج سيكون باهظ الثمن ومخصصاً للأثرياء في البداية بلا شك.

ما سعى الجمهور لمعرفته بحضور المؤتمر هو ما مدى قرب العلم من التوصّل إلى علاج لعكس التقدم في العمر بالضبط. بالإضافة إلى ذلك، سعى هؤلاء لإلقاء نظرة على إزبيسوا بيلمونتيه، وهو الرائد الأصلع أحول العينين لمفهوم تكنولوجي جديد يهدف إلى عكس الشيخوخة يحمل اسم “إعادة البرمجة الخلوية”.

قاد هذا العالم الإسباني، الذي يظهر عادةً مرتدياً معطفه الرياضي الأزرق المميز، جهوداً بحثية تهدف إلى تجديد شباب أجسام الحيوانات بأكملها أو بعض الأجزاء منها منذ عام 2016، عندما أبلغ أن الفئران المريضة عاشت فترة أطول بـ 30% مما كان متوقعاً بعد تناول مزيج خاص من بروتينات “إعادة البرمجة”.

احتلت أفكاره مكانة بارزة جديدة عام 2020 عندما وُظّف في شركة ألتوس لابز الناشئة التي أسسها عددٌ من المليارديرات بهدف تطوير ما أطلقوا عليه اسم تكنولوجيا التجديد. هذه الشركة، التي جمعت مبلغاً هائلاً قدره 3 مليارات دولار من التمويل، هي من أكثر الشركات الناشئة المموَّلة في مجال الطب الحيوي على الإطلاق، إن لم تكن الأغنى.  

اقرأ أيضاً: نموذج تعلم عميق من جوجل يتنبأ بالإصابة بالشيخوخة البيولوجية من صور شبكية العين

يمكنك التفكير في هذه الشركة على أنها نسخة مجال الطب الحيوي من شركة أوبن أيه آي، شركة البرمجيات التي تُطلق بوتات الدردشة التي تبدو ذكية. مثل أوبن أيه آي، جمعت شركة ألتوس لابز المواهب الفنية والموارد المالية وجذبت اهتماماً هائلاً في سعيها لتطوير التكنولوجيا التي يمكن أن تغيّر المجتمع جذرياً.  

تمتلك هذه الشركة تمويلاً وافراً يكفي للبحث في مجال التجديد والتحكّم بأكثر النهج الواعدة في السوق. أنشأت ألتوس لابز 3 معاهد في كلٍّ من مدينة كامبريدج في المملكة المتحدة ومدينة سان دييغو ومنطقة خليج سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأميركية. تحدّث رئيس معهد كامبردج التابع للشركة، وولف رايك، خلال المؤتمر في بوسطن، وذكر “المبنى الجميل جداً” الذي تشغله الشركة هناك. عرض رايك صورة للموظفين المصطفين في ردهة، ووصفهم بأنهم “أشخاص سعداء يرتدون معاطف المختبر”.

كان رايك يمزح، ولكن ليس تماماً. على عكس الموظفين في الجامعات، لا يُضطر الباحثون في شركة ألتوس لابز إلى تضييع وقتهم في التقدم للحصول على المنح. تدفع الشركة لكبار موظفيها رواتب تبلغ مليون دولار أو أكثر، وتدفع للعلماء المبتدئين ضعف ما يكسبوه عادةً. منشآت هذه الشركة هي مكان يُحسد عليه لإجراء الأبحاث العلمية، ولكنها منشآت لها مهمة تجارية. قال رايك إن مجموعته قدّمت في شهر مايو/ أيار 2023 أول طلب للحصول على براءة اختراع لأحد اكتشافاتها.

عرض بيلمونتيه، الذي يرأس منشأة ألتوس لابز في سان دييغو، الأدلة العلمية المنشورة وغير المنشورة خلال حديثه، وادّعى أن هذه الأدلة تدعم ظاهرة التجديد أو عكس العمر الفعلي للأنسجة.

اقرأ أيضاً: الشيخوخة: مرض أم عملية بيولوجية مسببة للمرض؟ جدل قديم متجدد

إعادة برمجة ما فوق الجينوم

تتعلق هذه الظاهرة بما يُدعى بـ “ما فوق الجينوم”، وهو سلسلة من الضوابط الكيميائية الموجودة في المورثات وحولها التي تفعّل المورثات وتلغي تفعيلها. يمكن للضوابط هذه التحكّم بالمورثات الفردية أو الامتدادات الطويلة من الصبغيات (الكروموسومات)، وتحديد المناطق التي يمكن تعديلها ولف المناطق الأخرى وتكديسها بإحكام، مثل سماعات الأذن المحشورة في عمق الجيب.  

يقول بيلمونتيه إنه يعتقد عموماً أن “الخلل التنظيمي” في أنظمة التحكم هذه هو العملية الأساسية التي تكمن وراء الشيخوخة والعديد من الأمراض.

درس بيلمونتيه طريقة يمكن وفقها إعادة ضبط ما فوق الجينوم تحمل اسم “إعادة البرمجة” بهدف تجديد الخلايا بنجاح. وخلال الحديث الذي قدّمه في المؤتمر، عرض بسرعة أمثلة تُبيّن كيف تصبح الخلايا التي أُعيدت برمجتها أكثر مرونة في مواجهة الإجهاد والتلف، وكيف تتتبع سلوكاً يجعلها تبدو وكأنها أصغر عمراً عموماً.

على سبيل المثال، قال بيلمونتيه إن الخبراء في مختبره منحوا الفئران في إحدى التجارب جرعات عالية جداً من مسكن الألم الأسيتامينوفين تُعد قاتلة عادةً. مع ذلك، بقي نصف الفئران على قيد الحياة بعد تلقي علاج إعادة البرمجة، الذي يتألف من بروتينات خاصة تحمل اسم عوامل ياماناكا. يقول بيلمونتيه: “قللنا معدل الوفيات بنسبة 50% تقريباً”.

اقرأ أيضاً: استراتيجية جديدة لإبطاء الشيخوخة تجتاز أول اختبار لها هذا العام

يصف بيلمونتيه أيضاً بعض التجارب التي منح الباحثون فيها الفئران الطافرة الطعام الغني بالدهون. أُصيبت هذه الفئران بالسمنة، بينما لم تعانِ تلك التي تناولت علاج إعادة البرمجة لفترة قصيرة من هذه الحالة. يقول بيلمونتيه إنه هذه العملية يمكن أن “تقي من زيادة نسبة الأنسجة الدهنية” بطريقة ما.

كيف يمكن أن تكون لإعادة البرمجة تأثيرات مختلفة جداً ولكنها مفيدة جداً بالنسبة للفئران؟ هذا هو اللغز الذي يسعى بيلمونتيه إلى حله؛  إذ قال: “يمكنني أن أستمر في الحديث عن الأمثلة التي استخدمناها في المختبر خلال السنوات الماضية. وعليكم أن تتفقوا معي في أن هذه النتائج غريبة بعض الشيء، أي يوجد دواء واحد يعالج كل تلك الحالات”.

هل هذا الدواء هو ما يقابل مياه ينبوع الشباب؟ لا يزال العديد من الباحثين متشككين، ويقول البعض إن ادعاءات بيلمونتيه الكبيرة يجب أن تترافق مع المزيد من الأدلة. حذّر عالم الأحياء، لويس مونتوليو، على موقع تويتر من “الضجيج الإعلامي غير المبرر”، وقال إنه يجب على الباحثين “الانتظار لرؤية” المنشورات العلمية.

اقرأ أيضاً: هل يستطيع الطب أن يقضي على الشيخوخة؟

الحمض النووي غير المشفِّر

بينما أبقت الشرطة المتفرجين بعيداً عن باب القاعة، قدّم بيلمونتيه أدلة على ما يدّعي أنه طريقة جديدة لتجديد الشباب، وهي طريقة تسعى شركة ألتوس إلى تطويرها أيضاً.

يعتقد بعض الباحثين أن الشيخوخة يمكن أن تُفقد الخلايا القدرة على التحكّم ببعض ممّا يدعى بالحمض النووي غير المشفِّر الذي يشكّل 45% من جينوم البشر. هذا الحمض النووي هو من بقايا المورثات التي تحمل اسم المورثات القابلة للنقل، أو المورثات القافزة، التي تستطيع نسخ نفسها على نحو مشابه للفيروسات قليلاً.  

لا يزال دور هذه العناصر الوراثية الطفيلية مجهولاً، ولكنها قد تكون مفيدة من بعض النواحي؛ إذ إنه من المحتمل أنها ساعدت البشر على التطوّر من خلال وصل القطع من الشفرة الوراثية. مع ذلك، يعتقد بعض العلماء أيضاً أنها تتسبب بالمشكلات الصحية.

يقول لِن، الذي درس مختبره كيف تحاول خلايا الجسم باستمرار قمع نشاط المورثات القابلة للنقل: “هذا الحمض النووي مفيد في بعض النواحي، لكن يبدو حتى الآن أنه ضار في الغالب”.

من المعروف أن قدرتنا على كبح هذه المورثات تتراجع تدريجياً مع التقدُّم في العمر، ويعود ذلك لعدة أسباب مثل التغيّرات فيما فوق الجينوم الذي يساعد على إبقاء هذه المورثات تحت السيطرة. يصف بعض الباحثين أن هناك معركة شبه مستمرة في الجسم بين المورثات القافزة وما فوق الجينوم، وهي معركة تبدأ الخلايا بخسارتها بمرور الزمن. 

اقرأ أيضاً: المهتمون بإطالة العمر يسعون إلى تأسيس دولة خاصة بهم: تعرف إلى التفاصيل

أخبر بيلمونتيه الجمهور أنه استخدم العقاقير الوراثية لكبح المورثات القافزة اصطناعياً بهدف اختبار الصلة بينها وبين ما فوق الجينوم، وحاول كبح مورثة تحمل اسم إل آي إن إي-1 على وجه الخصوص، وهي مورثة تمثّل وحدها نحو 18% من الشيفرة الوراثية البشرية.  

يدعي بيلمونتيه أنه قادر على الحصول على نتائج التجديد المشابهة جداً لتكنولوجيا إعادة البرمجة في هذه العملية. على سبيل المثال، ووفقاً لبيانات غير منشورة، يقول بيلمونتيه إنه يمكن “تجديد” غضاريف الفئران إمّا من خلال إعادة البرمجة وإمّا كبح تأثيرات المورثات القابلة للنقل.

يجب تأكيد هذه الادعاءات الكبيرة، لكن أحد العلماء الذين تحدثت إليهم قال إنه يعتقد أن بيلمونتيه يعمل في مجال أعقد مما يعتقد. يقول الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومعهد وايتهيد، رودولف يينِش: “يتعرّض الباحثون في شركة ألتوس لابز لضغطٍ كبير من أجل الإنجاز. لكن من الواضح أن بيلمونتيه يفكّر في الأسئلة الصحيحة. لا يحظى تأثير هذه المورثات القابلة للنقل في الشيخوخة والجينوم بالاهتمام الكافي”. 

هل اقتربت شركة ألتوس لابز من تطوير تدخّل دوائي مضاد للشيخوخة يحرّك عقارب ساعة العمر إلى الوراء؟ هذا ليس معروفاً حتى الآن، وهذا صحيح بصورة خاصة بالنسبة للعلماء الذين لم يتمكنوا من حضور المؤتمر الذي تحدّث فيه بيلمونتيه. 

شعر لِن بخيبة الأمل لأن المؤتمر فاته عندما علم ما ناقشه بيلمونتيه، إذ قال: “أتمنى لو حضرت هذا المؤتمر، ولكن كان هناك عدد كبير من الناس في القاعة، ما انتهك القواعد الخاصة بالحرائق”.