كيف مكّنت التوائم الرقمية من إجراء تجارب علمية كانت مستحيلة سابقاً؟

7 دقيقة
كيف مكّنت التوائم الرقمية من إجراء تجارب علمية كانت مستحيلة سابقاً؟
مصدر الصورة: ستيفاني آرنيت، فيتيشكا تيب/ إم آي تي تكنولوجي ريفيو/ ناسا

في يناير/كانون الثاني من عام 2022، كان التلسكوب الفضائي جيمس ويب التابع لوكالة ناسا، الذي بلغت تكلفته 10 مليارات دولار، يقترب من نهاية رحلته التي تبعد عن الأرض 1.6 مليون كيلومتر. لكن الوصول إلى موقعه المداري لم يكن سوى جزء واحد من رحلته الخطرة. فحتى تصبح هذه الأداة الفضائية جاهزة لتنفيذ عمليات الرصد، كان يجب أن ينشر أجزاءه المطوية في عملية تتطلب تنسيقاً معقداً، ويمكن أن تفشل وفق 344 طريقة وفقاً لحسابات المهندسين. فثمة درع شمسي بحجم ملعب التنس، وكان لا بُد من فتحه بطريقة صحيحة تماماً، بحيث يتحول إلى ما يشبه الطائرة الورقية اللامعة تحت التلسكوب. وكان على مرآة ثانوية أن تدور نحو الأسفل إلى موضعها الدقيق، معتمدة على ثلاث قوائم لتثبيتها بعد نحو 8 أمتار من المرآة الرئيسية. وأخيراً، كان لا بُدّ للمرآة الرئيسية نفسها، التي تتألف من 18 قطعة سداسية الشكل والمتداخلة بأسلوب يشبه تصميم خلايا النحل، من تجميع نفسها، كما كان لا بُدّ من فتح مرآة ذهبية ثلاثية المقاطع من جوانب التلسكوب كافة، بحيث تتراكب حوافها مع حواف القطع الباقية المتراكبة مسبقاً، والبالغ عددها 12 قطعة. كان على تسلسل عملية النشر أن يسير على نحو مثالي حتى يعمل التلسكوب بالصورة المنشود.

تقول المديرة التقنية لأعمال أنظمة الدفاع الجوي والفضائي في شركة رايثيون (Raytheon) التي بَنت البرنامج الذي يتحكم في حركات تلسكوب جيمس ويب الفضائي، والمسؤولة حالياً عن عمليات الطيران المخصصة له، كارين كايسي: "لقد كان وقتاً مريعاً". فعلى مدى عدة أيام من العمليات التي تتطلب تنفيذ حركات موزونة ومنسقة بدقة، راقب مهندسو رايثيون تسلسل الأحداث فيما كان التلسكوب يأخذ شكله النهائي. كان التلسكوب القابع في منطقة تتجاوز مدار القمر بعيداً جداً بحيث لا يمكن رؤيته حتى بالنسبة إلى الأدوات القوية. لكن التلسكوب كان يرسل البيانات إلى الأرض في الزمن الحقيقي، واستخدم البرنامج تلك البيانات بصورة متزامنة تقريباً لإنتاج مقطع فيديو ثلاثي الأبعاد لعرض مجريات العملية في أثناء سيرها. كان الأمر أشبه بمشاهدة فيلم مرهق لأعصاب المشاهدين.

اقرأ أيضاً: كيف قلبت بيانات تلسكوب جيمس ويب الفضائي الموازين في علم الفلك؟

توأم رقمي لتلسكوب جيمس ويب الفضائي

كان مقطع الفيديو الثلاثي الأبعاد يمثّل "توأماً رقمياً" للتلسكوب المعقد؛ أي أنه نموذج حاسوبي للأداة الحقيقية، ويعتمد على المعلومات التي تقدمها الأداة. تقول كايسي: "كانت القدرة على رؤية ما يحدث أمراً يمثّل تحولاً جذرياً". خلال الأيام الأولى من عمل التلسكوب الفضائي جيمس ويب، راقب الفريق ما يحدث في جو من التوتر، حيث لم تظهر أي مشكلة من المشكلات المحتملة البالغ عددها 344. أخيراً، وصل التلسكوب الفضائي جيمس ويب إلى شكله النهائي وأصبح يبدو مطابقاً للمخطط، في الفضاء وعلى الشاشة. وقد كان التوأم الرقمي يحدّث نفسه منذ ذلك الحين.

لم تكن فكرة بناء نسخة كاملة لنظام معقد كهذا جديدة بالنسبة لرايثيون، ويُعزى هذا جزئياً إلى عمل الشركة في مجال الدفاع والاستخبارات، حيث التوائم الرقمية أكثر انتشاراً مما هي في مجال علم الفلك. غير أن التلسكوب الفضائي جيمس ويب كان أعقد في الواقع من معظم تلك الأنظمة، ولهذا فإن التقدم الذي حققه توأمه سيعود الآن بالفائدة على المشاريع العسكرية التي تشارك فيها الشركة. هذا معاكس للقصة التي اعتدنا سماعها أكثر، حيث تؤدي مشاريع الأمن القومي إلى دفع الإنجازات العلمية إلى الأمام. يمثّل الفضاء نقطة تقارب التكنولوجيات الدفاعية وغير الدفاعية، وتقع التوائم الرقمية "في قلب هذه المشاريع المشتركة"، كما يقول دان آيزاكس، الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في اتحاد التوائم الرقمية (Digital Twin Consortium)، وهو مجموعة عمل احترافية. مع زيادة انتشار هذه التكنولوجيا، بدأ الباحثون يلاحظون على نحو متزايد أن هذه التوائم أصبحت عناصر منتجة في الأوساط العلمية، حيث تساعد البشر على تشغيل أعقد الأجهزة في العالم، وتكشف في الوقت نفسه المزيد عن العالم نفسه، والكون البعيد أيضاً.

800 مليون نقطة بيانات

طرح الباحث الذي ركّز عمله على الأعمال التجارية والتصنيع، مايكل غريفز، مفهوم التوائم الرقمية في 2002. وقد أشار إلى أن النموذج الرقمي للمُنتَج يجب أن يرافق العنصر المادي عبر مراحل تطويره، مع تحديثه باستمرار بمعلومات من العالم الحقيقي.

لكن مصطلح "التوأم الرقمي" أتى في الواقع من الموظف في ناسا جون فيكرز، الذي استخدمه أول مرة في 2010 في إطار تقرير حول خطة توجيهية تكنولوجية لوكالة الفضاء. وقد لا يكون من المفاجئ أن غريفز أصبح حالياً مدير معهد التوائم الرقمية (Digital Twins Institute)، وأن فيكرز ما زال يعمل في ناسا بصفته الخبير التكنولوجي الرئيسي. منذ تلك الأيام الأولى، شهدت التكنولوجيا تقدماً كبيراً، كما هو متوقع. فقد انتشرت إنترنت الأشياء على نطاق واسع، ما أدّى إلى ربط أجهزة استشعار العالم الحقيقي الملتصقة بالأجسام المادية مع الإنترنت غير الملموسة.

حالياً، يفوق عدد هذه الأجهزة 15 ملياراً، وهو عدد هائل مقارنة بعددها في 2010، الذي لم يتجاوز بضعة ملايين وحسب. واصلت قدرات الحوسبة نموها، وتُتيح السحابة الإلكترونية -التي أصبحت أكثر انتشاراً وقدرة مما كانت عليه في العقد المنصرم- لمصممي التوائم الرقمية تكبير نماذجهم أو تصغيرها، أو إنتاج المزيد من النسخ لإجراء التجارب، دون الحاجة إلى استثمار مبالغ هائلة في المكونات المادية والتجهيزات. الآن، أصبح من الممكن دمج الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في التوائم الرقمية أيضاً، وذلك للمساعدة على استيعاب الكميات الهائلة من نقاط البيانات التي تتدفق كل ثانية. اعتماداً على هذه العناصر، قررت رايثيون أن تبني توأمها الرقمي المقابل لتلسكوب جيمس ويب الفضائي للسبب نفسه الذي دفعها إلى بناء توائم للأغراض الدفاعية، وهو عدم وجود أي مجال مسموح للخطأ.

اقرأ أيضاً: ناسا تختار مركبة ستارشيب من سبيس إكس كمسبار سطحي لأخذ رواد الفضاء إلى القمر

تقول كايسي: "كان الفشل ممنوعاً في هذه المهمة". يتتبع التوأم 800 مليون نقطة بيانات تتعلق بقرينه الحقيقي يومياً، مستخدماً كل هذه الأصفار والوحدان (الترميز المعتمد في نظام العد الثنائي) لإنشاء فيديو في الزمن الحقيقي حتى يتمكن البشر من مراقبته بسهولة بدلاً من صفوف الأرقام الكثيرة. يستخدم فريق تلسكوب جيمس ويب الفضائي التوأم لمراقبة المرصد وأيضاً من أجل التنبؤ بآثار التغييرات المطبقة عليه، مثل التحديثات البرمجية. وعند اختبار هذه التحديثات، يستخدم المهندسون نسخة من التوأم معزولة عن الاتصالات (في وضع عدم الاتصال)، ويلقمونها بالتغييرات الافتراضية، ويراقبون ما يحدث بعد ذلك. أيضاً، تستخدم المجموعة نسخة معزولة عن الاتصالات من أجل تدريب المشغلين واستكشاف المشكلات الحقيقية وإصلاحها، التي رفضت كايسي الإفصاح عن طبيعتها. وتقول: "نُطلق عليها اسم الاختلالات".

العلوم والدفاع وغير ذلك

تلسكوب جيمس ويب الفضائي ليس أول أداة علمية فضائية تمتلك قريناً رقمياً يحاكيه. فقد تمكنت ناسا بمساعدة توأم رقمي للمركبة كيوريوسيتي من حل مشكلات الحرارة التي أصابت الروبوت. وفي المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية أو "سيرن" (CERN) اختصاراً، معقل مُسرّع الجسيمات الأوروبي، تساعد التوائم الرقمية على تطوير الكواشف، والمزيد من المهام الاعتيادية مثل مراقبة الرافعات وأنظمة التهوية. وتريد وكالة الفضاء الأوروبية استخدام بيانات مراقبة الأرض لبناء توأم رقمي للكوكب نفسه. وفي تلسكوب الكناري العظيم (Gran Telescopio Canarias)، وهو أضخم تلسكوب مزود بمرآة واحدة في العالم، بدأ الفريق العلمي يبني توأماً منذ سنتين تقريباً، حتى قبل أن يسمعوا بالمصطلح نفسه. ففي ذلك الحين، ذهب رئيس قسم الهندسة لويس رودريغز إلى مدير المرصد رومانو كورادي. يقول كورادي: "لقد قال لي إننا يجب أن نبدأ بناء روابط بين الأشياء".

اقترح رودريغز استيحاء بعض المفاهيم من الصناعة، حيث تتواصل الآلات مع بعضها بعضاً ومع أجهزة الكمبيوتر، وتراقب حالتها بنفسها، وتؤتمت الاستجابات المقابلة لهذه الحالات. بدأ الفريق يُضيف أجهزة الاستشعار التي تنقل المعلومات المتعلقة بالتلسكوب والبيئة المحيطة به. يُعَد فهم الظروف البيئية المحيطة بالمرصد "مسألة أساسية في تشغيل التلسكوب"، على حد قول كورادي. هذا يعني معرفة الإجابة عن أسئلة من قبيل: هل ستمطر؟ وكيف تؤثّر الحرارة في الضبط البؤري للمنظار؟ بعد أن بدأت أجهزة الاستشعار عملها في إرسال البيانات، أنشأ الفريق نموذجاً ثلاثي الأبعاد للتلسكوب يعرض هذه المعلومات مرئياً. يقول رودريغز، مشيراً إلى القائمين على تشغيل التلسكوب: "الفوائد واضحة للغاية بالنسبة إلى العاملين. من الأسهل إدارة التلسكوب بفضل هذا الأسلوب. فقد كان تشغيل التلسكوب في الماضي عملية صعبة للغاية، لأنه شديد التعقيد".

حالياً، يقتصر عمل توأم تلسكوب الكناري العظيم على استقبال البيانات، ولكن الفريق يعمل على تطوير أسلوب أكثر ميلاً إلى الاستدلال والتفسير، وذلك من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بسلوك الأداة. يقول كورادي: "تُتيح المعلومات التي نحصل عليها من التوأم الرقمي تطبيق بعض الإجراءات على الكيان الحقيقي الذي يحاكيه". يأمل مشرفو المرصد في نهاية المطاف بأن يصبح لديهم "تلسكوب ذكي" يستجيب للأوضاع التي يمر بها تلقائياً. يقول كورادي إن الفريق لم يدرك وجود مصطلح خاص يشير إلى ما يعملون عليه قبل المشاركة في مؤتمر إنترنت الأشياء العام الماضي. ويقول: "لقد رأينا أنه ثمة مجتمع متنامٍ في مجال التوائم الرقمية -على الصعيد التقني لا العلمي- حيث يعمل الجميع على بناء هذه التوائم الرقمية اليوم".

غير أن هذا المفهوم بدأ ينتشر في المجال العلمي بالتدريج، كما تثبت مُسرّعات الجسيمات ووكالات الفضاء. لكنه ما زال راسخاً أكثر ضمن نطاق الشركات. يقول كورادي: "دائماً ما يسبق الاهتمام في الصناعة ما يحدث على الصعيد العلمي".  لكنه يعتقد أن المشاريع المماثلة لمشروعهم ستواصل انتشارها في أوساط علم الفلك على نطاق واسع. على سبيل المثال، فإن المجموعة التي تخطط لبناء مشروع تلسكوب الثلاثين متراً المُقتَرح، الذي تتألف مرآته الرئيسية من المئات من القطع، اتصلوا بهم لطلب عرض تقديمي حول هذه التكنولوجيا. يقول كورادي: "كانت توقعاتنا أقل بكثير من الأشواط التي قطعتها الحلول التقنية في هذا المجال". فالصناعات الدفاعية تحب التوائم الرقمية للغاية. على سبيل المثال، استخدمت القوة الفضائية للولايات المتحدة توأماً رقمياً بغية التخطيط لتجربة تيترا 5 (Tetra 5)، وهي تجربة تهدف إلى لتزويد الأقمار الاصطناعية بالوقود. وفي 2022، منحت القوة الفضائية شركة سلينغشوت آيروسبيس (Slingshot Aerospace) عقداً لبناء توأم رقمي للفضاء نفسه، بحيث يُظهر ما يحدث في المدار استعداداً للحوادث مثل التصادمات.

ويستشهد آيزاكس بمثال حيث أرسلت القوة الفضائية طائرة سبق أن أحيلت إلى التقاعد إلى إحدى الجامعات حتى يتمكن الباحثون من تطوير "موجز إجهادات"، وهو أقرب إلى خريطة تظهر تراكم آثار ما تتعرض إليه الطائرة من إجهادات وضغوط وأحمال مع مرور الزمن. يمكن للتوأم الرقمي المصنوع من تلك الخريطة أن يساعد على تحديد الأجزاء التي يمكن استبدالها لإطالة عمر الطائرة، أو تصميم طائرة أفضل في المستقبل. لهذا، ثمة ميزة تتمتّع بها الشركات التي تعمل في مجالي الدفاع والعلوم -وهو أمر شائع في صناعة الفضاء على وجه الخصوص- حيث يمكنها نقل الابتكارات من قسم إلى الآخر.

اقرأ أيضاً: أمازون على وشك فتح معركة مع سبيس إكس بسبب إنترنت الأقمار الصناعية

على سبيل المثال، يتمتّع التوأم الرقمي لتلسكوب جيمس ويب الفضائي ببعض الخصائص التي تجعله مهماً في مشاريع رايثيون الدفاعية، حيث بدأت الشركة تعمل بالفعل على توائم رقمية لرادارات الدفاع الصاروخي، وصواريخ كروز التي تطلق من الجو، والطائرات. تقول كايسي: "يمكننا إعادة استخدام أجزاء منه في مواضع أخرى". فأي قمر اصطناعي تتتبعه الشركة أو ترسل الأوامر إليه "يمكن أن يستفيد من بعض القطع والأجزاء التي صنعناها في هذا المشروع". وتُضيف قائلة إن بعض الأدوات والعمليات التي طوّرتها رايثيون من أجل التلسكوب "قابلة للاستخدام في برامج أخرى بطريقة تشبه النسخ واللصق". وبهذا، من المرجّح أن التوأم الرقمي لتلسكوب جيمس ويب الفضائي سيحصل بدوره على توائمه الخاصة.