لهذه الأسباب نحن بحاجة إلى مدن أكثر ذكاء

4 دقائق
لهذه الأسباب نحن بحاجة إلى مدن أكثر ذكاء
محطة قطارات في مدينة كوريتيبا في البرازيل
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

نشأ مصطلح “المدن الذكية” كاستراتيجية تسويق لكبرى الشركات التي تبيع المنتجات التكنولوجية. وقد أصبح الآن مقترناً بالاستخدامات الحضرية للتكنولوجيا، خصوصاً التكنولوجيات المتطورة والناشئة. ولكن المدن ليست مجرد كتلة من اتصالات الجيل الخامس والبيانات الكبيرة والسيارات ذاتية القيادة والذكاء الاصطناعي. فهي عوامل أساسية محركة للفرص والازدهار والتقدم. وهي تدعم أولئك الذين أثرت عليهم الحروب والأزمات، وتولد 80% من الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم. وسيعيش أكثر من 68% من سكان العالم في المدن بحلول العام 2050، أي أكثر من الآن بمقدار 2.5 مليار نسمة. وبوجود أكثر من 90% من المناطق الحضرية على السواحل، أصبحت المدن على الخطوط الأمامية للتغير المناخي.

إن التركيز على بناء “المدن الذكية” يعرض المدن إلى خطر تحولها إلى مشاريع تكنولوجية. فنحن نتحدث عن “المستخدمين” بدلاً من أن نتحدث عن الناس. ونتحدث عن الأرقام “النشطة يومياً” وشهرياً بدلاً من أن نتحدث عن السكان. ونتحدث عن حملة الأسهم والمشتركين بدلاً من المواطنين. ويؤدي هذا أيضاً إلى خطر اعتماد مقاربة مادية –وتنطوي على الكثير من القيود- لتحسين المدينة، بحيث تركز على العوائد الفورية على الاستثمار، أو الإنجازات التي يمكن التعبير عنها بمؤشرات الأداء.

اقرأ أيضاً: لماذا تنفر بعض المجتمعات من فكرة المدن الذكية؟ دراسة حالة في تورنتو

مفاهيم أكثر شمولية

إن المدن الذكية تعترف فعلاً بوجود عوامل مجهولة للحياة والمعيشة، وأنها تُقاد بنتائج تتجاوز مجرد عملية تطبيق بسيطة لما نطلق عليه تسمية “الحلول”. وهي تُحدد بمواهب سكانها، وعلاقاتهم، وإحساسهم بالملكية، لا بالتكنولوجيا المطبقة فيها.

إن هذا المفهوم الأكثر شمولية لتعريف المدينة الذكية ينطوي على نطاق واسع من الابتكارات الحضرية. فسنغافورة، والتي تدرس مقاربات تكنولوجية متطورة، مثل التوصيل بالطائرات المسيرة ونمذجة الواقع الافتراضي، تمثل أحد أنواع المدن الذكية. وتمثل كوريتيبا في البرازيل، وهي من المدن الرائدة في مجال النقل العام السريع بالحافلات، نوعاً آخر من المدن الذكية. أما هاراري، عاصمة زيمبابوي، والتي تتضمن مراكز تسوق مبردة سلبياً تم تصميمها عام 1996، فهي مدينة ذكية أيضاً، شأنها شأن “المدن الإسفنجية” الموزعة في الصين، والتي تعتمد على حلول طبيعية الأساس للتعامل مع هطول الأمطار ومياه الفيضانات.

وعندما يمكن للتكنولوجيا أن تؤدي دوراً ما، يجب تطبيقها بعناية وبصورة شاملة، أي مع مراعاة الاحتياجات والظروف الواقعية لسكان المدينة، وطموحاتهم أيضاً. تعتمد مدينة غواتيمالا بالتعاون مع فريق مكتب مقاطعتنا في برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة على هذه المقاربة لتحسين أسلوب إدارة البنى التحتية للمدينة، بما فيها المتنزهات والإنارة. وتعمل المدينة على وضع معايير للمواد والتصاميم للتخفيف من التكاليف وجهد العمل، كما تعمل على زيادة سرعة وسلاسة عمليات الموافقة والتوزيع لتحسين سرعة الإصلاحات والصيانة ورفع جودتها. ويرتكز كل شيء على احتياجات مواطنيها. وفي أماكن أخرى في أميركا اللاتينية، لم تعد المدن تقتصر في عملها على المتغيرات الكمية، بل بدأت تأخذ بعين الاعتبار مستوى الرفاهية والعديد من النتائج الدقيقة الأخرى أيضاً.

وفي كتابها الذي يحمل عنوان: موت وحياة المدن الأميركية العظيمة (The Death and Life of Great American Cities)، تتحدث رائدة تخطيط المدن الأميركية جين جيكوبز (Jane Jacobs) عن أهمية الأرصفة. ففي سياق المدينة، تمثل الأرصفة ممرات المغامرات، والتواصل الاجتماعي، والمصادفات غير المتوقعة، وهو ما أطلقت عليه جيكوبز اسم “باليه الأرصفة”. وكما تمثل الأرصفة الفعلية عنصراً مهماً من التجربة الحضرية، فإن الفكرة العامة للربط بين العناصر لا تقل أهمية عنها.

إن المدن الذكية تعترف فعلاً بوجود عوامل مجهولة للحياة والمعيشة، وأنها تُقاد بنتائج تتجاوز مجرد عملية تطبيق بسيطة لما نطلق عليه تسمية “الحلول”.

ولكننا نشهد في أغلب الأحيان أن “المدن الذكية” تركز على تطبيقات متفرقة للتكنولوجيا بدلاً من التعامل مع هذا الوسط الضامّ للمدينة. وهكذا، ينتهي بنا المطاف بمدن تتميز بما تحتويه من “حالات الاستخدام” أو “المنصات”. من الناحية العملية، فإن المدينة التي تتمحور حول التكنولوجيا تمثل رؤية بعيدة عن التطبيق من الناحية الفكرية والمالية واللوجستية في كثير من الأماكن. ويمكن أن يدفع هذا بالمسؤولين والمبتكرين إلى صرف النظر عن القدرات الحقيقية الكامنة والكبيرة للمدينة من ناحية الحد من الفقر وتحسين الشمولية والاستدامة في نفس الوقت.

اقرأ أيضاً: توظيف تكنولوجيا النانو لتطوير المدن الذكية

استخدام التكنولوجيا لتحسين المدن

وخلال عملنا في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، نركز على العلاقة بين العناصر المختلفة للمدينة الذكية حقاً، أي المجتمع والحكومة المحلية والقطاع الخاص. كما ندرس أيضاً الأصول المختلفة المتوافرة بفضل هذا التعريف الأكثر شمولية، والتي تشمل الابتكارات التكنولوجية المتطورة بطبيعة الحال، ولكنها تشمل أيضاً الابتكارات منخفضة التكلفة والبسيطة تكنولوجياً والحلول التي تعتمد على الطبيعة. والبيانات الكبيرة، والتفاصيل النوعية الأغنى بالتفاصيل والتي تختبئ خلف نقاط البيانات. والوصلات و”الأرصفة”، لا حالات الاستخدام والبرامج التجريبية وحسب. نحن ننظر إلى عملنا كمحاولة للبدء بإعادة تعريف المدن الذكية وزيادة الحجم والنطاق والفائدة لمجموعة أدواتنا الخاصة بالتطوير الحضري.

ونحن نواصل دراسة كيفية استخدام التكنولوجيا الرقمية لتحسين المدن. وعلى سبيل المثال، نحن نتعاون مع منصات كبيرة للتجارة الإلكترونية عبر إفريقيا، وهذه المنصات تعمل على إحداث تحول كبير في خدمة التوصيل الحضرية. ولكننا نعمل أيضاً على بلورة مجموعة الأدوات الشاملة هذه حتى نتعامل مع الآثار الحضرية للتغير المناخي وتراجع التنوع الحيوي والتلوث.

وتعمل مبادرة أوربان شيفت (UrbanShift) -التي يقودها برنامج الأمم المتحدة للبيئة بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) وغيره من الجهات- مع المدن على الترويج للحلول القائمة على الطبيعة، والنقل العام منخفض الكربون، والمناطق منخفضة الانبعاثات، والإدارة المتكاملة للمخلفات، وغير ذلك. ولا تقتصر هذه المقاربة على التطبيق وحسب، بل تركز أيضاً على السياسات والمسارات التوجيهية. ويهدف دليل الابتكارات الحضرية الذكية (Smart Urban Innovations Handbook) لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى مساعدة صناع السياسات ومبتكري التخطيط الحضري على دراسة كيفية إدماج “الذكاء” في أي مدينة.

إن عملنا في الأمم المتحدة يهدف إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة: وهي عبارة عن 17 هدفاً عالمياً أساسياً وطموحاً وعاجلاً وتهدف إلى بناء عالم أفضل بحلول العام 2030. ستؤدي المدن الذكية حقاً دوراً مهماً في تحقيق جميع هذه الأهداف السبعة عشر، بدءاً من مكافحة الفقر وعدم المساواة وصولاً إلى حماية وتحسين التنوع الحيوي.

إن تنسيق وتطبيق الجهود المعقدة والمطلوبة لتحقيق هذه الأهداف أكثر صعوبة بكثير من استخدام أحدث التطبيقات أو تركيب قطعة أخرى من تجهيزات الشوارع الذكية. ولكننا يجب أن نتجاوز عروض الاستثمار، وندرس كيفية تحويل مدننا إلى منصات حقيقية، لا منصات تكنولوجية وحسب، للتنمية الشمولية والمستدامة. ويقع على عاتقنا تحقيق الأفضل لمصلحة المليارات الذين يسكنون في مدن العالم.