كيف قلبت بيانات تلسكوب جيمس ويب الفضائي الموازين في علم الفلك؟

12 دقيقة
كيف قلب تلسكوب جيمس ويب الفضائي الموازين في مجال علم الفلك؟
تبرز مجموعة من النجوم الضخمة في هذه الصورة الفسيفسائية لسديم الرتيلاء والتي التقطها تلسكوب جيمس ويب الفضائي. هذه النجوم محاطة بكتل من الغاز والغبار (المواد الخام لتشكيل النجوم)، وستسهم في تغيير بنية هذه الكتل. وكالة ناسا، وكالة الفضاء الأوروبية، وكالة الفضاء الكندية، معهد مراصد علوم الفضاء، فريق الإنتاج في برنامج النشر المبكّر للأرصاد التابع لمشروع تلسكوب جيمس ويب الفضائي.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بعد بضعة أشهر من وصول تلسكوب جيمس ويب الفضائي إلى مداره النهائي، كانت ناتالي باتالها (Natalie Batalha) تنتظر بفارغ الصبر وصول البيانات من هذا التلسكوب. حصلت باتالها وفريقها البحثي في جامعة كاليفورنيا في مدينة سانتا كروز على موافقة لرصد مجموعة من الكواكب الخارجية (وهي الكواكب التي تدور حول نجومها خارج المجموعة الشمسية) باستخدام تلسكوب جيمس ويب.

 عوالم ننتظر جمع بيانات لها بواسطة تلسكوب جيمس ويب الفضائي

يعتبر كوكب واسب-39 بي (WASP-39b) من بين هذه العوالم التي خطط الفريق لرصدها، وهو كوكب شديد السخونة يدور حول نجمه على بعد 700 سنة ضوئية من الأرض. تم اكتشاف هذا الكوكب قبل سنوات، ولكن في منتصف شهر يوليو/ تموز 2022، وعندما حصلت باتالها وزملاؤها على أول البيانات الرصدية من تلسكوب جيمس ويب لهذا الكوكب، اكتشف هؤلاء علامات واضحة تبين وجود نوع من الغازات يعتبر شائعاً على الأرض ولكنه لم يرصد في الأغلفة الجوية للكواكب الخارجية من قبل، وهو غاز ثنائي أوكسيد الكربون.

يعتبر وجود غاز ثنائي أوكسيد الكربون في الأرض مؤشراً رئيسياً على أن هذا الكوكب يحتوي على أشكال الحياة الحيوانية والنباتية. لكن درجة حرارة كوكب واسب-39 بي، والذي يستغرق دورانه حول نجمه مرة واحدة 4 أيام أرضية فقط، أعلى بكثير من أن يأوي أشكال الحياة. مع ذلك، قد يمهّد هذا الاكتشاف، والذي حدث بعد أيام قليلة من بدء عمل تلسكوب جيمس ويب، لأرصاد أكثر إثارة من عوالم ذات درجات حرارة أكثر اعتدالاً في المستقبل.

تقول باتالها، والتي اجتمع فريقها بأكمله لإلقاء نظرة على البيانات لأول مرة: “كانت لحظة وصول البيانات مثيرة للحماس للغاية”، وتضيف: “كانت العلامات التي تبين وجود ثنائي أوكسيد الكربون واضحة بشكل جميل من اللحظة الأولى التي رأيناها فيها”.   

اقرأ أيضاً: هل سيوفر تلسكوب جيمس ويب إثباتاً لنظرية اقترحها باحثون عرب؟

لم يكن هذا الاكتشاف صدفة؛ إذ إن تلسكوب جيمس ويب الفضائي، وهو مشروع تعاوني بين الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي تقوده وكالة ناسا، يعتبر التلسكوب الفضائي الأكثر كفاءة في التاريخ، وهو قادر على رصد الأجسام التي يعتبر ضوءها أخفت بمئة مرة من تلك التي يستطيع تلسكوب هابل الفضائي رصدها. بعد بدء هذا التلسكوب بالعمل مباشرة في شهر يوليو/ تموز 2022، بدأت البيانات المستمدة من رصد المناطق البعيدة من الكون بالوصول إلى الأرض، من صور المجرات البعيدة التي تشكلت في المراحل المبكرة من عمر الكون إلى صور التضاريس المذهلة للسدم (وهي المناطق المليئة بالغبار والتي تولد فيها النجوم). يقول عالم الفلك في جامعة كوبنهاغن في الدنمارك، غابرييل برامر (Gabriel Brammer): “يتمتع هذا التلسكوب بالكفاءة التي توقعناها، وذلك إن لم يكن أكثر كفاءة أيضاً”. 

ما سبب كفاءة تلسكوب جيمس ويب الفضائي؟

تعود سرعة تلسكوب جيمس ويب في إجراء الاكتشافات إلى عوامل لا تقتصر على إمكاناته الخاصة. حضّر علماء الفلك أنفسهم لسنوات لدراسة الأرصاد التي سيجريها هذا التلسكوب؛ إذ إنهم قاموا بتطوير الخوارزميات التي تستطيع تحويل البيانات إلى معلومات مفيدة بسرعة. تعتبر معظم البيانات التي أرسلها تلسكوب جيمس ويب متاحة للعموم، ما يتيح لمجتمع علماء الفلك دراستها بسرعة تقترب من معدل إرسالها من قبل التلسكوب. اعتمد العلماء المسؤولون عن مشروع تلسكوب جيمس ويب على الخبرة التي اكتسبوها من العمل على سلفه، تلسكوب هابل، وقاموا بملء جدوله الزمني الخاص بإجراء الأرصاد بأكبر عدد ممكن من العمليات.

بالنسبة للبعض، كانت الكمية الهائلة من البيانات الاستثنائية التي أرسلها التلسكوب مفاجِئة. تقول العالمة متعددة الاختصاصات في وكالة ناسا ونائبة رئيسة قسم العلوم في اتحاد الجامعات لأبحاث علم الفلك في واشنطن العاصمة، هايدي هامل (Heidi Hammel)، والتي تعمل في مشروع تلسكوب جيمس ويب: “فاقت كمية البيانات المرسلة توقعاتنا”، وتضيف: “لم نتوقف عن العمل منذ أن دخلنا في الوضع التشغيلي. وكنا نرصد مجرة ما أو كوكباً خارجياً أو عمليات تشكل النجوم كل ساعة. كان تدفق البيانات من تلسكوب جيمس ويب غير منقطع”. 

اقرأ أيضاً: إلى متى سيبقى التلسكوب الفضائي هابل صامداً؟

الآن، وبعد أشهر من إطلاق تلسكوب جيمس ويب، يواصل هذا التلسكوب إرسال كميات كبيرة من البيانات إلى علماء الفلك المذهولين في الأرض. ومن المتوقع أن يسهم هذا التلسكوب في تغيير فهمنا لكل من المناطق البعيدة من الكون والكواكب الخارجية وعملية تشكل النجوم وبنية المجرات وغيرها. لم يتحمس جميع العلماء لموجة النشاط التي ولدها تلسكوب جيمس ويب، والتي عكست في بعض الحالات منح الأولوية لنشر النتائج بسرعة على حساب الدقة العلمية. مع ذلك، لا شك في أن هذا التلسكوب يجذب جمهور العلوم من جميع أنحاء العالم بوتيرة مذهلة. فُتح باب الاكتشافات السريعة على مصراعيه بعد إطلاق هذا التلسكوب، ومن المرجح ألا يتم إغلاقه قريباً.

فتح خط الإمداد

يدور تلسكوب جيمس ويب الفضائي حول الشمس في نقطة مستقرة تبعد مسافة قدرها 1.5 مليون كيلومتر عن الأرض. تتم حماية مرآة هذا التلسكوب العملاقة والمطلية بالذهب، والتي يبلغ طولها طول زرافة، من وهج الشمس باستخدام درع شمسي تبلغ مساحته مساحة ملعب كرة المضرب، ما يتيح للتلسكوب إجراء أرصاد غير مسبوقة من خلال تحسس الأشعة تحت الحمراء.

استغرق تطوير هذا التلسكوب وقتاً طويلاً؛ إذ تم تصميمه في ثمانينيات القرن الماضي، وخُطط لإطلاقه نحو عام 2007 بتكلفة تبلغ مليار دولار. لكن تسبب التعقيد في تصميم هذا التلسكوب في تأخيرات مطولة، وتطلّب تطويره إنفاق كمية كبيرة من المال لدرجة أنه اكتسب لقب “التلسكوب الذي التهم علم الفلك”. عندما تم إطلاق تلسكوب جيمس ويب الفضائي أخيراً في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2021، وصلت تكلفته التقديرية لنحو 10 مليارات دولار. 

اقرأ أيضاً: التلسكوب الفضائي الكبیر القادم قد یرصد مستویات من الأكسجین شبیھة بالأرض على الكواكب الخارجیة

حتى بعد إطلاقه، شهد تلسكوب جيمس ويب فترات عصيبة. استغرقت رحلة التلسكوب إلى موقعه النهائي الأبعد من مدار القمر شهراً من الزمن، وكانت هناك حاجة لاستخدام المئات من الأجزاء المتحركة لبسط مكوناته المختلفة، بما في ذلك الدرع الشمسي هائل الحجم، والذي يُستخدم للحفاظ على برودة الأجهزة الحساسة للأشعة تحت الحمراء في التلسكوب.

الهدف الأساسي هو تشغيل التلسكوب بشكل دائم قدر الإمكان. “أسوأ ما يمكننا فعله هو عدم استخدام تلسكوب ما بالقدر الكافي”.

حالياً، تم تجاوز معظم المشكلات التي واجهت هذا المشروع، من تأخّر الإطلاق إلى تجاوز الميزانية. يعمل تلسكوب جيمس ويب بلا توقف الآن، ويتم تنظيم عملياته بدقة من قبل معهد مراصد علوم الفضاء في مدينة بالتيمور الأميركية. في كل أسبوع، يخطط الفريق المسؤول عن التلسكوب للأرصاد القادمة التي سيجريها من خلال انتقاء الأرصاد من جدول طويل الأجل يحتوي على مئات البرامج المعتمدة التي سيتم تطبيقها في السنة الأولى من عمل التلسكوب، والتي تمتد من شهر يوليو/ تموز 2022 إلى شهر يونيو/ حزيران 2023.

تشغيل التلسكوب بشكل دائم قدر الإمكان

الهدف الأساسي هو تشغيل التلسكوب بشكل دائم قدر الإمكان. يقول المسؤول عن التخطيط بعيد المدى في مشروع تلسكوب جيمس ويب في معهد مراصد علوم الفضاء، ديف أدلر (Dave Adler): “أسوأ ما يمكننا فعله هو عدم استخدام تلسكوب ما بالقدر الكافي”، ويضيف: “في النهاية، تلسكوب جيمس ويب ليس مشروعاً منخفض التكلفة”.

في تسعينيات القرن العشرين، توقف تلسكوب هابل عن العمل في الكثير من الأحيان نتيجة لتعديل البرامج الرصدية أو إلغائها، وتمت زيادة عدد المشتركين في برامج تلسكوب جيمس ويب الرصدية بشكل مفرط عمداً لتجنّب الوقوع في هذه المشكلات مجدداً. تُستخدم محركات الدفع وعجلات رد الفعل، والتي تدور مغيّرةً توجيه التلسكوب، لتحريك التلسكوب بدقة بين أهداف الرصد المختلفة في السماء. يقول أدلر: “الهدف هو تقليل الوقت الذي لا يجري فيه التلسكوب الأرصاد قدر الإمكان”.

يجمع تلسكوب جيمس ويب نتيجة لجدوله المليء بالمهام أكثر من 50 غيغابايت من البيانات كل يوم، بينما يجمع تلسكوب هابل 1 أو 2 غيغابايت من البيانات يومياً. يتم إدخال هذه البيانات، والتي تتضمن الصور والبصمات الطيفية (وهي عبارة عن أمواج ضوئية مقسمة إلى عناصرها الأساسية)، إلى خوارزمية يقوم معهد مراصد علوم الفضاء بتشغيلها.

يُطلق على هذه الخوارزمية اسم “خط الإمداد”، وهي تحول الصور والأرقام الخام التي يرسلها التلسكوب إلى معلومات مفيدة. يتم نشر جزء من هذه المعلومات بشكل مباشر على الخوادم العامة، حيث يطّلع عليها العلماء أو تُقرأ حتى من قبل روبوتات موقع تويتر مثل روبوت فوتو بوت الخاص بتلسكوب جيمس ويب الفضائي (JWST Photo Bot). يتم تسليم مجموعات البيانات الأخرى إلى العلماء ضمن برامج تتيح لهم تحليل هذه البيانات قبل نشرها على نطاق واسع ضمن فترة زمنية تحمل اسم نافذة حقوق الملكية.

المجرات في مجموعة خُماسية ستيفان كما تبدو في صورة تم تصميمها باستخدام البيانات التي جمعتها أدوات الأشعة تحت الحمراء في تلسكوب جيمس ويب. تبدو المجرة في أقصى اليسار أقرب للمجموعة، لكنها أقرب بكثير إلى الأرض. وكالة ناسا، وكالة الفضاء الأوروبية، وكالة الفضاء الكندية، معهد مراصد علوم الفضاء.

اقرأ أيضاً: تلسكوب جديد من ناسا لرصد أعلى الأجسام طاقة في مجرتنا

تعتبر الخوارزميات مثل خوارزمية خط الإمداد قطعاً من الرموز البرمجية المكتوبة باللغات البرمجية مثل لغة بايثون. تم استخدام هذه الخوارزميات لزمن طويل في علم الفلك، ولكن تم إحراز تقدم ملحوظ في تطويرها عام 2004 بعد استخدام علماء الفلك تلسكوب هابل لرصد رقعة فارغة من السماء لمدة مليون ثانية. كان الهدف من هذه العملية البحث عن المجرات في المناطق البعيدة من الكون. ولفعل ذلك، احتاج العلماء تكرار رصد نفس المنطقة 800 مرة. لذلك، أدرك المسؤولون عن تلسكوب هابل أن إنجاز هذه المهمة يدوياً سيكون صعباً للغاية.

تطوير عمل الخوارزميات لتحليل بيانات التلسكوب

بدلاً من ذلك، طوّر هؤلاء خوارزمية لتحويل الأرصاد المأخوذة إلى صورة قابلة للاستخدام، وهي عملية صعبة من الناحية الفنية نظراً لأنه يجب معايرة كل صورة ومحاذاتها على حدة.

يقول الباحث في علم الفلك في معهد مراصد علوم الفضاء، أنطون كوكيمور (Anton Koekemoer): “كان من المستحيل على أي مجموعة من العلماء في مجتمع علم الفلك حينها مزج 800 صورة بمفردهم”، ويضيف: “كان الهدف من تطوير هذه الخوارزمية تسريع الدراسة العلمية”. احتوت الصورة التي نتجت عن هذه الجهود على 10 آلاف مجرة موزعة في الكون. وأطلق على هذه الصورة لاحقاً اسم حقل هابل فائق العمق (أو حقل هابل العميق الفائق).  

في مشروع تلسكوب جيمس ويب الفضائي، يتم تحضير الصور والبيانات التي جمعتها أدوات التلسكوب للدراسات العلمية من خلال خوارزمية إمداد رئيسية واحدة طوّرها العلماء في معهد مراصد علوم الفضاء. يستخدم العديد من العلماء، من الهواة إلى المحترفين، خوارزميات الإمداد الخاصة بهم والتي طوّروها في الأشهر والسنوات وسبقت إطلاق تلسكوب جيمس ويب بهدف دراسة البيانات.

ولهذا السبب، عندما بدأ هذا التلسكوب بإرسال البيانات إلى الأرض، تمكّن علماء الفلك من فهم الأرصاد التي درسوها بشكل مباشر تقريباً، ما مكنّهم من اختصار عملية تحليل البيانات التي تستغرق عادة شهوراً من الزمن في عملية معالجة برمجية تستغرق بضع ساعات فقط.

يقول برامر: “كنا ننتظر وصول البيانات ببساطة”، ويضيف: “فجأة، فُتح خط الإمداد. وكنا جاهزين للعمل”. 

اقرأ أيضاً: ناسا تريد الاعتماد على الشمس لتزويد بعثات الفضاء العميق المستقبلية بالطاقة

المجرات في كل مكان 

يدور تلسكوب هابل على ارتفاع يبلغ بضع المئات من الكيلومترات فقط عن سطح الأرض، ما يجعله قريباً بما يكفي ليتمكن رواد الفضاء من زيارته. وعلى مر السنين، قام رواد الفضاء بزيارة هذا التلسكوب بالفعل؛ إذ إنهم أنجزوا سلسلة من المهمات الفضائية التي هدفت لإجراء الإصلاحات وتحديث التلسكوب. بدأت هذه المهمات برحلة أجريت لإصلاح مرآة تلسكوب هابل مشوهة الشكل، وهي مشكلة اكتُشفت بعد وقت قصير من إطلاقه في عام 1990. أما تلسكوب جيمس ويب، فهو يعوم في الفضاء وحده في منطقة أبعد من القمر.   

كان مدير عناصر تلسكوب جيمس ويب البصرية في مركز غودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة ناسا، لي فاينبرغ (Lee Feinberg)، من العلماء الذين ترقبوا ما إذا كان تلسكوب جيمس ويب سيعمل بالفعل. قال فاينبرغ: “أمضينا عقدين من الزمن في إجراء عمليات المحاكاة لمحاذاة التلسكوب”، وهي العمليات التي تجرى للتأكد من أن التلسكوب موجه بدقة إلى الأهداف الرصدية في السماء. 

بحلول شهر مارس/آذار 2022، انتهت فترة الانتظار. وصل تلسكوب جيمس ويب إلى وجهته المقررة، وأصبح فاينبرغ وزملاؤه مستعدين أخيراً للبدء بالتقاط الصور التجريبية. وجد فاينبرغ إحدى هذه الصور، وهي صورة لنجم، معروضة على شاشة عند دخوله معهد مراصد علوم الفضاء ذات صباح. وكانت هذه الصورة تحتوي على مفاجأة مذهلة. يقول فاينبرغ: “احتوت هذه الصورة على مئات المجرات حرفياً”، ويضيف: “لقد أذهلتنا الصورة عندها”. كانت هذه الصورة مفصّلة لدرجة أنها كشفت عن مجرات بعيدة تمتد حتى أقاصي الكون، على الرغم من أنها لم تُلتقط لهذا الهدف. يقول فاينبرغ: “ذُهل جميع العلماء في مجتمع علم الفلك من مدى فاعلية هذا التلسكوب”.

بعد إجراء عملية أخرى لاختبار التلسكوب ومعايرة أدواته بهدف تشغيله، تمثّلت إحدى مهامه الأولى في رصد كوكب واسب-39 بي باستخدام أداة الأشعة تحت الحمراء ذات الأطوال الموجية المتوسطة المبردة لدرجات حرارة شديدة الانخفاض. هذه الأداة هي الوحيدة في التلسكوب التي تعتبر شديدة الحساسية للأشعة تحت الحمراء من الطيف الكهرومغناطيسي، والتي يمكن استخدامها للكشف بسهولة عن العلامات المميزة للأغلفة الجوية للكواكب. استخدم العلماء مطياف هذه الأداة لتحليل الضوء الذي يعكسه الغلاف الجوي لكوكب واسب-39 بي.

وبدلاً من تحليل الأرصاد بشكل يدوي، استخدم العلماء خوارزمية إمداد تحمل اسم “يوريكا!” (Eureka!، وهي الكلمة التي قالها الرياضي اليوناني أرخميدس عند اكتشاف دافعة أرخميدس)، تم تطوير هذه الخوارزمية على يد عالم الفلك في معهد باي إيريا للأبحاث البيئية في مركز أيمس للأبحاث التابع لوكالة ناسا في ولاية كاليفورنيا الأميركية، تيلور بيل (Taylor Bell).

يقول بيل: “تمثل الهدف من تطوير هذه الخوارزمية في تحويل البيانات الخام الواردة إلى معلومات تتعلق بالطيف الضوئي للأغلفة الجوية”. يتطلب تحليل المعلومات المتعلقة بالكواكب الخارجية مثل واسب-39 بي عادة شهوراً من العمل، ولكن بعد ساعات فقط من إجراء الأرصاد، ظهرت العلامات التي تشير إلى وجود الكربون في هذا الكوكب من البيانات. تم نشر مجموعة كبيرة من المعلومات المتعلقة بهذا الكوكب منذ ذلك الحين، وتتضمن هذه المعلومات تحليلاً مفصلاً للتركيب الكيميائي للكوكب وأدلة تبين وجود السحب فيه.

اقرأ أيضاً: استخدام تلسكوب عملاق للبحث عن كواكب جديدة شبيهة بالأرض

استخدم علماء آخرون خوارزميات الإمداد لدراسة أجرام سماوية أبعد بكثير من كوكب واسب-39 بي. في شهر يوليو/ تموز 2022، اكتشف فريق يقوده العالم في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، روهان نايدو (Rohan Naidu)، مجرة اُطلق عليها اسم غلاس-زد 13 (GLASS-z13)، وهي مجرة بعيدة من المحتمل أنها تشكّلت بعد 300 مليون سنة فقط من الانفجار العظيم، ما يجعلها أقدم مجرة اكتشفت حتى الآن. أثار هذا الاكتشاف ضجة كبيرة حول العالم لأنه يبين أنه من المحتمل أن المجرات بدأت بالتشكّل في وقت أبكر مما كان يتوقّع سابقاً، ربما ببضع المئات من ملايين السنين. ما يعني أن كوننا قد أخذ شكله بسرعة أكبر مما كان يُعتقد سابقاً. 

تمكّن نايدو وزملاؤه من اكتشاف هذه المجرة باستخدام خوارزمية إمداد تحمل اسم إيزي (EAZY) طوّرها برامر بهدف تحليل ضوء المجرات في صور تلسكوب جيمس ويب بشكل تقريبي. يقول برامر، والذي نشر خوارزميته على موقع البرمجيات غيت هاب (GitHub) ليتمكن أي أحد من استخدامها: “توفّر هذه الخوارزمية تقديرات عن ضوء الأجسام باستخدام الأرصاد الصورية”. 

استعجال في نشر الأرصاد

تقليدياً، يقدّم الباحثون في المجتمع العلمي الأوراق البحثية إلى المجلات العلمية، حيث تتم مراجعتها من قبل الأقران في المجال البحثي المحدد، والموافقة على نشرها أو رفضها. يمكن أن تستغرق هذه العملية شهوراً أو حتى سنوات، وهي تؤخر في بعض الأحيان نشر النتائج العلمية، ولكن هذه العملية تتم بهدف توخي الدقة والصرامة العلمية.

مع ذلك، هناك بعض الطرق لتجنّب هذه العملية. وتتمثل إحدى الطرق الشائعة في نشر النسخ الأولية من الأوراق العلمية في موقع أركايف (arXiv) قبل مراجعتها من قبل الأقران. تتيح هذه الطريقة للباحثين قراءة الأوراق العلمية وترويجها قبل نشرها في المجلات العلمية. في بعض الحالات، لا يتم تقديم الأبحاث إلى المجلات مطلقاً. وبدلاً من ذلك، فهي تبقى على موقع أركايف وتتم مناقشة محتوياتها من قبل العلماء على موقع تويتر والمنتديات الأخرى.

اقرأ أيضاً: هل يخالف القمر توقعاتنا حول الحقبة التي خمد فيها؟

يعتبر نشر الأوراق على موقع أركايف شائعاً عند إجراء اكتشاف جديد يرغب العلماء في نشره بسرعة، أحياناً قبل نشر أوراق بحثية أخرى منافسة. يعتبر نحو خُمس برامج السنة الأولى من عمل تلسكوب جيمس ويب الفضائي من البرامج ذات الوصول المفتوح، ما يعني أنه يتم نشر بيانات هذه البرامج مباشرة للعوام بعد وصولها إلى الأرض. يضع ذلك فريق البحث المسؤول عن كل برنامج تُنشر بياناته في منافسة مباشرة مع الفرق الأخرى التي تراقب البيانات المنشورة. عندما بدأ تلسكوب جيمس ويب بإرسال البيانات في شهر يوليو/ تموز 2022، لجأ العديد من الباحثين إلى نشر النتائج الأولية على موقع أركايف، سواءً كان ذلك إيجابياً أو سلبياً.

“عند التعامل مع نتائج حديثة ومجهولة لهذه الدرجة، يجب تدقيق محتوى الأوراق العلمية مراراً وتكراراً، ولكن هذا لم يحدث”.

إيميليانو ميرلن

يقول عالم الفلك في المرصد الفلكي في روما، إيميليانو ميرلن (Emiliano Merlin)، والذي شارك في عمليات تحليل البيانات المبكرة التي أرسلها تلسكوب جيمس ويب مثل تلك المتعلقة بالسباق لاكتشاف المجرات البعيدة التي تشكّلت بعيد الانفجار العظيم: “تم الاستعجال لنشر النتائج بأسرع وقت ممكن”. تم نشر اكتشاف مجرة غلاس-زد 13 ونحو 12 مجرة أخرى من المجرات التي قد تكون بالغة القدم قبل أن تؤكد أرصاد المتابعة عمر الضوء المنبعث من هذه المجرات. يقول ميرلن: “لم أحبّذ شخصياً هذه السياسة في النشر”، ويضيف: “عند التعامل مع نتائج حديثة ومجهولة لهذه الدرجة، يجب تدقيق محتوى الأوراق العلمية مراراً وتكراراً، ولكن هذا لم يحدث”.

تمثّل أحد المخاوف في أن المشكلات ضمن عمليات معايرة التلسكوب الأولى قد تؤدي إلى حدوث بعض الأخطاء. ولكن حتى الآن، اتضح أن العديد من النتائج المبكرة كانت صحيحة بعد تدقيقها. أكدت أرصاد المتابعة أن مجرة غلاس-زد 13 هي مجرة مبكرة محطّمة للأرقام القياسية بالفعل، على الرغم من أن عمرها كان أصغر قليلاً من التقديرات الأولى، ما أدّى إلى تغيير اسمها إلى غلاس-زد 12. تشير الاكتشافات المحتملة للمجرات الأخرى التي قد تكون أقدم حتى من مجرة غلاس-زد 12 إلى أن العلماء سيضطرون لإعادة التفكير في فهمهم لكيفية ظهور البنى في الكون على الأرجح. بالإضافة إلى ذلك، تشير هذه الاكتشافات المحتملة إلى الحاجة لتطوير نماذج أكثر جذرية للكون المبكر.  

صورة لكوكب نبتون التقطتها كاميرا الأشعة تحت الحمراء القريبة في تلسكوب جيمس ويب في يوليو/ تموز 2022. قال الباحثون إن هذه الصورة هي أوضح صورة التُقطت لحلقات هذا الكوكب منذ اقتراب مركبة فوياجر 2 منه في عام 1989. وكالة ناسا، وكالة الفضاء الأوروبية، وكالة الفضاء الكندية، معهد مراصد علوم الفضاء.
تم التقاط صورة هذا النجم في أثناء اختبار المحاذاة البصرية لتلسكوب جيمس ويب الفضائي. ولكنها بيّنت بالمصادفة مدى حساسية التلسكوب نتيجة لظهور عدد من المجرات في الخلفية. وكالة ناسا/ معهد مراصد علوم الفضاء
إيرني رايت تقف بالقرب من مرايا تلسكوب جيمس ويب الفضائي. أجزاء من مرآة تلسكوب جيمس ويب الأساسية يتم تحضيرها لاختبارات التبريد الشديد في عام 2011. تتألف مرآة هذا التلسكوب، والمصنوعة من البيريليوم المطلي بالذهب، من 18 قطعة، ويبلغ طولها 6.5 متر. تم تصميم هذه المرآة بطريقة تتيح طيّها تحضيراً لإطلاق التلسكوب. وكالة ناسا/ مركز مارشال للرحلات الفضائية/ديفيد هيغنبوثام

على الرغم من أن العديد من برامج تلسكوب جيمس ويب تنشر البيانات للعوام مباشرة، ما يتسبب أحياناً في استعجال كبير لنشر النتائج بسرعة، تضمن نسبة 80% من هذه البرامج تخصيص فترات الملكية للباحثين الذي يديرون هذه البرامج، ما يتيح لهم وصولاً حصرياً للبيانات التي يعملون عليها لمدة 12 شهراً. يمكّن ذلك العلماء، وخصوصاً الفرق الأصغر التي تفتقر للموارد التي توفرها المؤسسات الكبيرة، من تدقيق البيانات بحذر قبل نشرها للعوام.

يقول كبير المستشارين في مجال العلوم والاستكشاف في وكالة الفضاء الأوروبية والعالم في مشروع تلسكوب جيمس ويب، مارك ماكاريان (Mark McCaughrean): “تحل فترات الملكية مشكلة تفاوت الموارد المتوفرة”، ويضيف: “إذا تم إلغاء هذه الفترات، ستحصل الفرق التي تتمتع بموارد كبيرة على أفضلية واضحة”.

اقرأ أيضاً: السياسات الفضائية تنتقل أخيراً إلى القرن الواحد والعشرين

مع ذلك، لا يضطر العديد من العلماء لقضاء كامل الفترة المسموحة التي تدوم 12 شهراً في تدقيق البيانات، ما يعني أنهم سيسهمون في التدفق المستمر لاكتشافات تلسكوب جيمس ويب. بالإضافة إلى الأرصاد المتاحة للعوام التي يتم إجراؤها، سيتم نشر المزيد من النتائج الخاضعة لحقوق الملكية للجمهور. تقول هامل: “الآن، وبعد أن بدأ تلسكوب جيمس ويب بإرسال البيانات بشكل مستمر، سيتم نشر الأوراق العلمية بشكل غير منقطع خلال السنوات العشر القادمة أو أكثر”. من المحتمل أيضاً أن تمتد فترة عمل تلسكوب جيمس ويب أكثر من ذلك. يقول فاينبرغ إن هذا التلسكوب يحتوي على كمية من الوقود تكفي لأكثر من 20 عاماً، ما سيتيح له إجراء الأرصاد حتى أربعينيات القرن الجاري.

تقول هامل: “سنتمكن باستخدام تلسكوب جيمس من فهم الكون بطريقة مختلفة تماماً”، وتضيف: “تعتبر هذه الفترة من التاريخ مثيرة حقاً بالنسبة لنوعنا”.