كيف تحوّلت راست Rust من مشروع جانبي إلى لغة البرمجة الأكثر تفضيلاً في العالم؟

15 دقيقة
كيف تحوّلت راست من مشروع جانبي إلى لغة البرمجة الأكثر تفضيلاً في العالم؟
حقوق الصورة: جينوا جانغ
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يتم إجراء العديد من المشاريع البرمجية لأن أحد المبرمجين واجه مشكلة شخصية اضطر لحلها.

وهذا، نوعاً ما، ما حدث في عام 2006، حين كان غريدون هور (Graydon Hoare) مبرمج حواسيب يبلغ من العمر 29 عاماً، ويعمل في شركة موزيلا (Mozilla) التي طوّرت متصفح الإنترنت الشهير المفتوح المصدر، إذ عاد في أحد الأيام إلى منزله في مدينة فانكوفر الكندية، ولاحظ أن المصعد لا يعمل بسبب تعطل برنامجه، ولم تكن تلك المرة الأولى.

عاش هور في شقة في الطابق الحادي والعشرين، ومع صعود السلالم، شعر بانزعاج كبير. وقال في نفسه: “إنه لمن السخف أن يعجز المبرمجون عن تصميم مصعد يعمل دون مشكلات!. علم هور أن العديد من حالات توقف عمل المصاعد ناتجة عن مشكلات تتعلق بطريقة استخدام البرامج للذاكرة. غالباً ما يتم تصميم برمجيات المصاعد باستخدام لغتَي البرمجة سي++ (++C) وسي (C)، وهما لغتان تشتهران بأنهما تتيحان للمبرمجين كتابة الرموز البرمجية بسرعة وبطريقة مختصرة. تكمن المشكلة في أن هاتين اللغتين تسهّلان حدوث أخطاء الذاكرة التي تسبب توقف الأجهزة عن العمل. تقدّر شركة مايكروسوفت أن 70% من نقاط الضعف في الرموز البرمجية التي تصممها ناتجة عن أخطاء الذاكرة الناجمة عن الرموز البرمجية المكتوبة بلغتَي سي++ وسي.

اقرأ أيضاً: معرض لاس فيغاس للإلكترونيات الاستهلاكية 2023: الحدث التكنولوجي الأكثر تأثيراً في العالم

من مشكلة في صعود السلالم إلى حل أزمة برمجية

إذا اضطررنا لصعود السلالم لنصل إلى الطابق الحادي والعشرين فسيشعر معظمنا بالغضب فقط، لكن هور قرر معالجة هذه المشكلة، فشغّل حاسوبه المحمول وبدأ بتصميم لغة برمجة جديدة على أمل أن تمكّنه من كتابة رموز برمجية قصيرة سريعة من دون أخطاء الذاكرة. أطلق هور على هذه اللغة اسم راست (Rust) نسبة لمجموعة من الفطريات المميزة التي يقول إن لها “تصميماً شديد التطور يمكّنها من البقاء”.

بعد 17 سنة، أصبحت هذه اللغة إحدى أشهر لغات البرمجة في العالم، إذا لم تكن الأشهر. يستخدم 2.8 مليون مبرمج لغة راست حالياً، وتعتبرها مختلف الشركات من مايكروسوفت إلى أمازون عنصراً أساسياً في مستقبل البرمجة. استخدم مصممو منصة الدردشة ديسكورد (Discord) هذه اللغة لتسريع نظام هذه المنصة، كما أنها تستخدم في خدمة دروب بوكس (Dropbox) لمزامنة الملفات مع الحواسيب، وتستخدمها أيضاً شركة كلاود فلير (Cloudflare) لمعالجة أكثر من 20% من إجمالي حركة البيانات على الإنترنت.

تم تصنيف لغة راست على أنها لغة البرمجة “المفضلة” بين المبرمجين لمدة 7 سنوات متتالية في استطلاعات الرأي السنوية التي يجريها موقع ستاك أوفر فلو (Stack Overflow) لمطوري البرمجيات في جميع أنحاء العالم. حتى إن حكومة الولايات المتحدة تروّج لتصميم البرامج باستخدام هذه اللغة كطريقة لجعل العمليات التي تجريها أكثر أماناً. أصبح تطوير هذه اللغة، كالعديد من المشاريع مفتوحة المصدر الناجحة، جهداً جماعياً يشارك فيه مئات من المساهمين المتحمسين وكثير منهم متطوعون. تنحّى هور عن المشروع في عام 2013، وكان سعيداً بتسليمه لمجموعة المهندسين الآخرين التي تشمل فريق الهندسة الأساسي في شركة موزيلا.

ليس مستغرباً أن يبتكر شخص ما لغة برمجة جديدة، ويصمم العديد من المبرمجين لغات صغيرة كمشاريع جانبية بشكل متكرر. لكن من النادر أن تنتشر إحدى هذه اللغات على نطاق واسع وتصبح واحدة من اللغات المعروفة إلى جانب لغات مثل جافا سكريبت (JavaScript) وبايثون (Python) وجافا (Java). إذاً، كيف تمكنت لغة راست من احتلال هذه المكانة؟

اقرأ أيضاً: مجيء البرمجة: منافسة من أحاجي تنشر البهجة في عالم البرمجة

كيف احتلت لغة البرمجة راست هذه المكانة؟

لفهم ما يجعل لغة راست مفيدة للغاية، من الأفضل توضيح تفاصيل تفاعل لغات البرمجة مع ذاكرة الحاسوب.

بشكل تقريبي، يمكنك التفكير في الذاكرة الديناميكية على أنها سبورة، وعند تشغيل جزء من البرنامج يقوم بكتابة أجزاء صغيرة من البيانات على هذه السبورة، ويتتبع موقع كل جزء ويمحي الأجزاء التي لا حاجة لها. تجري لغات البرمجة المختلفة هذه العملية بطرق مختلفة، ويمنح تصميم اللغات الأقدم مثل سي وسي++ المبرمج حرية واسعة في طريقة استخدام البرامج للذاكرة ومتى تستخدمها. هذه القدرة التي يمتلكها المبرمجون مفيدة؛ إذ إنها تُتيح لهم التحكّم بالذاكرة الديناميكية بشكل كبير، ما يمكّنهم من تشغيل البرامج بسرعة كبيرة.

اقرأ أيضاً: 10 من أبرز الشركات التي تستخدم تكنولوجيا البيانات الضخمة

لهذا السبب، يتم استخدام لغتَي سي وسي++ عادة لكتابة الرموز البرمجية “الخام”، والتي تتفاعل بشكل مباشر مع الأجهزة الصلبة. تعمل الأجهزة التي لا تحتوي على أنظمة التشغيل مثل نظام ويندوز (Windows) أو لينوكس (Linux) باستخدام هذه الرموز البرمجية، وهي تشمل أجهزة مختلفة بدءاً من أجهزة غسيل الكلى وصولاً إلى آلات تسجيل المدفوعات النقدية. (كما يتم استخدام هذه الرموز في أغراض الحوسبة المتقدمة، إذ إن أنظمة التشغيل تحتاج للتواصل مع الأجهزة الصلبة في مرحلة ما من عملها، وتتم كتابة الجزء الأكبر من رموز النوى البرمجية في الأنظمة مثل ويندوز ولينوكس وماك أو إس (MacOS) باستخدام لغة البرمجة سي).

“الكتابة باستخدام لغة راست ممتعة، قد يكون ذلك غريباً، ولكن هذه اللغة رائعة ببساطة. إنها مسلية، وستشعر بأنك ساحر في أثناء استخدامها، وهذا لا يحدث مطلقاً عند استخدام اللغات الأخرى”.

باركر تيمرمان، مهندس برمجيات

مشاكل لغات البرمجة الأخرى

على الرغم من سرعة اللغات مثل سي وسي++، فهي لا تخلو من المشكلات. تتطلب هذه اللغات من المبرمج أن يتتبّع بحذر الذواكر التي تتم الكتابة فيها، وتحري الوقت المناسب ليمحو البيانات منها. وإذا نسي المبرمج محو البيانات عن طريق الخطأ، فيمكن أن يتسبب ذلك في تعطل البرنامج؛ إذ سيحاول استخدام المساحة التي يعتبرها فارغة من الذاكرة في حين أنها تحتوي على البيانات. وأيضاً، يمكن أن يتسبب ذلك في منح الدخلاء الرقميين طريقة لاختراق البرنامج. قد يكتشف المخترقون أن البرنامج لا يفرّغ الذاكرة بشكل صحيح؛ إذ إن المعلومات التي كان من المفترض أن تُحذف (مثل كلمات المرور والمعلومات المالية) لا تزال موجودة، ما يُتيح لهم الحصول عليها. مع ازدياد طول جزء من الرمز البرمجي المكتوب باستخدام لغة سي++، من المحتمل أن يرتكب حتى أكثر المبرمجين حذراً الكثير من أخطاء الذاكرة، ما يملأ البرنامج بالأخطاء البرمجية.

اقرأ أيضاً: كيف تعلم آبل البرمجة للأطفال عبر اللعب

تقول المؤسِّسة المشاركة لشركة فيوجن إنجينيرينغ (Fusion Engineering) ورئيسة فريق مكتبة لغة البرمجة راست، مارا بوس (Mara Bos): “نخشى دائماً عند استخدام لغتَي سي وسي++ من توقف البرامج عن العمل فجأة”.

في تسعينيات القرن الماضي، انتشرت مجموعة جديدة من لغات البرمجة على نطاق واسع، مثل جافا وجافا سكريبت وبايثون، وهي تُستخدم بأسلوب مختلف تماماً. لتخفيف الضغط عن المبرمجين، تتحكم هذه اللغات بالذاكرة آلياً بواسطة ما يدعى “مجمّعات النفايات” (مجمعات البيانات عديمة النفع)، وهي مكونات تحذف البيانات من الذاكرة بصورة دورية في أثناء تشغيل أجزاء من البرامج. باستخدام هذه المكونات، تمكّن المبرمجون من كتابة رموز برمجية من دون أخطاء الذاكرة. لكن الجانب السلبي كان فقدان تلك السيطرة الدقيقة. كان أداء البرامج أيضاً أكثر بطئاً (لأن جمع نفايات البيانات يستغرق وقتاً حاسماً في المعالجة)، كما استخدمت البرامج المكتوبة بهذه اللغات ذاكرة أكبر بكثير. لذلك أصبح عالم البرمجة منقسماً تقريباً إلى مجموعتين: إذا احتاج البرنامج إلى التشغيل بسرعة أو على شريحة صغيرة في جهاز مدمج، فمن المرجح أن يُكتب بلغة سي أو سي ++، أما إذا كان البرنامج تطبيق ويب أو تطبيقاً للهاتف المحمول -وهو مجال متنامٍ من عالم الكود- فسيُكتب بلغة أحدث قائمة على مجمعات النفايات.

في حالة لغة البرمجة راست، كان هدف هور هو تصميم لغة تمثّل نهجاً وسيطاً بين النهجين السابقين. لا تتطلب هذه اللغة من المبرمجين تحديد مواقع تخزين البيانات في الذواكر بشكل يدوي؛ إذ إنها تقوم بذلك بنفسها. مع ذلك، تفرض هذه اللغة العديد من القواعد الصارمة والمتعلقة بطريقة استخدام البيانات أو نسخها داخل البرنامج. إذا أردت تعلّم هذه اللغة، ستضطر لتعلّم قواعد الترميز البرمجي هذه، والتي تعتبر أكثر صعوبة من قواعد لغتَي بايثون وجافا سكريبت. ستكون كتابة الرموز البرمجية أصعب باستخدام هذه اللغة، ولكنها ستكون أيضاً “آمنة من ناحية الذاكرة”؛ أي أنها لن تتسبب في حدوث الأخطاء في الذاكرة. يتمثّل أحد الجوانب البالغة الأهمية في أن هذه اللغة توفر أيضاً “الأمان من ناحية تزامن البرامج”. تُجري البرامج الحديثة أكثر من عملية واحدة في الوقت نفسه، أو بشكل متزامن. وأحياناً، يمكن أن تعدّل هذه العمليات البرمجية المختلفة الجزء نفسه من الذاكرة في الوقت نفسه تقريباً. يمنع نظام التحكم في الذاكرة الذي يفرضه استخدام لغة راست هذه العملية.

اقرأ أيضاً: 10 من أبرز الشركات العاملة في إنتاج شرائح الذكاء الاصطناعي وتطويرها

عندما بدأ هور في العمل على تصميم لغة راست، كانت لديه خبرة 10 سنوات من العمل في البرمجيات؛ إذ إنه عمل بدوام كامل في شركة موزيلا. كان تطوير لغة راست مشروعاً جانبياً في البداية، وعمل عليه بجد بضع سنوات، وعندما عرض عمله على المبرمجين الآخرين، كانت ردود أفعالهم متفاوتة. قال لي هور في رسالة عبر البريد الإلكتروني: “جوبهت بالقليل من الحماس، والكثير من التشكيك والتذمر. وقال لي الكثيرون إن ‘هذه الطريقة لن تعمل’ أو إنها ‘ليست قابلة للتطبيق'”.

من بداية قليلة الحماس إلى تطوير لغة راست

مع ذلك، أثارت هذه اللغة اهتمام المسؤولين التنفيذيين في شركة موزيلا. أدرك هؤلاء أن لغة راست قد تساعدهم على تصميم محرك تصفّح أكثر جودة. متصفحات الإنترنت هي برامج تشتهر بتعقديها وبأنها عرضة لحدوث أخطاء الذاكرة الخطيرة.

أحد المبرمجين الذين شاركوا في تطوير لغة راست هو باتريك والتون (Patrick Walton)، الذي انضم إلى شركة موزيلا بعد أن قرر الانسحاب من دراسة درجة الدكتوراة في مجال لغات البرمجة. يتذكر والتون مخترع لغة جافا سكريبت، برندان آيخ (Brendan Eich)، الذي دعاه لحضور اجتماع في شركة موزيلا قائلاً: “قال لي آيخ: ‘لماذا لا تدخل هذه الغرفة حيث سنناقش قرارات التصميم الخاصة بلغة راست؟'”. اعتقد والتون أن هذه اللغة تبدو واعدة، وانضم إلى هور ومجموعة متنامية من المهندسين لتطوير هذه اللغة. تمتّع الكثيرون، مثل المهندسيَن العاملَين في شركة موزيلا، نيكو ماتساكيس (Niko Matsakis) وفيليكس كلوك (Felix Klock)، بخبرة أكاديمية في البحث في الذاكرة ولغات البرمجة.

كيف تحوّلت راست من مشروع جانبي إلى لغة البرمجة الأكثر تفضيلاً في العالم؟
أدرك المسؤولون التنفيذيون في شركة موزيلا (Mozilla) أن لغة راست (Rust) قد تساعدهم على تصميم محرك تصفح بجودة أعلى، وكلّفوا عدة مهندسين باستخدام هذه اللغة لتصميم محرك تصفح جديد، ومن بينهم (1) باتريك والتون (Patrick Walton)، الذي انضم إلى شركة موزيلا بعد أن قرر التوقف عن إجراء دراسات الدكتوراة في مجال لغات البرمجة، و(2) نيكو ماتساكيس (Niko Matsakis) و(3) فيليكس كلوك (Felix Klock)، اللذان يتمتعان بخبرة أكاديمية في مواضيع الأبحاث المتعلقة بالذاكرة ولغات البرمجة، ومدير فريق أدوات مطوري لغة راست، (4) مانيش غوريغاوكار (Manish Goregaokar).

في عام 2009، قررت شركة موزيلا رعاية لغة راست رسمياً، وتقرر أن تكون اللغة مفتوحة المصدر، ويحمل مطوروها مسؤولية إدارتها ومراقبتها دون تدخل أي جهة خارجية. مع ذلك، حاولت شركة موزيلا تمويلها من خلال دفع المال للمهندسين. تم تخصيص غرفة اجتماعات في الشركة لفريق تطوير لغة راست، وأطلق المؤسس المشارك لشركة موزيلا، ديف هيرمان (Dave Herman)، لقب “كهف المهووسين” على هذه الغرفة، ووضع لافتة بهذه العبارة على الباب. يقدّر هور إنه على مدى السنوات العشر التي تلت ذلك، وظّفت شركة موزيلا أكثر من 10 مهندسين للعمل على لغة راست بدوام كامل.

يقول والتون: “شعر الجميع بأنهم يعملون على مشروع قد ينمو ليكتسب أهمية كبيرة”. امتد هذا الحماس إلى خارج شركة موزيلا أيضاً؛ إذ إنه بحلول أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، جذبت لغة راست المتطوعين من جميع أنحاء العالم ومختلف المجالات التكنولوجية، بعضهم يعمل في شركات التكنولوجيا الكبيرة، وكان أحد المساهمين الرئيسيين طالباً في المدرسة الثانوية في ألمانيا. في مؤتمر أجرته شركة موزيلا في مقاطعة كولومبيا البريطانية في عام 2010، قال آيخ إنه سيتم الحديث عن لغة برمجة تجريبية جديدة، وقال أيضاً وفقاً لوالتون: “لا تحضر إلا إذا كنت مهووساً حقيقياً بلغات البرمجة”. يقول والتون: “بالطبع، حضر الكثيرون هذا الحديث”.

اقرأ أيضاً: معيار تصميم جديد قد يقلب صناعة الرقائق الإلكترونية رأساً على عقب

لغة راست: تحسين قدرة إدارة الذاكرة

خلال أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حسّن كل من مهندسي شركة موزيلا والمتطوعين من جميع أنحاء العالم جوهر لغة راست بشكل تدريجي، والمتمثّل في قدرتها على إدارة الذاكرة. قام هؤلاء بإنشاء نظام “ملكية” ينطوي على الإشارة إلى جزء من البيانات بواسطة متغير واحد فقط، ما يقلل بشكل كبير من احتمال حدوث أخطاء الذاكرة. يفرض البرنامج المترجم (أو المصرّف) الخاص بلغة راست قواعد الملكية هذه بصرامة، وهو الذي يحول أسطر الرموز البرمجية إلى نظام التشغيل الذي يعمل على الحواسيب. إذا انتهك المبرمج هذه القواعد، لن يعمل المترجم على تحويل الرموز البرمجية إلى برنامج قابل للتشغيل.

لم تكن الكثير من الأفكار المستخدمة في تطوير لغة راست جديدة. يقول مدير فريق أدوات مطوري لغة راست، مانيش غوريغاوكار (Manish Goregaokar)، الذي عمل مع شركة موزيلا في السنوات الأولى من تطوير هذه اللغة: “نتجت هذه الأفكار عن أبحاث أجريت قبل عقود”. لكن المهندسين الذين عملوا على تطوير لغة راست كانوا بارعين في العثور على هذه الأفكار المحسّنة وتحويلها إلى ميزات عملية وقابلة للاستخدام.

اقرأ أيضاً: أحد الفائزين بجائزة مليون مبرمج عربي: ما هي اللغة التي سيتخاطب بها البشر مع الروبوتات في المستقبل؟

مع استمرار الفريق بتحسين نظام إدارة الذاكرة، انخفضت الحاجة لاستخدام مجمع النفايات الخاص بلغة راست بشكل تدريجي، وبحلول عام 2013، قام الفريق بإزالته تماماً. وبذلك، أصبح بالإمكان تشغيل البرامج المكتوبة بلغة راست بسرعة أكبر؛ إذ إنه لم تعد هناك حاجة لفترات التوقّف الدورية التي يزيل فيها الحاسوب البيانات عديمة النفع من الذاكرة. يشير هور إلى أن بعض مهندسي البرمجيات يقولون إن لغة راست تحتوي على عناصر تشبه مجمعات النفايات نوعاً ما، مثل نظام “العد المرجعي”، وهو جزء من آلية عمل نظام ملكية الذاكرة. ولكن بجميع الأحوال، ازدادت كفاءة أداء هذه اللغة بشكل ملحوظ، وتساوت مع كفاءة لغتَي سي وسي++، ولكنها كانت آمنة من ناحية الذاكرة.

مجمعات نفايات البيانات أدت إلى تطوير لغة برمجة أكثر فاعلية

يقول المبرمج الذي عمل في فريق لغة راست في عام 2012، ستيف كلابنيك (Steve Klabnik)، الذي وثّق الرموز البرمجية لهذه اللغة خلال السنوات العشر التي تلت ذلك، إن التخلي عن عملية جمع البيانات عديمة النفع “أدى إلى تطوير لغة أكثر اختصاراً وفاعلية”. (توثيق الرموز البرمجية هو توضيح الرموز باستخدام مزيج من الصور والتفسيرات النصية التي تبين وظيفة الرموز واستخداماتها).

خلال سنوات العمل، أسس مجتمع العاملين على تطوير لغة البرمجة راست بيئة اشتهرت بأنها ودية بشكل غير اعتيادي ومنفتحة على الوافدين الجدد. تقول المهندسة الرئيسية في شركة مايكروسوفت، نيل شامريل-هارينغتون (Nell Shamrell-Harrington)، التي عملت في فريق راست خلال تلك الفترة: “لم يطلق عليّ أحد في هذا الفريق لقب ‘مستجدة‘، ولم يُعتبر أي سؤال غبياً”.

مجتمع لغة راست: أكثر من مجرد تجمع للعمل

وفقا لشامريل-هارينغتون، أحد أسباب ذلك هو أن هور أصدر في وقت مبكر من المشروع “مدونة قواعد السلوك” التي تحظر المضايقات وينبغي أن يلتزم بها أي شخص يسهم في المشروع. تبنّى مجتمع لغة راست هذه المدونة، ويقول الأعضاء القدامى في هذا المجتمع إن ذلك دفع الأشخاص من مختلف الميول للعمل في المشروع. حتى إن رسائل الخطأ التي يظهرها المترجم عندما يرتكب المبرمج خطأً ما كانت مهذبة بشكل غير معتاد؛ إذ إنها احتوت على وصف للخطأ وبعض الطرق المقترحة لإصلاحه.

تقول شامريل-هارينغتون ضاحكة: “يشعرني المترجم في لغتَي سي وسي++ بأني شخص سيئ عندما أرتكب خطأً ما يعمل مترجم لغة راست بطريقة تشعرك بأنه يرشدك لكتابة رموز برمجية آمنة للغاية”.

اقرأ أيضاً: أهم خطط وقرارات التكنولوجيا للعام الجديد 2023

بحلول عام 2015، أصبح فريق مطوري لغة راست مهووساً بإصدار نسخة “مستقرة” من هذه اللغة وموثوقة بما يكفي لتستخدمها الشركات في تصميم البرامج التي ستصدرها للمستهلكين. في ذلك الوقت، مرت 6 سنوات منذ أن تبنّت شركة موزيلا تطوير لغة راست. وخلال هذه الفترة الطويلة من العمل، تشوّق المبرمجون لتجريب نسخ أولية من اللغة، على الرغم من أنها قد تكون رديئة. وبالفعل، كان ذلك هو الحال؛ إذ يقول غوريغاوكار: “توقف المترجم عن العمل بشكل متكرر”. حان الوقت عندها لإصدار النسخة الأولى من اللغة.

يتذكر والتون أنه أمضى ساعات طويلة في العمل منحنياً على حاسوبه الشخصي. ويقول إن كلابنيك “كتب نحو 45 صفحة من الوثائق خلال أسبوعين من الزمن”. في 15 مايو/ أيار من عام 2015، أصدرت المجموعة أخيراً النسخة الأولى من اللغة، واجتمعت مجموعات من المهتمين بهذه اللغة في جميع أنحاء العالم للاحتفال.

اقرأ أيضاً: لهذه الأسباب نحن بحاجة إلى مدن أكثر ذكاء

النسخة الأولى من لغة راست

سرعان ما بدأ استثمار شركة موزيلا يؤتي ثماره. في عام 2016، أصدر فريق من هذه الشركة متصفحاً جديداً يحمل اسم سيرفو (Servo) تم تصميمه اعتماداً على لغة راست. وفي عام 2017، استخدم فريق آخر هذه اللغة لإعادة كتابة الجزء من رمز متصفح فاير فوكس (Firefox) البرمجي الذي يقوم بعملية تقديم لغة سي إس إس (CSS)، التي تستخدم لتحديد مظهر متصفحات الإنترنت (تقديم لغة البرمجة هي العملية التي تحوّل الرموز البرمجية إلى واجهات يستطيع المستخدمون التفاعل معها على صفحات الويب)، وأدّى هذا التغيير إلى تحسين أداء المتصفح بشكل ملحوظ. استخدمت شركة موزيلا أيضاً لغة راست لإعادة كتابة الرموز البرمجية التي تدير ملفات الوسائط المتعددة إم بي 4 (MP4) وكانت عرضة للكشف عن رموز غير آمنة وضارة.

سرعان ما علم مطورو لغة راست، أو “الراستيّون” كما يدعون أنفسهم، أن الشركات الأخرى تحاول استخدام لغتهم؛

أخبر المبرمجون في شركة سامسونج (Samsung) كلوك، الذي كان يعمل في مكتب شركة موزيلا في فرنسا أنهم بدؤوا باستخدام لغة راست. استخدمت شركة فيسبوك (والمعروفة لاحقاً باسم ميتا، Meta) لغة راست لإعادة تصميم البرمجيات التي تعتمد عليها برامجها في إدارة الرمز البرمجي المصدري الداخلي. يقول والتون الذي يعمل في شركة ميتا حالياً: “من الصعب وصف مدى أهمية هذا الرمز البرمجي المصدري”.

اقرأ أيضاً: 6 ابتكارات تكنولوجية لعالم أفضل

سرعان ما بدأ استخدام لغة راست في جوهر بعض البرامج البالغة الأهمية. في عام 2020، كشفت شركة دروب بوكس (Dropbox) عن نسخة جديدة من “محرك المزامنة” الخاص بها، وهو البرنامج الذي يقوم بمزامنة الملفات بين حواسيب المستخدمين والتخزين السحابي لبرنامج دروب بوكس، وهو مكتوب باستخدام لغة راست. صُمّم هذا البرنامج باستخدام لغة بايثون في الأصل، ولكنه أصبح مسؤولاً عن إدارة مليارات الملفات وتريليونات الملفات التي تتم مزامنتها على الإنترنت. يقول مهندس البرمجيات الذي ترك شركة دروب بوكس مؤخراً، باركر تيمرمان (Parker Timmerman)، إن استخدام لغة راست جعل التعامل مع التعقيد أسهل و”مسلياً” أكثر حتى.

يضيف تيمرمان قائلاً: “الكتابة باستخدام لغة راست ممتعة، قد يكون ذلك غريباً، ولكن هذه اللغة رائعة ببساطة. إنها مسلية، وستشعر بأنك ساحر في أثناء استخدامها. وهذا لا يحدث مطلقاً عند استخدام اللغات الأخرى، لا شك في أننا خاطرنا باستخدام هذه اللغة؛ إذ إنها تكنولوجيا جديدة في النهاية”.

اقرأ أيضاً: ما هي المدن الذكية؟ وما هي أبرز التكنولوجيات التي تجعلها ذكية حقاً؟

لاحظت بعض الشركات أن لغة راست خففت الخوف من وقوع أخطاء الذاكرة. استخدمت مارا بوس لغة راست لإعادة كتابة برمجيات شركتها المسؤولة عن التحكم بالطائرات من دون طيار بالكامل، والتي كانت مكتوبة باستخدام لغة سي++.

من ناحية أخرى، لاحظت شركات أخرى فوائد الاستغناء عن برامج جمع البيانات عديمة الفائدة. في شركة ديسكورد، عانى المهندسون لفترة طويلة من أن مجمّعات النفايات تبطئ العمل في لغة البرمجة غو (Go) التي استخدموها لكتابة أجزاء بالغة الأهمية من برامجهم. أجرت هذه البرامج عملية جمع البيانات عديمة الفائدة كل دقيقتين تقريباً، على الرغم من أنهم كتبوا الرموز بحذر شديد وبغياب أي بيانات عديمة الفائدة يجب جمعها. في عام 2020، أعاد مهندسو شركة ديسكورد كتابة برامجهم باستخدام لغة راست، التي لاحظوا أنها تعمل بسرعة تعادل 10 أضعاف سرعة لغة غو.

حتى المسؤولين التنفيذيين والمهندسين في منصة أمازون ويب سيرفيسز (Amazon Web Services)، وهي منصة الحوسبة السحابية الخاصة بشركة أمازون العملاقة، أصبحوا مقتنعين بأن لغة راست يمكن أن تساعدهم على كتابة رموز برمجية أسرع وأكثر أماناً. يقول المهندس البرمجي، شين ميلر (Shane Miller)، الذي أسس الفريق الخاص بلغة راست في منصة أمازون ويب سيرفيسز قبل مغادرته الشركة في عام 2022: “صُممت هذه اللغة بطريقة تجعلها قادرة على منح المستخدمين مزايا لا يحصلون عليها باستخدام اللغات الأخرى؛ إذ إنها تحتوي على عدد كبير من الميزات الفريدة”.

كفاءة استهلاك الطاقة في صالح لغة راست

ما أثار انتباه شركة أمازون هو دراسة للرموز البرمجية المكتوبة بلغة راست وجدت أن هذه اللغة تعمل بكفاءة عالية لدرجة أنها تستخدم نصف كمية الطاقة الكهربائية التي تستخدمها البرامج الشبيهة والمكتوبة بلغة جافا التي استخدمت على نطاق واسع في منصة أمازون ويب سيرفيسز. يقول ميلر: “يمكننا باستخدام هذه اللغة أن ننشئ مركز بيانات ينجز ضعفَي كمية العمل التي ننجزها بالطرق الأخرى. كما يمكننا إنجاز مقدار العمل نفسه في مركز بيانات له نصف الحجم، ما يتيح لنا إنشاء هذا المركز في المدن بدلاً من الضواحي الخارجية”.

شعر بعض المساهمين القدامى في تطوير لغة راست بالقلق بعض الشيء بسبب نجاح هذه اللغة؛ إذ إنه مع تبنّي شركات التكنولوجيا العملاقة لهذه اللغة، فهي تكتسب المزيد من القدرة على التحكم بتطويرها. لدى هذه الشركات ما يكفي من المال لدفع رواتب المهندسين مقابل العمل بدوام كامل لتطوير لغة راست. على سبيل المثال، يعمل العديد من قادة فرق تطوير هذه اللغة كموظفين في شركات مثل أمازون ومايكروسوفت. من ناحية أخرى، يضطر المساهمون المهمون الآخرون للعمل على هذه اللغة في أوقات فراغهم. على سبيل المثال، تعمل بوس على تطوير لغة راست بموجب عقد لصالح شركة هواوي (Huawei)، وذلك بالإضافة إلى إدارة شركة الطائرات من دون طيار الناشئة الخاصة بها. إلا أن وظيفتها كرئيسة لفريق مكتبة لغة راست غير مدفوعة.

تقول بوس إن هذا أمر شائع في العمل على المشاريع مفتوحة المصدر؛ إذ تستطيع الشركات الكبيرة بهذه الطريقة المشاركة بشكل أكبر بالإضافة إلى توجيه المشروع تجاه حل بعض المشكلات التي تهمّها، والتي قد لا تهم الشركات الأصغر. تقول بوس: “يمنح ذلك هذه الشركات درجة ما من التحكّم”. تضيف بوس قائلة إنه حتى الآن، لم تتخذ أي من هذه الشركات إجراءات مقلقة. يوافق كلابنيك على كلام روس، وقد أثار بعض المخاوف حول انخراط شركة أمازون في تطوير لغة راست (وترك فريق راست في عام 2022)، يقول: “يثير هذا الموضوع قلقي. ولكني لا أعتقد أنه أمر سيئ أو أنه أسوأ من المشاريع الأخرى”.

لغة راست: محط اهتمام شركات وادي السيليكون

في عام 2021، موّلت شركات التكنولوجيا الكبيرة إنشاء مؤسسة غير ربحية خاصة بلغة البرمجة راست لدعم المبرمجين المتطوعين، وتحمل هذه المؤسسة اسم مؤسسة راست (Rust Foundation). قاد ميلر هذه المؤسسة في أول عامين، وهي تقدّم منحاً قيمتها 20 ألف دولار للمبرمجين الذي يرغبون بالعمل على تطوير الميزات الأساسية للغة راست. كما أنها تقدّم منح “المشقة المالية” للمساهمين الذين يحتاجون إلى الدعم المالي القصير الأجل. تموّل هذه المؤسسة الخوادم التي تحتوي على رمز لغة راست البرمجي، وتدفع المال لإحدى شركات التكنولوجيا لضمان أن تعمل هذه الخوادم بشكل دائم. يقول ميلر إنه كما جرت العادة في المشاريع المفتوحة المصدر، نفّذ هذا العمل “متطوعان كانا تحت الطلب نصف حياتهما، وكان أحدهما طالباً في إيطاليا”.

اتسع نطاق استخدام لغة راست بسرعة وعلى نحو غير متوقع، وإذا اعتبرنا أن لغة راست ولدت في عام 2006، فهي الآن في المرحلة الأخيرة من مراهقتها والمرحلة الأولى من النضج. تستخدم شركات السيارات لغة راست في كتابة الرموز البرمجية البالغة الأهمية التي تعمل السيارات اعتماداً عليها، كما بدأت شركات الطيران باستخدامها أيضاً. يقول تيمرمان: “سيتم استخدام هذه اللغة في مختلف المجالات”. أشار المسؤولون التنفيذيون في شركة مايكروسوفت علناً إلى ما قد يفكر فيه العديد من شركات التكنولوجيا الأخرى سرّاً، وقالوا إن الشركة ستستخدم لغة راست أكثر فأكثر لكتابة الرموز البرمجية الجديدة على حساب لغتَي سي وسي++. وقد تتخلى هذه الشركة عن هاتين اللغتين تماماً في النهاية.

اقرأ أيضاً: أبرز توجهات قطاع التكنولوجيا عام 2023

لن تختفي الرموز البرمجية المكتوبة بلغتَي سي وسي++ المتداولة حالياً؛ وستستخدم في العقود القادمة على الأرجح. لكن إذا أصبحت لغة راست الطريقة الشائعة لكتابة الرموز البرمجية الجديدة التي يجب أن تكون سريعة ومختصرة، فقد نلاحظ أنه بمرور الزمن، ستصبح البرمجيات التي نستخدمها موثوقة أكثر وستصبح أقل عرضة للتوقف عن العمل وأكثر أماناً.

لن يُذهل أحد من ذلك أكثر من هور، والذي يقول: “يتم التخلّي عن معظم لغات البرمجة الجديدة في المراحل المبكرة من تطويرها”.