كيف تهيمن الشركات التكنولوجية الكبرى على مشهد الذكاء الاصطناعي؟

7 دقيقة
كيف تهيمن الشركات التكنولوجية الكبرى على مشهد الذكاء الاصطناعي؟
مصدر الصورة: جاستن سوليفيان. غيتي إيميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قبل أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، عندما انكشفت قصة انهيار مجلس إدارة أوبن أيه آي (OpenAI)، كان من الممكن التماس العذر للمراقب العادي إذا افترض أن مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي يُعد بيئة عمل تضج بالحيوية والمنافسة، لكن هذا ليس صحيحاً، ولم يكن صحيحاً قط. ومن المهم للغاية أن نفهم السبب، حتى نستوعب ماهية الذكاء الاصطناعي، والأخطار التي يحملها. ببساطة، وفي سياق النموذج الحالي المتبع القائم على السعي نحو بناء أنظمة ذكاء اصطناعي أكبر وأوسع نطاقاً، لا يمكن أن نفصل الذكاء الاصطناعي عن الشركات التكنولوجية الكبيرة. وباستثناء حالات قليلة للغاية، فإن الشركات الناشئة والأطراف الجديدة وحتى مختبرات أبحاث الذكاء الاصطناعي تعتمد جميعاً على هذه الشركات. وتستعين هذه المؤسسات جميعها بالبنى التحتية الحاسوبية لشركات مايكروسوفت وأمازون وجوجل لتدريب أنظمتها، كما تعتمد على انتشارها الواسع في الأسواق الاستهلاكية لإطلاق منتجاتها التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وبيعها.

الشركات الناشئة تعمل اعتماداً على منتجات تبنيها الشركات الكبرى

وبالفعل، يعمد الكثير من الشركات الناشئة، ببساطة، على ترخيص نماذج الذكاء الاصطناعي التي تبنيها هذه الشركات التكنولوجية العملاقة -أو شركاؤها من الشركات الناشئة- وتبيعها، ما يُتيح لها وضع علامة تجارية جديدة على هذه النماذج. ويُعزى هذا إلى أن الشركات التكنولوجية الكبرى تمكنت من تحقيق أفضليات كبيرة على مدى العقد المنصرم. فقد نجحت هذه الشركات في امتلاك العناصر الضرورية لتطوير الذكاء الاصطناعي وتطبيقه على نطاقٍ واسع، وذلك بفضل هيمنتها على المنصات، ونموذج الأعمال الذي يعتمد على المراقبة، والذي يعزز قدرات هذه الشركات. إضافة إلى ذلك، تعمل هذه الشركات على تشكيل هياكل بنيوية تحفيزية من أجل البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي، لتحدد بذلك ملامح الحاضر والمستقبل لهذه التكنولوجيا.

وتمثّل الحادثة الأخيرة في أوبن أيه آي، التي فرضت فيها مايكروسوفت هيمنتها بهدوء وحزم على الشركة “المحدودة الربح” التابعة لها، إثباتاً دامغاً على صحة التحليلات التي أُجرِيَت على امتداد السنوات الخمس الماضية. باختصار، وبدقة أكبر: مَن يمتلك المال يفرض القواعد. حالياً، تخوض هذه الشركات منافسة محمومة في تقديم المنتجات بأقل الأسعار من خلال التضحية بالمعايير والجودة، حيث تُطلق الأنظمة قبل أن تصبح جاهزة تماماً، في محاولة للحفاظ على مكانتها وهيمنتها.

اقرأ أيضاً: كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي التوليدي الطريقة التي نتسوق بها عبر الإنترنت؟

حلقة مفرغة

لكن تركيز النفوذ في أيدي الأقلية ليس مشكلة بالنسبة للأسواق وحسب؛ فالاعتماد على عدد قليل من الجهات الفاعلة من الشركات غير الخاضعة للمساءلة في تصميم البنية التحتية الأساسية يمثّل مشكلة بالنسبة للديمقراطية، والثقافة، والوكالة الفردية والجماعية. وفي حال بقي الوضع على ما هو عليه دون تدخل حاسم، فسوف ينتهي المطاف بسوق الذكاء الاصطناعي إلى تقديم الأرباح والدعم إلى الشركات ذاتها التي جنت الأرباح بالاعتماد على نموذج الأعمال القائم على المراقبة التي تنتهك الخصوصية، والذي يمثّل أساس الإنترنت التجارية، وعلى حساب العامة في أغلب الأحيان.

وليست فضيحة شركة كامبريدج أناليتيكا (Cambridge Analytica) سوى مثال واحد من بين الكثير من الأمثلة التي كشفت عن هذا الواقع المشبوه. يؤدي تركيز النفوذ لدى الشركات على هذا النحو إلى تركيز المشكلات المحتملة في مواضع محددة يمكن أن تؤدي إلى آثار واسعة الانتشار، ما يُثير تهديدات أمنية جدية للغاية. وقد حذّر رئيس مجلس إدارة هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، غاري غينسلر، من أن اعتماد بيئة عمل الذكاء الاصطناعي على عدد صغير من نماذج الذكاء الاصطناعي والأطراف التي تعمل في هذا المجال يشكّل مخاطر منهجية على النظام المالي، حيث يمكن أن يؤدي خطأ واحد إلى مشكلات واسعة النطاق.

لقد أدّت فكرة اعتماد الذكاء الاصطناعي على تركيز النفوذ لدى عدد محدود من الأطراف في المجال التكنولوجي، ومساهمته في تفاقم هذه المشكلة، إلى ظهور حركات وجهود مناهضة لهذا الأمر في أغلب الأحيان. فالمستثمرون الذين سارعوا إلى الانتقال من شبكة الإنترنت العاملة بتكنولوجيا “ويب 3” إلى الميتافيرس ثم إلى الذكاء الاصطناعي يسعون إلى تحقيق عائدات في بيئة عمل تؤدي فيها دورات الضجيج الإعلامي المحموم إلى رفع قيم الشركات وتحويلها إلى أرباح من خلال عمليات الاستحواذ والطرح الأولي العام للأسهم، حتى لو بقيت وعود التكنولوجيا المعنية دون تحقيق.

اقرأ أيضاً: أوبن إيه آي تعمل على مبادرة لمنع الذكاء الاصطناعي الفائق من الخروج عن سيطرة البشر

نفوذ الشركات الكبرى ومشهد الذكاء الاصطناعي

لكن محاولة إبعاد المشاركين في تأسيس أوبن أيه آي سام ألتمان وغريغ بروكمان، وإعادتهما إلى منصبيهما لاحقاً، لا تبرز السلطة والنفوذ اللذين تتمتع بهما مايكروسوفت بوضوح شديد وحسب، بل تثبت فكرتنا التي تقول إن هذه الترتيبات التجارية تمنح الشركات التكنولوجية الكبيرة سيطرة واسعة على مسار الذكاء الاصطناعي. القصة في غاية البساطة، فبعد أن فوجئت مايكروسوفت بقرار مجلس الإدارة، على ما يبدو، قررت أن تتخذ إجراءاتها لحماية استثمارها وخارطة الطريق التي تسير بالشركة نحو تحقيق الأرباح. وسرعان ما ألقت مايكروسوفت بثقلها في الموضوع، وأعلنت دعمها لألتمان، ووعدت “بالاستحواذ التوظيفي” على أي شخص كان يرغب في ترك أوبن أيه آي.

والآن، تشغل مايكروسوفت مقعداً في مجلس إدارة أوبن أيه آي، وإن كان مقعداً مجرداً من صلاحية التصويت. لكن النفوذ الحقيقي الذي تتمتع به الشركات التكنولوجية الكبرى ضمن مشهد الذكاء الاصطناعي هو مزيج من الإمكانات الحاسوبية، والبيانات، والانتشار الواسع في الأسواق. فقد عقدت أوبن أيه آي اتفاقاً حتى تتمكن من تطوير الذكاء الاصطناعي وفق أسلوب يعتمد على بناء نماذج أضخم لتقديم أداء أفضل. حيث رخصت نظام جي بي تي 4 (GPT-4) ونماذجها الأخرى جميعها لمصلحة مايكروسوفت حصرياً، مقابل استخدام البنى التحتية للحوسبة لدى مايكروسوفت.

وبالنسبة للشركات التي تأمل في بناء نماذج أساسية، ليس هناك مفر من العمل مع مايكروسوفت أو جوجل أو أمازون. هذه الحقيقة واضحة بالنسبة للأشخاص الذين يعملون في مركز مشهد الذكاء الاصطناعي، كما تثبت لنا مساعي سام ألتمان السرية للحصول على استثمارات سيادية سعودية وإماراتية لتأسيس شركة تجهيزات حاسوبية يمكن أن تنافس شركة إنفيديا (Nvidia). فقد حققت هذه الشركة احتكاراً شبه كلي على أحدث الرقاقات الإلكترونية المستخدمة في تدريب الذكاء الاصطناعي، وغير ذلك من المراحل الرئيسية ضمن سلسلة التوريد للذكاء الاصطناعي. وقد بادرت السلطات الأميركية منذ ذلك الحين إلى تحويل استثمار أولي للمملكة العربية السعودية إلى شركة يدعمها ألتمان، وهي شركة رين أيه آي (RainAI)، ما يزيد من الصعوبات التي تواجهها أوبن أيه آي في التعامل مع سوق الرقاقات الإلكترونية، التي وصل فيها تركيز النفوذ إلى درجات أعلى مما في حالة الذكاء الاصطناعي.

اقرأ أيضاً: كيف أثّر الصراع الأخلاقي حول سلامة الذكاء الاصطناعي في إقالة سام ألتمان من منصبه؟

صعوبة العثور على بدائل للشركات التكنولوجية الكبرى

ليس هناك الكثير من البدائل الواقعية الأخرى، حتى بالنسبة للراغبين في بذل جهود إضافية لبناء نظام ذكاء اصطناعي على نحو مستقل عن المؤسسات المهيمنة على هذا المجال. وكما أوضحنا سابقاً، فإن “الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر” -وهو مصطلح مشوش يُستخدم حالياً لتوصيف أشياء مختلفة عديدة، بدءاً من نموذج لاما 2 (LLaMA-2) لشركة ميتا (Meta)، الذي يتسم بالدرجة نفسها من الانغلاق، وصولاً إلى سلسلة بيثيا (Pythia) من مجموعة إليوثر (Eleuther) البحثية، التي تتسم بأعلى درجات الانفتاح- لا يستطيع منفرداً، إحداث أثر كافٍ للإفلات من قبضة الشركات التي تسيطر على هذا المجال. فمن ناحية، يعتمد الكثير من مشاريع الذكاء الاصطناعي المفتوحة المصدر على نقاط الحوسبة، ومشاركة العائدات، وغيرها من الاتفاقات التعاقدية مع الشركات التكنولوجية العملاقة التي تعاني النوع نفسه من المشكلات البنيوية الناجمة عن الاعتماد على أطراف أخرى. إضافة إلى هذا، تمتلك الشركات التكنولوجية الكبيرة تاريخاً حافلاً باستثمار عمليات التطوير المفتوح المصدر لجني الأرباح أو محاولة جنيها بوسائل مختلفة. يمكن للذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر أن يوفّر الشفافية، وقابلية الاستخدام المتكرر دون قيود، وقابلية الانتشار، وكلها عوامل إيجابية. لكنه لا يستطيع حل مشكلة تركيز النفوذ في سوق الذكاء الاصطناعي.

لنموذج زيادة الأرباح الكلمة العليا

تثبت حادثة أوبن أيه آي – مايكروسوفت صحة فكرة تضيع في أغلب الأحيان في خضم الضجيج الإعلامي الذي يحيط بالذكاء الاصطناعي، وهي أنه لا يوجد نموذج أعمال واضح حتى الآن باستثناء زيادة الأرباح الناتجة عن خدمات السحابة الإلكترونية للشركات التكنولوجية الكبيرة، وذلك من خلال ربط خدمات الذكاء الاصطناعي مع البنى التحتية للسحابة الإلكترونية. ويمثّل نموذج الأعمال عنصراً مهماً عند التحدث عن أنظمة يمكن أن يكلف تدريبها وتطويرها مئات الملايين من الدولارات.

ولا يقتصر هذا الأسلوب في العمل على مايكروسوفت: فعلى سبيل المثال، تدير أمازون سوقاً لنماذج الذكاء الاصطناعي، حيث تعمل منتجات هذه السوق جميعها، إضافة إلى بعض الأسواق الأخرى، باستخدام خدمات الويب من أمازون. مؤخراً، أبرمت الشركة صفقة استثمارية بقيمة تصل إلى 4 مليارات دولار مع شركة أنثروبيك (Anthropic)، التي تعهدت أيضاً باستخدام الرقاقة الحاسوبية الخاصة بأمازون، تراينيوم (Trainium)، التي صُمِّمَت لبناء أنظمة الذكاء الاصطناعي الضخمة.

اقرأ أيضاً: أين وصلنا في سباق وضع قواعد لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي؟

وقد أصبحت الشركات التكنولوجية الكبرى أكثر حسماً في مناوراتها الهادفة إلى حماية هيمنتها على السوق. يتعين علينا هنا أن نعترف بالوقائع، فعلى الرغم من أن أوبن أيه آي كانت في مرمى النيران هذه المرة، فقد رأينا جميعاً ما يحدث لكيان صغير عندما تقرر شركة كبيرة يعتمد عليها هذا الكيان أن تستخدم نفوذها، ما سيدفع بالجميع إلى التزام الحذر والتخلي عن أي تفكير بالخروج عن طاعة هذه الشركات الكبيرة.

قد تكون القوانين مفيدة في مواجهة هذه المشكلة، لكن السياسات الحكومية تؤدي في أغلب الأحيان إلى تعزيز نفوذ هذه الشركات بدلاً من تخفيفه، وذلك لما تمتلكه هذه الشركات من أموال وتأثير سياسي. تمثّل إجراءات مايكروسوفت التي اتخذتها مؤخراً في المملكة المتحدة مثالاً واضحاً: فقد أعلنت مؤخراً استثماراً بقيمة 2.5 مليار جنيه إسترليني في إنشاء البنى التحتية السحابية في المملكة المتحدة، وهو إجراء نال استحسان رئيس الوزراء البريطاني الذي أعرب بوضوح عن طموحه في بناء قطاع ذكاء اصطناعي محلي في المملكة المتحدة، حيث سيمثّل هذا السعي إرثه الرئيسي في هذا المنصب. لا يمكن أن نقرأ هذه الأخبار بمعزل عن غيرها، فهي محاولة واضحة للجم التحقيقات التي تجريها السلطات المسؤولة عن تنظيم المنافسة في المملكة المتحدة حول سوق الخدمات السحابية، وذلك على إثر دراسة عبّرت عن مخاوف محددة للكثير من الأطراف في السوق تجاه سلوكيات مايكروسوفت المنافية لقواعد المنافسة.

اقرأ أيضاً: جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تغيّر مشهد النماذج اللغوية الكبيرة في المنطقة

لقد بدأنا نرى محاولات أكثر حسماً وتأثيراً للشركات التكنولوجية الكبيرة لتعزيز هيمنتها من خلال استغلال نفوذها الهائل الاقتصادي والسياسي، بدءاً من تهديد أوبن أيه آي بالخروج من الاتحاد الأوروبي (وهو تهديد تبين أنه فارغ في نهاية المطاف) بسبب قانون الذكاء الاصطناعي، وصولاً إلى سعي مايكروسوفت لإقرار الترخيص المشروط، الضغوط التي مارستها ميتا لاستثناء الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر من شروط المسؤولية الأساسية، والحملة التي موّلتها الشركات التكنولوجية الكبيرة لزرع المقربين منها في الكونغرس.

وقد بدأت الشركات التكنولوجية الكبيرة تستعد للتعاون على خوض مواجهات جديدة مع بدء إصدار تشريعات جديدة من البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي وغير ذلك. لكن من الواضح أننا سنحتاج إلى أكثر من هذا بكثير. لقد حان الوقت لفرض نظام مسؤولية فعلي وصارم يمنح الأولوية للصالح العام بدلاً من وعود شركات غير معروفة بالتزامها بهذه الوعود.

نحن في حاجة إلى قوانين صارمة تخصُّ الشفافية للتخلص من الغموض الذي يحيط بالقضايا الأساسية، مثل البيانات التي تستغلها شركات الذكاء الاصطناعي في تدريب نماذجها. كما نحتاج أيضاً إلى أنظمة مسؤوليات تضع عبء المسؤولية على الشركات من حيث إثبات تحقيقها للحد الأدنى من المعايير المتعلقة بالشفافية، والأمان، والتحيز، قبل طرح منتجاتها بين العامة. وإذا أردنا البدء بالتعامل مع مشكلة تركيز النفوذ، نحتاج إلى لوائح تنظيمية جريئة ترغم الشركات على الفصل بين الطبقات المختلفة لأنظمة الذكاء الاصطناعي، ولا تسمح للشركات التكنولوجية الكبيرة باستغلال هيمنتها على البنى التحتية لتعزيز موقعها في سوق نماذج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته.

اقرأ أيضاً: كيف جعل تشات جي بي تي شركة أوبن أيه آي لاعباً مهماً في مجال الذكاء الاصطناعي

لكن، إذا استمرت الحكومة بصياغة سياساتها بناءً على مصالح المجموعة الصغيرة نفسها من الشركات في هذا المجال، فلن نحقق الكثير. بعد الأحداث التي شهدناها مؤخراً، أصبح من الواضح للجميع ما المصلحة الأساسية التي توجّه عمل هذه الشركات، وهي أرباحها.