فريق من الباحثين يضم مصرياً يستخدم الذكاء الاصطناعي لقراءة مخطوطة رومانية

4 دقيقة
فريق من الباحثين يضم مصرياً يستخدم الذكاء الاصطناعي لقراءة مخطوطة رومانية
حقوق الصورة: shutterstock.com/Romas_Photo
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في يوم خريفي عاصف عام 79 بعد الميلاد، وبالقرب من مدينة نابولي الإيطالية الحالية، أظلمت السماء فجأة وامتلأت بسحب شديدة الحرارة، وتطايرت غازات سامة إلى الأعلى لتصل إلى طبقة الستراتوسفير. دمر هذا الانفجار المفاجئ العديد من المدن والقرى الرومانية المتناثرة في المنطقة، ومات الآلاف جراء الصخور المنصهرة التي انهالت عليهم والرياح السامة المصاحبة لها. ماتوا قبل أن يدركوا أن هذه القذائف تأتيهم من جبل فيزوف الذي انطلقت من قمته ثورة بركانية هائلة، دفنت خلال 24 ساعة مدينتين رومانيتين مزدهرتين أقيمتا بالقرب من سفح الجبل هما بومبي وهيركولانيوم.

على الرغم من تأثيره المدمر في منطقة خليج نابولي، فإن هذا البركان حافظ على كنز لا يُقدَّر بثمن؛ فقد دُفِنت إحدى المكتبات النادرة الباقية من حضارات العالم القديم تحت طبقة سميكة من المواد البركانية والطين، ودُفِنت مئات المخطوطات التي احتوت عليها هذه المكتبة -التي يُرجّح العلماء أنها كانت داخل فيلا مملوكة لوالد زوجة يوليوس قيصر بمدينة هيركولانيوم- بعد أن تفحمت وباتت هشة لدرجة جعلت محاولات فتحها كلها فيما بعد تؤول إلى الفشل وتنتهي بتفتتها.

اقرأ أيضاً: باحثون يستخدمون الذكاء الاصطناعي لقراءة نصوص أثرية بابلية

الذكاء الاصطناعي يفتح مخطوطات هيركولانيوم من جديد

اليوم، وبعد نحو 2000 عام على آخر مرة قُرِئَت فيها هذه المخطوطات، يفتح لنا الذكاء الاصطناعي نافذة أمل على إمكانية قراءتها مرة أخرى، والاطلاع على بعض أسرار العالم القديم. فقد تمكن فريق علمي مكون من 3 باحثين، أحدهم مصري وآخر سويسري وثالث أميركي، من تطوير تقنية ذكاء اصطناعي يمكنها قراءة محتوى الكتابة اليونانية داخل المخطوطات المتفحمة المصنوعة من ورق البردي.

المصدر: مسابقة تحدي فيزوف

درّب الفريق الفائز في مسابقة تُسمَّى تحدي فيزوف (Vesuvius Challenge) خوارزميات التعلم الآلي الخاصة بهم على صور مسوحات بالأشعة لأوراق البردي المطوية، ليكشفوا عن نص فلسفي يتحدث عن “مصادر المتعة”، بما فيها الموسيقى وطعم نبات القبار واللون الأرجواني.

بعد قراءة أولية للمخطوطة، رجّحت فيديريكا نيكولاردي، عالمة البرديات بجامعة نابولي فيدريكو الثاني الإيطالية، أن النص الذي توصل إليه الذكاء الاصطناعي من تأليف فيلسوف يُدعى فيلوديموس، وهو أحد أتباع الفيلسوف الأثيني أبيقور، وعاش في الفيلا التي عُثر فيها على المخطوطة.

الباحثون الفائزون بالجائزة، وهم يوسف نادر طالب الدكتوراة في تخصص التعلم الآلي بجامعة برلين الحرة، ولوك فاريتور الطالب في علوم الحاسوب في جامعة نبراسكا-لينكولن الأميركية، وجوليان شيليجر طالب الدراسات العليا بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ، لم يلتقوا شخصياً قط، لكنهم كانوا أول فريق يتمكن من قراءة 4 فقرات من المخطوطة لا يقل كل منها عن 140 حرفاً قبل نهاية عام 2023. تقاسم الباحثون الثلاثة الذين كشفوا عن النص الجائزة الكبرى للمسابقة البالغة 700 ألف دولار أميركي.

اقرأ أيضاً: كيف تساعد التكنولوجيا علماء الآثار على كشف أسرار المدن القديمة؟

عملية تدريب معقدة

يقول الباحثون إن عملهم يمهّد الطريق أمام فك رموز بقية المخطوطات بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو أمر يمكن أن تكون له آثار ثورية على فهمنا للعالم القديم ككل.

قدّم الباحث يوسف نادر، في تصريحات لمنصة إم آي تكنولوجي ريفيو العربية، بعض التفاصيل التقنية المتعلقة بعمله الحائز الجائزة. وأوضح الباحث البالغ من العمر 27 عاماً، أنه خلال مشاركته في مسابقة الكشف عن الأحرف الأولى (أول مسابقة في التحدي)، درّب نموذج ذكاء اصطناعي على استخدام أجزاء سقطت من المخطوطة -تُعرف باسم قصاصات كاغل (Kaggle fragments)- للتعرف على الحبر الموجود داخل المخطوطة. وبالفعل تمكن النموذج من التعرف إلى 3 أحرف.

وبعدما تعلم النموذج التفرقة بين صور أماكن الحبر والأماكن التي لا يوجد بها، بدأ يتنبأ بأماكن الحبر في المخطوطة. وبعد تنقية النتائج التي توصل إليها النموذج من الضوضاء، استخدمها نادر لتدريب نموذج جديد يمكنه التنبؤ بشكلٍ أفضل، وهكذا مع تكرار العملية تحسنت نتائج التنبؤات التي تقدّمها النماذج.

التحدي الأكبر في هذه المرحلة كان إيجاد أفضل بنية للنموذج تمكّنه من التعامل مع التصدعات التي يتركها الحبر على أوراق البردي، لا سيّما أن هذه التصدعات يختلف شكلها من حرف لآخر بل وتختلف في حالة تكرار الحرف نفسه.

اقرأ أيضاً: 15 صفة يختلف فيها الذكاء الاصطناعي عن الذكاء البشري

في النهاية، توصل الباحث المصري إلى أن الطريقة المُثلى في هذه الحالة هي ما تُعرف باسم آلية الانتباه وفيها يحاول النموذج أن يتعامل مع الصورة الثلاثية الأبعاد على أنها عدة صور ثنائية الأبعاد، ثم يحاول الربط بينها. وتساعد هذه الآلية على تقليل متطلبات الذاكرة والموارد مع تحسين جودة مخرجات النموذج في الوقت نفسه.

يساعد الذكاء الاصطناعي العلماء على قراءة الكلمات دون فتح المخطوطة. المصدر: مسابقة تحدي فيزوف

جوائز تفوق قيمتها مليون دولار

يشير موقع “تحدي فيزوف” إلى أنه في الوقت الذي تحللت فيه واختفت تقريباً النصوص القديمة كافة التي كانت معرضة للهواء خلال القرون الماضية، ظلت مكتبة الفيلا متفحمة ولكنها سليمة تحت الأرض. ولا تكمن أهمية هذا الكشف في فحوى النصوص التي قُرِئَت حتى الآن بقدر ما تكمن في الطريقة التي فتح بها الذكاء الاصطناعي المخطوطة دون تحويلها إلى رماد متفحم أو قطع كما حدث خلال المحاولات السابقة.

يوضّح ريتشارد جانكو، أستاذ الدراسات الكلاسيكية في جامعة ميشيغان، أن “الطريقة الوحيدة التي كان من الممكن أن نقرأ من خلالها الكتابات التي تحتويها مخطوطات هيركولانيوم هي تجميع آلاف القطع من المخطوطات الممزقة”، مضيفاً أن هذه الطريقة قد تستغرق 500 عام لفهم محتوى مخطوطة، ما يظهر مدى أهمية هذه التقنية الجديدة.

كانت المسابقة قد أُطلِقت في مارس/آذار 2023 بدعم من نات فريدمان الرئيس التنفيذي السابق لمنصة غيت هاب، ودانييل غروس مؤسس محرك البحث كيو (Cue)، وبرنت سيلز أستاذ علوم الحاسوب بجامعة كنتاكي الذي يسعى لقراءة هذه النصوص منذ ما يقرب من 20 عاماً.

وقد منحت المسابقة خلال عام 2023 جوائز تزيد قيمتها على مليون دولار، لكن منظمي التحدي يتوقعون أن يكون عام 2024 هو عام الانتقال من قراءة بعض المقاطع إلى قراءة المخطوطات الكاملة، بالاعتماد على تقنيات التعلم الآلي والرؤية الحاسوبية.

تقنية فعّالة لقراءة المخطوطات المصرية القديمة

يقول نادر في تدوينة على موقعه الشخصي، إنه استفاد في تجاربه من العمل الذي قام به فريق سيلز، الذي استخدم التصوير المقطعي المحوسب والرؤية الحاسوبية “لفتح المخطوطات افتراضياً”. وقد أتاح سيلز آلاف الصور الثلاثية الأبعاد لمخطوطتين، بالإضافة إلى نموذج ذكاء اصطناعي دُرِب على قراءة الحروف من الآثار التي يتركها الحبر على أسطح أوراق البردي.

ويشير الباحث إلى أن فاعلية استخدام هذه الطريقة لقراءة النصوص لا تقتصر على مخطوطات هيركولانيوم فحسب، مرجّحاً أن تكون فعّالة للغاية في قراءة أوراق البردي المصرية القديمة. وأضاف في تصريحاته لمنصة إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية، أن أحد العلماء الألمان تواصل معه بالفعل لاستخدامها في قراءة الكتابة غير الواضحة في مخطوطات مصرية قديمة اكُتشِفت في جزيرة فيلة بأسوان.

اقرأ أيضاً: المهندسون يستخدمون الذكاء الاصطناعي لإيصال شبكة الإنترنت إلى الآثار الرومانية المغمورة بالمياه

على الرغم من هذه الآمال الكبيرة المعقودة على التقنية الجديدة، فإن الاختبار الأساسي الآن هو الانتهاء من قراءة مخطوطات هيركولانيوم بالكامل. ويأمل القائمون على تحدي فيزوف أن يتمكنوا خلال السنوات القليلة المقبلة من فتح وقراءة المخطوطات الـ 800 كلها المحفوظة على نحو متفرق في معهد فرنسا في باريس، والمكتبة الوطنية في نابولي، ولندن وأكسفورد بالمملكة المتحدة.