كيف يمكننا الحفاظ على تاريخنا الرقمي من الضياع؟

19 دقيقة
كيف يمكننا الحفاظ على تاريخنا الرقمي من الضياع؟
مصدر الصورة: مايك ماكوايد

ملخص: تنوعت طرق تخزين البيانات في عصرنا الراهن إلى الحد الذي لم تعد فيه عملية التخزين مشكلة أبداً، لكن وفرة الطرق لا تعني الأمان أبداً، فقد شهدنا العديد من الحالات التي حدثت فيها إزالة كاملة لمعلومات منشورة على منصة ما، كما حدث مع "ماي سبيس" في البيانات المنشورة قبل عام 2016. وهذا مُتوقع، فمنصات كفيسبوك، وإكس، وغيرها. وطرق التخزين السحابي ستزول، وبأسرع مما نتخيل بسبب التقلبات التكنولوجية الشديدة التي نشهدها اليوم. يعمل الخبراء اليوم على تطوير أساليب تخزين للبيانات وحمايتها لتدوم أطول فترة ممكنة، منها شريحة سيليكا تُنقش عليها البيانات وتكون قابلة للقراءة، أو على فيلم صنعته شركة بيكل (Piql)، مطلي ببلورات مجهرية من هاليد الفضة (silver halide) يزعم مبتكروه أنه يستطيع أن يدوم أكثر من 500 عام، وموجود في مخزن سفالبارد. لكن تبرز الحاجة إلى معرفة ما يجب تخزينه تماماً في ضوء الكم الهائل الذي ننتجه من البيانات.

ثمة صورة أحبها لابنتي. وفي هذه الصورة، تجلس باسمة في حديقتنا الخلفية القديمة، ويداها الغضتان تمتدان إلى العشب الرطب. تعود هذه الصورة إلى عام 2013، عندما كانت تبلغ من العمر عاماً واحداً تقريباً، وقد جرى التقاطها باستخدام كاميرا رقمية قديمة من إنتاج شركة سامسونج (Samsung). في البداية، خزنت هذه الصورة في كمبيوتر محمول، قبل أن أنقلها إلى محرك خارجي ضخم للأقراص الصلبة.

وبعد ذلك بأعوام عديدة، رفعت الصورة إلى السحابة الإلكترونية عبر خدمة صور جوجل أو "جوجل فوتوز" (Google Photos). وعندما أفتش عن كلمة "عشب" (grass)، تعرض عليّ خوارزمية جوجل هذه الصورة. هذه الصورة تدفعني إلى الابتسام على الدوام.

وأنا أدفع لشركة جوجل رسماً شهرياً قدره 1.79 جنيه إسترليني للحفاظ على ذكرياتي. هذا مستوى عالٍ للغاية من الثقة التي أضعها في شركة تأسست منذ 26 عاماً فقط. لكن يبدو أن المتاعب التي توفّرها علي هذه الشركة تستحق هذه التكلفة. أصبحت ممتلكاتنا الرقمية كثيرة حالياً. الإدارة اللازمة لمواصلة تحديث هذه الممتلكات وتخزينها بأمان تمثل مهمة شاقة.

لم يعانِ والداي من هذه المشكلة، فقد كانا يلتقطان بعض الصور لي من حين إلى آخر باستخدام كاميرا تعتمد على فيلم، ويواظبان بانتظام على طباعتها كل فترة على الورق، ويضعانها في ألبوم للصور. ما زالت هذه الصور صالحة للمشاهدة حتى الآن، بعد 40 عاماً تقريباً، وهي مطبوعة على ورق تصوير مصفر بهت لونه، ولا يتجاوز عددها بضع صور لكل عام من هذه الأعوام.

ما زال الكثير من ذكرياتي من العقود اللاحقة مثبتاً على الورق أيضاً. فالرسائل التي تلقيتها من أصدقائي عندما كنت أسافر إلى بلدان أخرى في العشرينيات من العمر كانت مكتوبة باليد على ورق مسطر. ما زلت أحتفظ بهذه الرسائل محشورة في صندوق أحذية، وهي تمثّل سجلاً مسلياً لوقت أمضيته دون اتصال بالإنترنت.

لم يعد لدينا مثل هذه القيود المفروضة على مساحة التخزين. فهاتفي الآيفون يلتقط الآلاف من الصور كل عام، كما أن منشورات الصفحات الرئيسية على حساباتنا في إنستغرام (Instagram) وتيك توك (TikTok) تخضع لتحديث دائم. يبلغ مجمل ما نرسله مجتمعين المليارات من الرسائل عبر واتساب والرسائل النصية ورسائل البريد الإلكتروني والتغريدات (عبر منصة إكس المعروفة سابقاً باسم تويتر).

اقرأ أيضاً: كيف تضمن أمان بياناتك الحساسة عند استخدام التخزين السحابي؟

بيانات وافرة لكنّ إزالتها سهلة

لكن على الرغم من أن هذه البيانات وافرة، فإنها أيضاً مؤقتة معرضة للزوال. فيوماً ما، وربما في المستقبل غير البعيد، لن تكون منصة يوتيوب موجودة، وقد تضيع مقاطع الفيديو عليها إلى غير رجعة. أمّا منصة فيسبوك، فستختفي، وستختفي معها منشورات من اعتاد من أحبائك مشاركة اللحظات التي يقضونها في أيام العطلة. وقد حدث هذا من قبل. حيث حذفت منصة ماي سبيس (MySpace)، وهي أول شبكة اجتماعية واسعة النطاق، كل ما حمله المستخدمون عليها قبل عام 2016 من صور ومقاطع فيديو وملفات صوتية، في خطوة تبدو غير مقصودة. كما اختفت شرائح كاملة من مجموعات الأخبار على منصة يوزنيت (Usenet)، التي كانت موطن بعض من أقدم المحادثات عبر الإنترنت، حيث توقفت عن العمل إلى الأبد وتلاشت من التاريخ. وفي شهر يونيو/حزيران من هذا العام، اختفى محتوى أكثر من 20 عاماً من العمل الصحافي في مجال الموسيقى عندما أزالت الشركة المالكة السجلات الأرشيفية لمحطة إم تي في نيوز (MTV News) التلفزيونية من الموقع الإلكتروني.

بالنسبة إلى الكثيرين من مختصي الأرشفة وجمع السجلات، فإن خطوة كهذه تدعو إلى قرع ناقوس الخطر. ويسعى هؤلاء، في أرجاء العالم كافة، إلى جمع ما أمكن من البيانات من مواقع الويب التي لم يعد لها وجود أو مجموعات البيانات المعرضة للخطر، للاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من حياتنا الرقمية. ويعمل آخرون على إيجاد وسائل لتخزين هذه البيانات باستخدام صيغ وتنسيقات تدوم مئات الأعوام، وربما حتى آلاف الأعوام.

تُثير هذه الجهود والمساعي بعض الأسئلة المعقدة. ما هي الأشياء المهمة بالنسبة لنا؟ وكيف نقرر ما يجب الاحتفاظ به وما يمكن أن نتخلى عنه؟ ولأي أسباب؟

وكيف ستتمكن أجيال المستقبل من فهم ما تمكنا من حفظه؟

تقول الباحثة المختصة بعلم الأنثروبولوجيا، جينيفيف بيل: "مرحباً بكم إلى التحدي الذي يواجهه كل مؤرخ وعالم آثار وروائي. كيف سنفهم ما تبقى أمامنا؟ وبعد ذلك، كيف يمكن أن نتفادى قراءته من خلال عدسة الحاضر؟"

الفرصة الأخيرة

ما ننتجه من المحتوى اليوم يفوق ما أنتجناه في أي وقت مضى على مر التاريخ. ففي مؤتمر آي أو (I/O) الذي نظمته شركة جوجل هذا العام، قال الرئيس التنفيذي للشركة، سوندار بيتشاي، إن خدمة جوجل فوتوز تشهد تحميل أكثر من 6 مليارات صورة ومقطع فيديو يومياً. كما يجري إرسال أكثر من 40 مليون رسالة عبر واتساب في الدقيقة الواحدة.

لكن على الرغم من كثرة البيانات التي ننتجها، فإنها أكثر عرضة للتلاشي من أي وقت مضى. فمن الممكن أن تحترق الكتب في حريق نشب بالصدفة في مكتبة، غير أن حذف البيانات إلى الأبد أسهل بكثير. وقد شهدنا حدوث هذا الأمر، ولا يقتصر هذا على حوادث وقعت بالصدفة مثل حذف ملفات ماي سبيس، بل يمكن أن يحدث هذا عمداً في بعض الأحيان.

ففي 2009، أعلنت شركة ياهو (Yahoo) أنها ستوقف منصة استضافة مواقع الويب جيوسيتيز (GeoCities) عن العمل، معرّضة الملايين من صفحات الويب المبنية بعناية إلى الخطر. وعلى حين قد يبدو معظم هذه الصفحات تافهاً وبلا قيمة، فقد كانت منصة جيوسيتيز مشهورة بطابعها الجمالي الأقرب إلى تصاميم الهواة، والذي يوحي ببدايات عصر الويب، وصفحاتها المخصصة للعديد من المجموعات وأصحاب الهواجس ومجموعات المعجبين، حيث تمثّل هذه الصفحات المرحلة المبكرة من الويب، وهي مرحلة أوشكت على الاختفاء إلى الأبد.

اقرأ أيضاً: لماذا تعمل الشركات على إنشاء مراكز بيانات في الفضاء؟

وقد كانت ستختفي بالفعل، لولا تدخل مجموعة متنوعة من مختصي الأرشفة المتطوعين الذين يقودهم جيسون سكوت لإنقاذها.

ويستذكر سكوت قائلاً: "سارعنا إلى فعل كل ما يمكن فعله، ويعود جزء مما شعرنا به من الاستياء والارتباك في ذلك الوقت إلى أننا انتقلنا فجأة من تنزيل بضعة مواقع مثيرة للاهتمام إلى التعامل مع موقع ويب كان له دور راسخ في بدايات الويب".

تحركت مجموعته التي تحمل اسم أركايف تيم (Archive Team) بسرعة، فعمدت إلى تنزيل أكبر عددٍ ممكن من صفحات جيوسيتيز قبل إغلاق المنصة نهائياً. في نهاية المطاف، تمكن سكوت مع فريقه من إنقاذ معظم محتويات الموقع، وأرشفة الملايين من الصفحات بين أبريل/نيسان وأكتوبر/تشرين الأول من عام 2009. ووفقاً لتقديراته، فقد تمكنوا من تنزيل وتخزين بيانات يبلغ حجمها الإجمالي 1 تيرابايت تقريباً، لكنه يشير إلى أن حجم منصة جيوسيتيز كان يتقلب صعوداً وهبوطاً باستمرار، ووصل في ذروته إلى 9 تيرابايت. من المرجّح أن كميات كبيرة من البيانات ضاعت إلى الأبد. يقول سكوت: "كانت المنصة تحتوي على أعمال ولّدها المستخدمون بنسبة 100%، وأعمال فنية شعبية، وأمثلة صادقة عن بشر يكتبون معلومات وقصصاً تاريخية لم تكن موجودة في أي مكان آخر".

سكوت معروف بقبعته العالية وذوقه المستوحى من عالم السايبربانك في اختيار الملابس (سيايبربانك هو أحد أنواع الخيال العلمي حيث تكون الملابس فيه مستوحاة من التكنولوجيا مع مسحة جمالية مظلمة، وغالباً ما تتضمن خيارات مثل السترات الكبيرة والسراويل الفضفاضة والأردية ذات القلنسوة والأحذية الرياضية)، وقد جعل مهمته في الحياة المساهمة في حفظ الأجزاء المعرضة للضياع من محتوى الويب. ويقول: "بات مفهوماً بصورة متزايدة أن سجلات الأرشفة وعمليات الأرشفة وعمليات الحفظ بصورة عامة تمثّل كلّها خياراً وواجباً في الوقت نفسه، وليست مجرد شيء نفعله مجاراة للآخرين".

يعمل سكوت حالياً بصفة "مختص مستقل بالأرشفة وجمع البرمجيات" مع المؤسسة غير الربحية إنترنت أركايف (Internet Archive)، التي تقدم نفسها من خلال مكتبة عبر الإنترنت تأسست عام 1996 وتحمل الاسم نفسه على يد رائد الإنترنت بروستر كال، وذلك لحفظ المعلومات التي يمكن أن تضيع إذا لم تحظَ بالرعاية اللازمة، وتخزينها.

تنتج مجتمعاتنا كميات هائلة من الأشياء الجديدة إلى درجة أننا مضطرون على الدوام في كل عام إلى حذف كميات تفوق ما حذفناه من كميات في العام السابق.

أرشفة محتوى الإنترنت أصبحت واجباً

على مدى العقدين الماضيين، جمع موقع إنترنت أركايف مكتبة هائلة من المواد المنشورة المتاحة عبر أنحاء شبكة الإنترنت كافة، بما في ذلك محتوى جيوسيتيز. لا يقتصر عمله فقط على إنقاذ الأشياء ذات الطبيعة الرقمية الصرفة وحسب، بل يتضمن أيضاً مجموعة هائلة من الكتب المرقمنة (أي المحولة إلى إحدى الصيغ الرقمية) التي أنقذها من خلال مسحها رقمياً. جمع موقع أركايف إنترنت منذ تأسيسه أكثر من 145 بيتابايت من البيانات، بما في ذلك أكثر من 95 مليون ملف من ملفات الوسائط المتاحة للعامة، مثل الأفلام والصور والنصوص. وتمكن من إنقاذ ما يقرب من نصف مليون صفحة إخبارية من صفحات محطة إم تي في (MTV).

كما أن خدمته التي تحمل اسم وايباك ماشين (Wayback Machine)، والتي تسمح للمستخدمين بالعودة بالزمن إلى الوراء ليروا كيف كانت تبدو مواقع ويب معينة في وقت معين يرغبون فيه من الماضي، تتضمن أكثر من 800 مليار صفحة ويب مخزنة، وتلتقط 650 مليون صفحة ويب إضافية يومياً. يعمل إنترنت أركايف أيضاً على تخزين محتوى القنوات التلفزيونية من مختلف أنحاء العالم، بل ويحفظ حتى مقاطع الفيديو المنشورة على منصتي تيك توك ويوتيوب. يجري تخزين هذه البيانات كلها ضمن مراكز بيانات متعددة، وتعود ملكية هذه المراكز إلى مؤسسة إنترنت أركايف نفسها.

إنها مهمة شاقة للغاية وتبدو عبثية إلى حد ما. يقول المدير في مختبر الابتكار في مكتبة جامعة هارفارد، جاك كوشمان، الذي يساعد المكتبات ومختصي التكنولوجيا على تبادل المعرفة والمعلومات، إن مجتمعاتنا تنتج كميات هائلة من الأشياء الجديدة إلى درجة أننا مضطرون على الدوام في كل عام لحذف أشياء بكميات تفوق ما حذفناه في العام السابق. ويقول إنه يجب علينا "أن نحدد ما سنحتفظ به وما سنتخلى عنه. وكيف سنتخذ هذا القرار؟"

""
مصدر الصورة: مايك ماكويد

يضطر مختصو الأرشفة إلى اتخاذ هذه القرارات بصورة متواصلة. فما هي مقاطع تيك توك التي يجب أن نحتفظ بها للأجيال القادمة، على سبيل المثال؟

ما الذي يجب أن نحتفظ به من بياناتنا على الإنترنت؟

يقول الباحث المختص بالإنترنت في جامعة آرهوس في الدانمارك، نيلز بروغر، إننا يجب ألّا نبذل جهوداً كبيرة في محاولة تخيل الأشياء التي يمكن أن تثير اهتمام المؤرخين في المستقبل. ويقول: "لا يمكننا أن نتخيل ما سيرغب المؤرخون في دراسته حول وقتنا الراهن بعد 30 سنة، فليس لدينا أدنى مؤشر على هذا. ولهذا، يجب ألّا نحاول توقع الأسئلة التي يمكن أن يطرحها مؤرخو المستقبل وألّا نسعى إلى فرض أي نوع من القيود عليها".

بل يجب علينا بدلاً من ذلك، كما يقول بروغر، أن نكتفي بحفظ أكبر قدر ممكن من الأشياء، ونترك لهم مهمة دراستها لاحقاً. ويقول: "بصفتي مؤرخاً، فأنا أختار بالتأكيد الأسلوب الذي يعتمد على جمع كل شيء، وعندها سيحدد المؤرخون ما سيفعلونه بهذه الأشياء كلّها بأنفسهم".

في موقع إنترنت أركايف، تحظى الأشياء الأكثر عرضة لخطر الضياع بأعلى درجة على سلم الأولويات، وذلك على حد قول أحد الذين يساعدون على تطوير برامج الأرشفة للمكتبات والمؤسسات، جيفرسون بايلي. ويقول: "نمنح الأولوية للمواد السريعة الزوال أو المعرضة لخطر الزوال أو التي لم تخضع بعد لعملية الرقمنة، ولهذا فهي أكثر عرضة للتلف، لأنها ما زالت محفوظة بصيغة تناظرية (analog) أو مطبوعة".

أيضاً، يمكن للأفراد أن يطلبوا أرشفة هذا النوع من الصفحات، كما يمكن للمكتبات والمؤسسات أن تقدّم ترشيحاتها أيضاً. ويعكف طاقم العمل على تصنيف ما تبقى. تختار فرق الأرشفة في المكتبات في أنحاء العالم كافة حسابات معينة عبر منصات التواصل الاجتماعي المفتوحة، مثل تيك توك ويوتيوب، وتنسخ ما تريد حفظه، وتشارك هذه النسخ مع موقع إنترنت أركايف. قد تكون هذه المواد لقطات شاشة لما كان رائجاً من المواضيع والتوجهات كل يوم، إضافة إلى تغريدات أو مقاطع فيديو من حسابات يديرها أفراد معروفون يتمتّعون بمكانة مرموقة، مثل الرئيس الأميركي.

لا يمكن التقاط كل شيء من خلال هذه العملية، غير أنها توفّر تصوراً جيداً للغاية حول ما كان يشغلنا في العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين. وعلى حين كانت السجلات التاريخية تعتمد عادة على الرسائل والممتلكات الخاصة لأثرياء المجتمع، فإن عملية الأرشفة التي تجمع التغريدات من الإنترنت ستتمتّع بدرجة أعلى من المساواة على الدوام.

يقول بايلي: "يمكنك أن تحصل على لقطة مثيرة للاهتمام ومتنوعة للغاية للحظاتنا الثقافية على مدى الأعوام الثلاثين أو الأربعين الماضية. وهذا مختلف للغاية عن طبيعة أرشيف تقليدي يعود إلى مائة عام خلت".

بوصفنا مواطنين، يمكننا أيضاً أن نساعد المؤرخين في المستقبل. يقترح بروغر أن يقدّم الناس "تبرعات من البيانات" من مراسلاتهم الشخصية إلى السجلات الأرشيفية. ويقول: "يمكن أن ندعو الجميع إلى التبرع برسائل البريد الإلكتروني التي أرسلوها خلال أسبوع واحد كل عام. وإذا أمكن توفير هذه الشرائح الزمنية من مراسلات البريد الإلكتروني من الآلاف من الأشخاص، عاماً تلو الآخر، فسيكون هذا أمراً رائعاً".

يتخيل سكوت أن مؤرخي المستقبل سيستخدمون الذكاء الاصطناعي في نهاية المطاف لاستقصاء هذه السجلات وتكوين نظرة معمقة فريدة حول أسلوبنا في العيش. يقول سكوت: "سيصبح من الممكن توجيه السؤال التالي إلى الآلات: هلا تعرضين لي صوراً تعود إلى فترة الستينيات لأشخاص يقضون وقتاً ممتعاً في حدائق الملاهي مع عائلاتهم؟ وستقول الآلة: إليك ما طلبت". ويكمل قائلاً: "إن العمل الذي نفذناه حتى الآن نابع من إيماننا بأن شيئاً كهذا قد يظهر إلى الوجود يوماً ما".

اقرأ أيضاً: ما القوانين الجديدة التي سنّها الاتحاد الأوروبي حول أمان المحتوى على الإنترنت؟

الماضي يوجّه المستقبل

لا تختفي المعرفة البشرية بصورة مفاجئة على الدوام مثلما حدث مع جيوسيتيز، بل من الممكن أن تختفي تدريجياً في بعض الأحيان. ولن تعرف أن شيئاً ما قد اختفى إلى أن تعود إليه حتى تتفقده. من الأمثلة على هذا ظاهرة "الرابط المكسور" أو "الرابط الميت" (link rot)، حيث يفقد الرابط التشعبي على الويب قدرته على توجيهك إلى الهدف الصحيح، وينتهي بك المطاف إلى صفحات معطوبة أو إلى عدم الحصول على أي نتيجة (صفحات ليس لها وجود). وقد وجدت دراسة تعود إلى مايو/أيار من عام 2024 من مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) أنه أصبح من غير الممكن الوصول إلى 23% من صفحات الويب التي كانت موجودة في 2013.

لكن نقص العناية والاهتمام لا يؤدي إلى القضاء على روابط الويب وحسب. فالصيغ أو التنسيقات (أي طرق تمثيل البيانات) التي تخزن معظم بياناتنا حالياً تتطلب برامج أو تجهيزات معينة حتى يمكن تشغيلها، على عكس الورق، وقد تصبح هذه الأدوات متقادمة بسرعة. على سبيل المثال، أصبح الكثير من ملفاتنا غير قابل للقراءة لأن التطبيقات التي تقرأ هذه الملفات لم تعد مستخدمة أو لم يعد لها وجود، أو لأن البيانات معطوبة.

ومن الطرق التي يمكن أن تخفف هذه المشكلة نقل البيانات المهمة إلى الوسائط الأحدث بوتيرة منتظمة، قبل أن تختفي البرامج المطلوبة لقراءتها إلى الأبد. في موقع إنترنت أركايف وغيره من المكتبات العاملة عبر الإنترنت، تخضع طريقة تخزين المعلومات للتحديث كل بضعة أعوام. أمّا بالنسبة إلى البيانات التي لا تحظى بعناية فعّالة على الدوام، فقد تصبح التجهيزات والمكونات المادية اللازمة للوصول إليها غير متوفرة بعد بضعة أعوام وحسب. من الأمثلة على ذلك وسائط التخزين التي كانت منتشرة على نطاقٍ واسع، مثل محركات أقراص زيب (Zip) وكومباكت فلاش (CompactFlash).

يبحث بعض الباحثين عن أساليب للتأكد من إمكانية الوصول إلى الصيغ الرقمية القديمة على الدوام، حتى إذا أصبحت مجموعة التجهيزات والبرمجيات اللازمة لقراءتها أقرب إلى قطعة أثرية يمكن عرضها في المتحف. يهدف مشروع ذي أوليف (The Olive)، الذي يديره ماهاديف ساتيانارايانان في جامعة كارنيغي ميلون إلى تمكين أي شخص من استخدام أي تطبيق، مهما كان قديماً، "بنقرة واحدة وحسب". يعمل فريق ساتيانارايانان منذ 2012 على إنشاء شبكة ضخمة غير مركزية تدعم "الآلات الافتراضية" (rtual machines)، وهي أنظمة محاكاة لأنظمة التشغيل القديمة أو التي توقف إصدارها ودعمها، مع البرامج التي تعمل عليها كلّها.

يمثّل الحفاظ على البيانات القديمة بهذه الطريقة وسيلة لحمايتنا مما أطلق عليه عالم الكمبيوتر داني هيليس ذات مرة اسم "العصر الرقمي المظلم" (digital dark age)، في إشارة إلى الفترة الأولى من العصور الوسطى، عندما جعل نقص المواد المكتوبة المؤرخين في العصور اللاحقة أمام القليل من المعلومات التي يمكنهم الاعتماد عليها.

يعتقد أحد خريجي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) الذي كان رائداً في مجال الحوسبة المتوازية، المدعو باسم هيليس، أن التقلبات التكنولوجية السريعة التي يشهدها عصرنا الحالي ستجعل الكثير مما نعايشه لغزاً بالنسبة إلى الباحثين.

"كلما تقدمت في السن، أتساءل باستمرار: كيف يمكنني أن أكون سلفاً جيداً؟"

أحد مؤسسي الإنترنت، فينت سيرف

"عندما ينظر الناس إلى هذه الفترة، سيقولون إنها تتسم بتغيرات تكنولوجية سريعة وغير مفهومة، ما أدى إلى ضياع الكثير من السجلات التاريخية خلال هذه التغيرات".

اقرأ أيضاً: كيف تستخدم ميتا بياناتك لتدريب الذكاء الاصطناعي؟ وكيف يمكن منع ذلك؟

الشركات بدل المكتبات هي من سيروي قصتنا

كان هيليس أحد مؤسسي مؤسسة لونغ ناو فاونديشن (Long Now Foundation) (إلى جانب كل من بريان إينو وستيوارت براند)، وهي مؤسسة يقع مقرها في مدينة سان فرانسيسكو، وهي معروفة بمشاريعها العلمية ذات البعد الفني الجذاب، مثل ساعة لونغ ناو الميكانيكية العملاقة التي مولها جيف بيزوس، وهي قيد الإنشاء حالياً في جبل يقع غرب ولاية تكساس، كما أنها مصممة لعرض التوقيت الدقيق مدة 10,000 عام. صنعت المؤسسة أيضاً قرص روزيتا (قرص الرشيد)، وهو قرص من النيكل جرى نقشه على المستوى المجهري ويتضمن توثيقاً لنحو 1,500 لغة من لغات العالم. في فبراير/شباط، هبطت نسخة من القرص على سطح القمر على متن مركبة الهبوط أوديسيوس. تمثّل مساعدة الناس على التفكير في كيفية حماية تاريخنا لأجيال المستقبل جزءاً من تركيز لونغ ناو. لا يقتصر عملها على تسهيل عمل المؤرخين، بل يشمل مساعدتنا على أن نكون "أسلافاً أفضل"، وفقاً لرسالة المؤسسة.

يتوافق هذا الرأي مع أحد مؤسسي الإنترنت، فينت سيرف. حيث يقول: "كلما تقدمت في السن، أتساءل باستمرار: كيف يمكن أن أكون سلفاً جيداً؟

إن فهم ما حدث في الماضي يساعدنا على توقع -أو تفسير- ما يحدث في الحاضر وما قد يحدث في المستقبل". وثمة "سيناريوهات عديدة يمكن أن يتحول فيها غياب المعرفة بالماضي إلى نقطة ضعف توهن المجتمع".

يتفق كال مع هذه الفكرة قائلاً: "إذا لم نتذكر ما حدث في الماضي، فسنعجز عن التفكير، وتعتمد ذاكرة المجتمع على تدوين الأشياء ووضعها في المكتبات". ويقول إنه من دون مخازن للمعلومات كهذه "سيُصاب الناس بالارتباك بشأن قدرتهم على التمييز بين الحقائق والأكاذيب".

بدأ كال مشروع إنترنت أركايف ليكون وسيلة للتأكد من أن المعرفة بكل صنوفها متاحة للجميع مجاناً وبالكامل، لكنه يشعر بأن ميزان القوى قد اختل مبتعداً عن المكتبات ليصبح في مصلحة الشركات. ومن المرجح أن يشكل هذا مشكلة فيما يتعلق بإبقاء المواد في متناول الجميع على المدى البعيد.

ويقول: "إذا آلت هذه المسألة إلى الشركات، فسيذهب كل شيء سدى. فنحن لا نتحدث هنا عن الأعمال الكلاسيكية المنشورة فحسب -مثل مجلتكم أو كتبكم- بل نتحدث أيضاً عن صفحات فيسبوك وصفحات إكس (تويتر سابقاً) والمدونات الشخصية. عموماً، هذه المواد كلّها موجودة على منصات تابعة لمؤسسات تجارية. وستختفي هذه المنصات لاحقاً".

يقول كوشمان من جامعة هارفارد إن فقدان سجلاتنا الرقمية الطويلة الأمد سيكون له انعكاسات حقيقية على الأساليب التي يدير بها المجتمع شؤونه، مشيراً إلى أن النسبة الأكبر من قراراتنا ومعاملاتنا الورقية القانونية مخزنة رقمياً. إذا لم يكن لدينا سجل دائم وغير قابل للتغيير، لن نستطيع الاعتماد على الأحكام السابقة لتوجيه الأحكام الحالية. وقد ابتكر فريقه وسائل تُتيح للمحاكم والمجلات القانونية وضع نسخ من صفحات الويب ضمن ملفات في المكتبة القانونية التابعة لجامعة هارفارد، حيث يجري تخزينها إلى أجل غير مسمى باعتبارها سجلاً للسوابق القضائية. كما يعمل الفريق على ابتكار أدوات تُتيح للناس إمكانية التفاعل مع هذه السجلات من خلال تصفح النسخ التاريخية لموقع ما، أو من خلال استخدام نسخة مخصصة من جي بي تي (GPT) للتفاعل مع مجموعات الوثائق.

تعمل مجموعات أخرى كثيرة على حلول مشابهة. فقد اقترحت مكتبة الكونغرس الأميركي مجموعة من المعايير لتخزين ملفات الفيديو والصوت والويب بحيث يصبح الوصول إليها متاحاً أمام أجيال المستقبل. وتدعو مختصي الأرشفة إلى التفكير في قضايا مثل إمكانية احتواء البيانات على تعليمات حول كيفية الوصول إليها، أو مدى انتشار الصيغة المعتمدة التي جرى تمثيل البيانات باستخدامها (لأن الصيغ الأكثر انتشاراً هي الأقل عرضة للتقادم بسرعة).

لكن الاحتفاظ بالسجلات الأرشيفية الرقمية في نهاية المطاف أصعب من الاحتفاظ بالسجلات الأرشيفية المادية، على حد قول كوشمان. ويقول: "إذا نفدت ميزانيتك وتركت الكتب في غرفة هادئة ومظلمة مدة 10 سنوات، فليس هناك أي مشكلة. أما إذا لم تتمكن من دفع فاتورة خدمات أمازون ويب سيرفيسز السحابية (Amazon Web Services) لشهر واحد، فستفقد ملفاتك إلى الأبد".

التخزين فترات زمنية مستحيلة

لا يمكن تخزين البيانات الرقمية إلى الأبد، حتى إذا لجأنا إلى الطرق الفيزيائية التي نعتمد عليها حالياً. فمعظم تقنيات التخزين البعيد الأمد في مراكز البيانات -المخصصة للاستخدام ضمن خطط التعافي من الكوارث أو استرداد البيانات بعد عطل فادح، من بين تطبيقات أخرى- تعتمد على محركات الأقراص الصلبة المغناطيسية أو الأشرطة المغناطيسية. غير أن محركات الأقراص الصلبة تتآكل بعد بضعة أعوام. أمّا الأشرطة المغناطيسية فهي أفضل منها بقليل، لكنها لا تصلح للاستخدام في تخزين البيانات أكثر من عقد من الزمن أو نحو ذلك، قبل أن تبدأ التراجع في عملها إلى أن تصبح عديمة الفائدة.

تعمل الشركات على إنشاء نسخ احتياطية طوال الوقت، ولهذا فإن هذه المسألة لا تمثّل مشكلة على المديين القصير والمتوسط. لكن إذا أردنا تخزين ما يهمنا من المعلومات الثقافية والقانونية والتاريخية حتى تصبح متاحة على مر العصور المقبلة، فيجب أن نفكر بطريقة مختلفة. في هذه الحالة، نحن في حاجة إلى وسيلة قادرة على تخزين كميات ضخمة من البيانات، لكنها قادرة أيضاً على تحمل العوامل الناجمة عن مرور الزمن، ولا تحتاج إلى رعاية دائمة.

كثيراً ما نصادف طروحات تروّج للحمض النووي على أنه خيار للتخزين البعيد الأمد. فهو يستطيع تخزين كميات مذهلة من المعلومات، ويدوم فترة طويلة للغاية. فقطع العظام تحتوي على حمض نووي قابل للقراءة ويعود تاريخه إلى مئات الآلاف من الأعوام. لكن ترميز المعلومات في الحمض النووي مكلف وبطيء حالياً، كما يتطلب وجود تجهيزات متخصصة تتيح "قراءة" المعلومات لاحقاً. وهذا ما يجعل الحمض النووي خياراً غير عملي بوصفه خياراً جدياً لتخزين نسخة احتياطية طويلة الأمد لصنوف المعارف التي يمتلكها عالمنا اليوم، في الوقت الحالي على الأقل.

""

مصدر الصورة: مايك ماكويد

من حسن الحظ، لدينا بالفعل بعض البدائل المقنعة. يمثل مشروع سيليكا (Project Silica) أحد أكثر الأفكار تقدماً في هذا المجال، ويجري تطويره حالياً في شركة مايكروسوفت ريسيرتش (Microsoft Research) وهي فرع الأبحاث التابع لشركة مايكروسوفت في مدينة كامبريدج بالمملكة المتحدة، حيث يعمل ريتشارد بلاك وفريقه على تصميم نوع جديد من تقنيات التخزين البعيد الأمد، وذلك بوضع المعلومات على مربعات زجاجية يمكن أن تدوم مئات الأعوام أو حتى آلاف الأعوام.

يجري صنع كل مربع من هذه المربعات باستخدام ليزر دقيق يتمتع بطاقة عالية، حيث ينقش تشوهات ذات أبعاد نانوية في الزجاج تحت السطح يمكنها ترميز أجزاء المعلومات. تتوزع هذه التشوهات الصغيرة ضمن طبقات متتابعة تتوضع فوق بعضها بعضاً داخل الزجاج، وتجري قراءتها بعد ذلك باستخدام مجهر ضوئي عالي القدرة ويستطيع اكتشاف طريقة انكسار الأشعة الضوئية واستقطابها ضمن الزجاج. ثم يأتي دور التعلم الآلي المستخدم لتفكيك ترميز هذه الأجزاء من المعلومات، ويتضمن كل مربع ما يكفي من بيانات التدريب حتى يستطيع مؤرخو المستقبل إعادة تدريب أحد نماذج الذكاء الاصطناعي من نقطة الصفر إذا لزم الأمر، على حد قول بلاك.

عندما أمسك أحد مربعات سيليكا في يدي، أشعر كأنني أمسك شيئاً من عالم الخيال العلمي، يبدو الأمر كأنني سحبته من مكانه حتى أوقف نظام هال (HAL) عن العمل كما حدث في فيلم "2001: ملحمة الفضاء" (2001: A Space Odyssey). يمكن رؤية البيانات المرمزة بالعين المجردة، حيث تظهر بلون أزرق باهت في الأماكن التي يصطدم الضوء فيها بالتشوهات وينتثر بعد ذلك. يبين مقطع فيديو نشرته شركة مايكروسوفت تعريض هذه المربعات للأشعة الميكروية، وللغليان، وللتسخين في الفرن، والمغنطة المباشرة باستخدام مغناطيس عالي القدرة، دون أن تظهر أي آثار سلبية واضحة.

اقرأ أيضاً: هل يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي كشف الاحتيال المالي؟

تاريخ على زجاجة سيليكا

يتخيل بلاك استخدام سيليكا لتخزين السجلات العلمية البعيدة الأمد، مثل المعلومات الطبية أو معلومات الطقس، على مدى عدة عقود. أما الأهم من ذلك، فهو أن هذه التكنولوجيا تتيح إنشاء سجلات يمكن عزلها عن الإنترنت، ولا تحتاج إلى الطاقة أو إلى عناية خاصة. ويمكن الاكتفاء بوضعها في مكان معزول ومقفل، ومن المفترض أنها ستعمل جيداً وستكون قابلة للقراءة بعد عدة قرون من الزمن. يقول بلاك: "لم تتوقف البشرية قط عن بناء المجاهر الضوئية". في عام 2019، أرشفت شركة وارنر برذرز (Warner Bros.) جزءاً من مجموعة أعمالها السابقة على زجاج سيليكا، بما في ذلك فيلم "سوبرمان" (Superman) الكلاسيكي من عام 1978.

صمم فريق بلاك أيضاً نظام مكتبة لتخزين الوسائط مخصصاً لمربعات سيليكا. ففي غرفة صغيرة في مكتب الشركة في كامبريدج، تصطف رفوف مليئة بآلاف المربعات الزجاجية. تحمل الرفوف روبوتات بحجم الحقائب اليدوية، وتنزلق هذه الروبوتات بسرعة على طول الرفوف (معتمدة على الحافة الخارجية لاثنين من الرفوف في الوقت نفسه على نحو يشبه سكة ثنائية القضبان)، وتتوقف بين الحين والآخر، وتفصل نفسها عن أحد الرفين، وتتحرك صعوداً أو هبوطاً إلى رف آخر، قبل أن تثبت نفسها عليه وتتحرك على طوله بسرعة مرة أخرى. عندما يصل الروبوت إلى مكان معين، يتوقف ويرفع أحد المربعات، الذي لا يتجاوز حجمه حجم قرص مدمج (CD)، من مكانه على الرف. تجري قراءة محتويات هذا المربع، وبعد ذلك يعود الروبوت بسرعة إلى مكانه.

برمجيات في مخزن سفالبارد أيضاً

في هذه الأثناء، وفي أعماق سراديب منجم مهجور في منطقة سفالبارد في النرويج، تخزن منصة غيت هاب (GitHub) بعضاً من أهم البرمجيات في التاريخ (بما في ذلك الشيفرة المصدرية لنظامي التشغيل لينوكس [Linux] وأندرويد [Android] ولغة البرمجة بايثون [Python]) على فيلم (شريط) خاص يزعم مبتكروه أنه يستطيع أن يدوم أكثر من 500 عام. هذا الفيلم، الذي صنعته شركة بيكل (Piql)، مطلي ببلورات مجهرية من هاليد الفضة (silver halide)، الذي يكتسب لوناً داكناً دائماً عند التعرض للضوء. يجري استخدام مصدر ضوئي ذي طاقة عالية لإنشاء بيكسلات داكنة على الفيلم بعرض 6 ميكرومترات فقط، وذلك لترميز البيانات بالنظام الثنائي (أصفار ووحدان). بعد ذلك، يتولى ماسح ضوئي قراءة البيانات. تحمل كل لفافة من الفيلم معلومات باللغة الإنجليزية حول كيفية الوصول إلى المعلومات، في حال لم يعد هناك أي أحد قادر على شرح طريقة العمل.

إضافة إلى مجموعة غيت هاب، تتضمن منشأة التخزين المعروفة باسم "الأرشيف العالمي في القطب الشمالي" (Arctic World Archive) أيضاً بيانات من الفاتيكان ووكالة الفضاء الأوروبية، إضافة إلى أعمال فنية متنوعة وصور من حكومات ومؤسسات من أنحاء العالم كافة. على سبيل المثال، خزنت جامعة ييل مجموعة من البرامج الحاسوبية، بما في ذلك حزمة برامج مايكروسوفت أوفيس (Microsoft Office) وبرامج أدوبي (Adobe) وفق صيغة بيانات بيكل. يبعد قبو سفالبارد العالمي للبذور عن الأرشيف العالمي بضع مئات من الأمتار وحسب، وهو منشأة تخزين مخصصة لحفظ مجموعة مختارة من التنوع الحيوي العالمي للأجيال المقبلة. كما أن البيانات التي توضح ماهية البذور الموجودة في كل حاوية مخزنة أيضاً على فيلم بيكل.

سيكون ضمان تخزين هذه المعلومات في صيغ يمكن تفكيك ترميزها بعد مئات من الأعوام أمراً في غاية الأهمية. وكما يقول كوشمان، ما زلنا نتجادل بشأن الطريقة المناسبة لتشغيل أفلام تشارلي تشابلن، لأنها غير مسجلة وفق سرعة العرض الحالية. ويتساءل قائلاً: "عندما يحاول الباحثون الوصول إلى هذه المواد بعد عقود من الزمن من الآن، كم ستبلغ تكلفة بناء الأدوات اللازمة لعرضها، وما هي احتمالات أن نخطئ في تشغيلها؟

في نهاية المطاف، فإن الدافع وراء هذه المشاريع كلها هو الفكرة التي مفادها أن هذه المشاريع ستكون بمثابة نسخة احتياطية للنتاج البشري. ستكون بمثابة وسيط للتخزين الطويل الأمد، القادر على الصمود إذا تعرض العالم للدمار يوماً، أو تعرض لنبضة كهرومغناطيسية قوية من الشمس، أو تعرضت الحضارة البشرية للفناء، بحيث نستطيع أن نبدأ من جديد.

ستكون شيئاً يتيح للناس في المستقبل بأن يعرفوا أننا كنا هنا.

صدف سعيدة

في القرن الأول، كانت امرأة رومانية تحمل اسم كلوديا سيفيرا تخطط لإقامة حفل عيد ميلاد كبير في حصن يقع في شمال إنجلترا. وطلبت من خادمها أن يكتب دعوة إلى إحدى صديقاتها المفضلات على لوح خشبي، ثم أمضتها بأسلوب منمق.

لم يكن بوسع كلوديا أن تتوقع على الإطلاق بأن ألواح فيندولاندا (تمثل دعوتها تلك أشهر هذه الألواح) ستصبح بعد 2,000 عام تقريباً مصدراً لمعلومات فريدة حول الحياة اليومية للرومان في إنجلترا في ذلك الوقت.

هذا ما كان يحدث على الدوام. فعلى مر التاريخ، صمدت أكثر الأشياء عشوائية وغرابة في وجه تقلبات الزمن لتتحول إلى دليل يعتمد عليه المؤرخون. وهذا ينطبق علينا أيضاً. فعلى الرغم من جهود مختصي الأرشفة، ومختصي المكتبات، والباحثين المختصين بتخزين البيانات، من المستحيل أن نحدد على وجه اليقين البيانات التي ستظل متاحة وصالحة للوصول إليها بعد موتنا بفترة طويلة. وقد نتفاجأ بالأشياء التي سيعتبرونها مثيرة للاهتمام عندما يعثرون عليها. أي دفعة مؤرشفة من رسائل البريد الإلكتروني أو مقاطع تيك توك ستكون المفتاح الذي يحل ألغاز حقبتنا هذه أمام المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا في المستقبل؟ وأي أفكار ستخطر على أذهانهم حولنا؟

قد يجد المؤرخون الذين ينقبون في مخلفاتنا الرقمية أنفسهم في مواجهة سلسلة من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها، وسيتعين عليهم بذل قصارى جهدهم للتخمين.

على مر التاريخ، صمدت أكثر الأشياء عشوائية وغرابة في وجه تقلبات الزمن لتتحول إلى دليل يعتمد عليه المؤرخون. وهذا ينطبق علينا أيضاً.

تقول بيل: "سيتعين عليك أن تسأل عمن كانوا يمتلكون التكنولوجيا الرقمية. وكيف كانوا يزودونها بالطاقة؟ ومن كان منوطاً به تحديد الخيارات المتعلقة بها؟ وكيف كان يجري تخزينها وتداولها؟ ومن كان يراها؟"

لا نعرف ما هي التكنولوجيات التي ستبقى صالحة للاستخدام بعد 20 أو 50 أو 100 عام من الآن. ربما تتخلى البشرية عن أنظمة التخزين السحابي لخدمة جوجل فوتوز، لتصبح كومة قمامة عملاقة من محركات الأقراص الصلبة القديمة المدفونة في الأرض. أو ربما، مع قليل من الحظ، سيتمكن أحد الورثة الروحيين لمختصي الأرشفة الذين يعملون مع سكوت من إنقاذ محتوياتها قبل أن تتوقف عن العمل.

ومن المحتمل أن يكون أحدهم قد بادر إلى تنزيل محتوياتها على قرص زجاجي من نوع ما ووضعه في خزانة محصنة أو سرداب محصن في مكان ما.

وقد يعثر عالم أنثروبولوجيا في المستقبل على هذا القرص يوماً ما، ويمسح الغبار عنه، ويجد أنه ما زال قابلاً للقراءة.

وربما سيختار ملفاً بصورة عشوائية، ويشغل أحد برامج المحاكاة، ويجد مليار صورة تعود إلى عام 2013.

ويرى بين هذه الصور فتاة سعيدة ممتلئة الجسم تجلس على العشب.

طفلة تجلس على العشب
مصدر الصورة: نيال فيرث