ما الدروس التاريخية التي يُذكّرنا بها شبح استحواذ الذكاء الاصطناعي على الوظائف؟

9 دقيقة
ما الدروس التاريخية التي يُذكّرنا بها شبح استحواذ الذكاء الاصطناعي على الوظائف؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/Summit Art Creations
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لنعد بالذاكرة إلى عام 1938، عندما كانت آلام الكساد الكبير لا تزال تقض مضجع الجميع. فقد كانت نسبة البطالة في الولايات المتحدة آنذاك 20%، وكان الجميع يساورهم القلق بشأن وظائفهم.

في 1930، حذّر الاقتصادي البريطاني البارز جون مينارد كينز من أننا “نتعرض إلى داء جديد” يُسمَّى البطالة التكنولوجية. وكتب كينز قائلاً إن التطورات التي تؤدي إلى توفير العمالة كانت “تتسارع بوتيرة تفوق وتيرتنا في العثور على فوائد واستخدامات جديدة للعمالة”. بدا أن الأمثلة التي تشير إلى صحة كلامه منتشرة في كل مكان؛ فقد كانت المصانع والمزارع تشهد تغييرات جذرية بفضل الآلات الجديدة، وبدأت شبكة الهاتف الوطنية تعتمد على التحويل الميكانيكي للمكالمات الهاتفية، ما أدّى إلى الاستغناء عن مشغلي الهاتف المحليين، وهي إحدى أكثر الوظائف شيوعاً بين النساء الأميركيات الشابات في مطلع القرن العشرين.

بعبع البطالة التكنولوجية

هل كانت التطورات التكنولوجية المذهلة التي تجعل الحياة أسهل بالنسبة للكثيرين سبباً في تدمير الوظائف وإحداث الفوضى والقلاقل في الاقتصاد؟ في محاولة لفهم ما يحدث، كتب رئيس إم آي تي من 1930 إلى 1948 وأحد كبار العلماء في تلك الفترة، كارل كومبتون، مقالاً حول “بعبع البطالة التكنولوجية” في عدد شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 1938 لهذه المجلة.

استهل كومبتون مقاله بالتساؤل حول كيفية التفكير في الجدل المتعلق بالبطالة التكنولوجية، فهل هو “فقدان للوظائف بسبب انعدام فائدة صناعة ما، أو بسبب استخدام الآلات للحلول محل العمال، أو بسبب زيادة الإنتاجية مقارنة بعدد الأفراد؟” وبعدها، طرح السؤال التالي: “هل الآلات تمثّل الجني الذي خرج من القمقم العلمي لتلبية احتياجات الإنسان ورغباته كلها أمْ تمثّل وحوش فرانكنشتاين التي ستدمر الإنسان الذي اخترعها؟” بعد ذلك، أشار كومبتون إلى أنه يفضّل وجهة نظر أكثر واقعية، قائلاً: “سأحاول فقط تلخيص الوضع كما أراه”.

قدّم مقاله تأطيراً موجزاً للجدل القائم حول الوظائف والتقدم التقني بأسلوب لا يزال صالحاً للتطبيق حتى يومنا هذا، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار المخاوف الحالية المتعلقة بتأثير الذكاء الاصطناعي. فقد أدّت التطورات المذهلة الأخيرة في الذكاء الاصطناعي التوليدي، والروبوتات الذكية، والسيارات الذاتية القيادة، إلى إثارة مخاوف الكثيرين مرة أخرى من أن تحل التكنولوجيات المتطورة محل العاملين البشر، وتخفض الطلب الإجمالي على العمالة. وقد وصل الأمر حتى ببعض المتفائلين التكنولوجيين من كبار الشخصيات في وادي السيليكون إلى استنتاج يقول إننا نتجه نحو مستقبل دون وظائف، حيث يمكن تنفيذ كل شيء بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي.

وعلى حين تبدو التكنولوجيات الحالية دون شك مختلفة للغاية عن تلك التي كانت منتشرة في ثلاثينيات القرن الماضي، فإن مقالة كومبتون يمثّل تذكيراً جديراً بالاهتمام بأن المخاوف بشأن مستقبل الوظائف ليست بجديدة، وأن أفضل طريقة للتعامل معها تكمن في الفهم المعمّق للاقتصاد، بدلاً من الاعتماد على نظرة سطحية تشبّه ما يحدث بالجن والوحوش.

اقرأ أيضاً: يان لوكون مسؤول الذكاء الاصطناعي في ميتا: الذكاء الاصطناعي لن يدمر الوظائف

آثار غير متجانسة

شدد كومبتون على وجود فرق واضح بين آثار التقدم التكنولوجي على “الصناعة بأكملها” وآثاره، المؤلمة في أغلب الأحيان، على الأفراد.

بالنسبة للآثار على “الصناعة بأكملها”، استنتج كومبتون أن “البطالة التكنولوجية مجرد خرافة”. ويقول إن هذا يُعزى إلى أثر التكنولوجيا من حيث “خلق صناعات جديدة كثيرة” وتوسيع أسواق الكثير من السلع من خلال “تخفيض تكلفة الإنتاج لجعل الأسعار في متناول أعداد كبيرة من المشترين”. باختصار، أدّت التطورات التكنولوجية إجمالاً إلى خلق المزيد من الوظائف. لا تزال هذه الحجة صالحة للتطبيق في عصر الذكاء الاصطناعي، شأنها شأن التساؤل حول مدى صحتها.

انتقل كومبتون بعد ذلك، وبسرعة إلى وجهة نظر أخرى، حيث اعترف أن بعض العاملين والمجتمعات المحلية والشرائح المجتمعية يعاني آثار “البطالة التكنولوجية التي قد تمثّل مشكلة اجتماعية خطيرة للغاية، كما في حالة بلدة اضطرت إلى إغلاق مطحنتها أو حرفة يدوية طغت عليها صنعة جديدة”.

حتى الذين يوافقون على أن الوظائف ستعود “على المدى الطويل” يساورهم القلق إزاء “قدرة صغار الكسبة الذين فقدوا وظائفهم على توفير الطعام والعناية بعائلاتهم على المدى القصير”.

تمكن هذا التحليل من الإحاطة بالواقع بصورة جيدة، من حيث فقدان الملايين وظائفهم، مع وعود التقدم وفوائد الابتكار. كان كومبتون، وهو عالم فيزياء، رئيس أول مجلس استشاري علمي شكله الرئيس فرانكلين روزفلت، وقد افتتح مقاله لعام 1938 باقتباسٍ من تقرير المجلس الموجّه إلى الرئيس عام 1935: “لا يمكن لأي شخص مطلع أن ينكر أن العلم يمثّل وسيلة أساسية للحفاظ على سلامتنا وازدهارنا وسعادتنا على المستوى الوطني، وتحسين هذه النواحي في المستقبل”.

لكن تشديد كومبتون على أن التقدم التكنولوجي قد ينتج مكاسب إضافية على صعيد العمالة لم ينجُ من الجدل. فوفقاً لمقال منشور في صحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) من تأليف لويس ستارك في 1940، وهو أحد أهم الصحافيين المهتمين بشؤون العمال، “تصادم” كومبتون مع الرئيس روزفلت عندما قال الرئيس للكونغرس: “لم نتمكن حتى الآن من إيجاد طريقة للاستفادة من فائض العمالة الذي نتج عن زيادة فاعلية عملياتنا الصناعية”.

كما أوضح ستارك، كانت القضية تتلخص في التساؤل عمّا إذا كان “التقدم التكنولوجي، من خلال زيادة فاعلية عملياتنا الصناعية، سيؤدي إلى القضاء على الوظائف أسرع بكثير مما يخلقها”. أورد ستارك بيانات جمعها مؤخراً في ذلك الحين حول المكاسب الإنتاجية الكبيرة بسبب الآلات والعمليات الإنتاجية الجديدة في قطاعات عديدة، بما فيها صناعة السيجار والمطاط والنسيج. من الناحية النظرية، بناءً على ما قاله كومبتون، كان هذا يعني طرح كميات أكبر من السلع بأسعار أقل، ويعني-نظرياً أيضاً- زيادة الطلب على هذه المنتجات الزهيدة الثمن، ما يؤدي إلى خلق المزيد من فرص العمل. لكن المشكلة المثيرة للقلق، كما أوضح ستارك، كانت كما يلي: ما سرعة انخفاض الأسعار وزيادة الطلب بسبب زيادة الإنتاجية؟

على حد تعبير ستارك، حتى الذين وافقوا على أن الوظائف ستعود “على المدى الطويل” كانوا قلقين إزاء “قدرة صغار الكسبة الذين فقدوا وظائفهم على توفير الطعام والعناية بعائلاتهم على المدى القصير”.

وسرعان ما أدّى اندلاع الحرب العالمية الثانية بعد فترة قصيرة إلى اختفاء نقص فرص التوظيف، لكن القلق بشأن الوظائف لم يتوقف. في الواقع، لم يختفِ القلق بشأن البطالة التكنولوجية على الإطلاق، على الرغم من أنه بقي في حالة من المد والجزر على مدى العقود التالية وفقاً لحالة الاقتصاد.

اقرأ أيضاً: 4 أنواع من الوظائف لن تختفي بسبب الذكاء الاصطناعي

الأتمتة والذكاء الاصطناعي

لا تقتصر الدروس التي يمكن أن نستفيد منها في حقبة الذكاء الاصطناعي الحالية على فترة الثلاثينيات، بل تمتدُ أيضاً إلى بداية الستينيات. فقد كانت نسبة البطالة مرتفعة. ادّعى بعض كبار المفكرين في تلك الفترة أن الأتمتة والنمو السريع للإنتاجية سيتجاوزان وتيرة الطلب على العمالة. في 1962، سعت مجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو إلى دحض هذه المخاوف من خلال مقال ألّفه روبرت سولو، وهو اقتصادي عمل في معهد إم آي تي، وكان قد نال جائزة نوبل لعام 1987 لقاء عمله في شرح دور التكنولوجيا في النمو الاقتصادي، وقد توفي مؤخراً عن عمر 99 عاماً.

رسم كرتوني لروبرت سولو في 1962 ماشياً أمام ثلاثة فزّاعات غربان وهو يصفر بهدوء
تضمن مقال سولو في 1962 رسماً كرتونياً لشخص على هيئة سولو يتمشى وهو يصفر أمام ثلاثة رجال من القش (من المفترض أنهم عاطلون عن العمل).

 

 

كان المقال يحمل عنوان “المشكلات التي لا تُثير قلقي”، وقد سخر فيه من الفكرة التي تقول إن الأتمتة تؤدي إلى ارتفاع كبير في نسبة البطالة. أشار سولو في هذا المقال إلى أن نمو الإنتاجية بين 1947 و1960 بلغ 3% في العام الواحد تقريباً. وكتب قائلاً: “لا يمكننا الاستخفاف بهذا الأمر، لكنه من ناحية أخرى لا يمثّل حدثاً ثورياً”. ودون وجود زيادة كبيرة في الإنتاجية، لا يوجد أي دليل على ثورة صناعية ثانية “تهدد بوصول البطالة إلى مستويات كارثية”. لكن، وعلى غرار كومبتون، اعترف سولو بأن التغيرات التكنولوجية السريعة تؤدي إلى مشكلة من نوع مختلف: “ثمة أنواع محددة من العمالة قد تصبح عديمة الجدوى، وتؤدي إلى تخفيض مفاجئ للأسعار في السوق، وقد تكون التكلفة البشرية في هذه الحالة كبيرة للغاية”.

حالياً، يتمحور الذعر حول الذكاء الاصطناعي وغيره من التطورات في التكنولوجيا الرقمية. على غرار الثلاثينيات وأوائل الستينيات، اتسم العقد الثاني من هذا القرن بارتفاع البطالة، فقد كان الاقتصاد يكافح للتعافي من الأزمة المالية التي مرّ بها خلال الفترة 2007- 2009، غير أن هذه الفترة شهدت ظهور تكنولوجيات جديدة ومتطورة للغاية. فقد انتشرت الهواتف الذكية في كل مكان بصورة مفاجئة، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي تحقق نجاحاً وانتشاراً واسعين. كما بدأت تظهر ملامح السيارات الذاتية القيادة والتطورات في الذكاء الاصطناعي. هل أدّت هذه التطورات إلى تراجع الطلب على العمالة؟ وهل تكون مؤشراً على مستقبل خالٍ من الوظائف؟

مرة أخرى، ظهر هذا الجدل على صفحات إم آي تي تكنولوجي ريفيو. ففي مقالٍ كتبتُه بعنوان “كيف تؤدي التكنولوجيا إلى تدمير الوظائف“، قال الاقتصادي إريك برينجولفسون وزميله آندرو مكافي إن التغييرات التكنولوجية كانت تقضي على الوظائف بسرعة تفوق سرعتها في خلقها. وهذه المرة، لم يقتصر الأثر على إغلاق مطحنة وحسب. بل كانت التطورات في التكنولوجيا الرقمية تتسبب بفقدان الوظائف عبر قطاعات اقتصادية واسعة، ما أدى إلى ظهور شبح البطالة التكنولوجية من جديد.

فعلى غرار الثلاثينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، اتسم العقد الثاني من هذا القرن بارتفاع البطالة.

 

 

من الصعب أن نحدد سبباً واحداً لظاهرة معقدة للغاية مثل الانخفاض في نسبة العمالة الإجمالية، فقد يكون هذا الانخفاض ناجماً ببساطة عن تراجع النمو الاقتصادي. لكن أصبح من الواضح بصورة متزايدة، سواء من خلال البيانات أو عمليات الرصد اليومية، أن التكنولوجيات الجديدة كانت تحدث تغييراً في أنواع الوظائف المطلوبة. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة ليست بالظاهرة الجديدة، فإن نطاق هذا التحول كان مثيراً للقلق، وكذلك السرعة التي تحقق فيها الأمر. أدّت الروبوتات الصناعية إلى القضاء على الكثير من الوظائف في مجال التصنيع ذات الرواتب المجزية في أماكن مثل المنطقة المعروفة باسم “حزام الصدأ”. والآن، أصبح الذكاء الاصطناعي وغيره من التكنولوجيات الرقمية مصدرَ خطرٍ على الوظائف الكتابية والمكتبية، بل وحتى قيادة الشاحنات، كما يخشى البعض.

تحدث الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في خطابه الوداعي قبل ترك منصبه في يناير من عام 2017 عن “الوتيرة المتواصلة للأتمتة التي تحوّل الكثير من الوظائف الجيدة للطبقة المتوسطة إلى وظائف عديمة الفائدة”. وبحلول ذلك الوقت، كان من الواضح أنه ثمة حاجة إلى إعادة النظر في تفاؤل كومبتون. فقد تبين أن التطور التكنولوجي لم ينجم عنه نمو حتمي في الوظائف، وأن نتائجه السلبية لم تقتصر على عدد قليل من المواقع والصناعات المحددة.

اقرأ أيضاً: هل ينجح عمال الوظائف المؤقتة في مواجهة الخوارزميات؟

ما الذي يجعل ماسك مخطئاً؟

في مقابلة تعود إلى أواخر العام المنصرم مع رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، أعلن إيلون ماسك أننا سنصل يوماً ما إلى حالة “انعدام الحاجة إلى العمل” بفضل الذكاء الاصطناعي الذي سيصبح أقرب إلى “جني سحري يفعل ما نشاء”. أضاف ماسك أن هذا سيؤدي إلى أن نحصل جميعاً على “دخل شامل مرتفع بدلاً من دخل شامل أساسي”، فيما يبدو أنه إجابة عن سؤال كومبتون البلاغي بشأن إمكانية تحول الآلات إلى “الجني الذي سيلبي احتياجات البشر ورغباتهم كافة”.

قد يكون من المستحيل إثبات أن ماسك على خطأ، لأنه لم يربط تنبؤه الطوباوي بجدول زمني محدد، ولا يمكننا أن نطرح حجة معاكسة لقدرات جني سحري على أي حال. لكن تناقُل فكرة “انتهاء الحاجة إلى العمل” ليس سوى وسيلة للإلهاء فيما نحاول التوصل إلى أفضل طريقة لاستخدام الذكاء الاصطناعي لزيادة نمو الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة.

من المرجّح أن تؤدي الإنجازات غير المسبوقة في الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل تشات جي بي تي (ChatGPT) وغيره من النماذج اللغوية الكبيرة، إلى إحداث تحول في الاقتصاد وأسواق العمل، لكن ليس لدينا أي دليل مقنع يشير إلى أننا نتجه إلى مستقبل خال من الوظائف. إذا تأملنا ما قاله سولو، سنجد أنه لا داعي للقلق بشأن هذه المسألة ما لم تكن هناك مشكلة تدعو إلى القلق فعلياً.

اقرأ أيضاً: ما هي الوظائف الأكثر عرضة لاستيلاء الذكاء الاصطناعي عليها؟

وحتى وفقاً لتقدير متفائل من مؤسسة غولدمان ساكس (Goldman Sachs) البنكية حول آثار الذكاء الاصطناعي التوليدي، فإن أثره في نمو الإنتاجية يبلغ 1.5% في العام الواحد خلال الأعوام العشرة المقبلة. لا يمكننا الاستخفاف بهذا الأمر، كما قد يقول سولو، لكنه لن ينهي الحاجة إلى العاملين. وفقاً لتقرير غولدمان ساكس، فإن ثلثي الوظائف الأميركية تقريباً “معرضة إلى تأثير الأتمتة باستخدام الذكاء الاصطناعي وفق درجات مختلفة”. غير أننا نسيء فهم هذا الاستنتاج في أغلب الأحيان، فهو لا يعني أن الذكاء الاصطناعي سيستحوذ على هذه الوظائف كلها. بل كما يقول تقرير غولدمان ساكس، فإن معظم هذه الوظائف “معرض جزئياً فقط إلى الأتمتة”. بالنسبة للكثيرين من هؤلاء العاملين، سيصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً من بيئة العمل اليومي، ولن يؤدي بالضرورة إلى تسريحهم.

ليس تناقُل فكرة “انتهاء الحاجة إلى العمل” سوى وسيلة للإلهاء فيما نحاول التوصل إلى أفضل طريقة لاستخدام الذكاء الاصطناعي من أجل زيادة نمو الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة.

يمثّل عدد الوظائف الجديدة التي سيخلقها الذكاء الاصطناعي حتى مع اختفاء الوظائف الحالية أحد العوامل المهمة الحاسمة التي يصعب التنبؤ بها. من المعروف أن حساب التقديرات المتعلقة بخلق فرص العمل مهمة صعبة للغاية. لكن ديفيد أوتور وزملاءه من إم آي تي توصلوا مؤخراً، بعد إجراء الحسابات اللازمة، إلى أن 60% من الوظائف في 2018 تنتمي إلى فئات عمل لم تكن موجودة قبل 1940. أحد الأسباب التي جعلت الابتكار يخلق الكثير من فرص العمل الجديدة، هو أنه أدّى إلى زيادة الإنتاجية عند العاملين، وزيادة قدراتهم وتوسيع قدرتهم على أداء مهام جديدة. أمّا الخبر السيئ فهو أن خلق فرص العمل هذا يقابله تأثير الأتمتة المدمر للعمالة عندما تُستَخدم ببساطة للحلول محل العاملين. ووفقاً لاستنتاجات أوتور وزملائه، فإن أحد الأسئلة الجوهرية التي يجب التركيز عليها حالياً هو إن “كانت الأتمتة تتسارع بالنسبة لتعزيز القدرات، كما يخشى الكثير من الباحثين وصناع السياسات”.

في العقود الأخيرة، لجأت الشركات في كثيرٍ من الأحيان إلى استخدام الذكاء الاصطناعي والأتمتة المتطورة لخفض الوظائف وتقليص التكاليف. لا توجد قاعدة اقتصادية مفادها أن الابتكارات ستدعم تعزيز القدرات وخلق فرص العمل على حساب هذا النوع من الأتمتة. لكنْ، أمامنا خيارٌ متاحٌ للمستقبل، حيث يمكننا أن نستخدم التكنولوجيا للاستغناء عن العاملين ببساطة، أو يمكننا أن نستخدمها لتوسيع مهاراتهم وقدراتهم، ما يؤدي إلى النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة.

تضمن مقال كومبتون في 1938 بعض نقاط القوة التي ما زالت صالحة حتى الآن، ومنها الدعوة التي وجّهها إلى الشركات لتحمل مسؤوليتها في تخفيف سلبيات أي تحول يشهده قطاع التكنولوجيا. وتضمنت اقتراحاته “التعاون بين الصناعات المختلفة في أي مجتمع لتحقيق توافق زمني بين تسريح العاملين في شركة ما وتوظيف عاملين جدد في شركة أخرى”. قد يبدو هذا الاقتراح قد عفا عليه الزمن في ظل الاقتصاد العالمي الحالي، لكن الفكرة الأساسية لا تزال صائبة حتى الآن: “يمكن تلخيص المعيار الأساسي للإدارة الجيدة في هذا الشأن، كما في أي شأن آخر، بأن الدافع الرئيسي للعمل واتخاذ القرارات يجب ألّا يكون تحقيق أرباح سريعة، بل توفير خدمة نهائية مثالية للمجتمع”.

اقرأ أيضاً: في ظل زيادة الأتمتة في الوظائف، هل سينهي مديرك عملك؟

في هذا العصر الذي يشهد اكتساب شركات الذكاء الاصطناعي مستويات غير مسبوقة من النفوذ والثروة، يتعين على هذه الشركات أيضاً أن تتحمل قدراً أكبر من المسؤولية من حيث تأثير تكنولوجياتها في العاملين. لن يكون ابتداع جني سحري لتبرير فقدان الوظائف الحتمي كافياً، وبوسعنا أن نختار المسار الذي سيسلكه الذكاء الاصطناعي من حيث التأثير على مستقبل الوظائف.