هل يمكن تبريد كوكب الأرض بمجرد تغيير مسارات الطائرات؟

5 دقيقة
مصدر الصورة: صورة توضيحية | غيتي إميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

توصلت بعض الدراسات إلى أن إجراء تعديلات طفيفة على مسارات نسبة صغيرة من الرحلات الجوية يمكن أن يؤدي إلى تغيير ملموس في الاحترار العالمي. والآن، وجدت ورقة بحثية جديدة أن تحقيق هذه التغييرات قد يكون زهيد التكلفة أيضاً.

يمثل إنتاج الطائرات لكميات كبيرة من انبعاثات ثنائي الكربون نتيجة حرقها للوقود إحدى المشكلات المناخية الواسعة الانتشار في مجال الطيران؛ إلا أن الطائرات تطلق أيضاً الحرارة وبخار الماء والجسيمات الدقيقة؛ ما يؤدي إلى إنتاج سحب رفيعة في السماء تُعرف باسم “خطوط التكاثف”، وذلك في مناطق الغلاف الجوي التي تتسم بمستوى مرتفع من البرودة والرطوبة والتجمد.

اقرأ أيضاً: تلوث المياه: أبرز أسبابه وآثاره على الإنسان والبيئة

كيف تؤدي انبعاثات الطائرات إلى الاحتباس الحراري؟

عندما يمر عدد كبير من الرحلات الجوية في هذه المناطق، يمكن أن تؤدي خطوط التكاثف هذه إلى تشكل السحب السمحاقية التي تمتص الإشعاعات الصادرة عن سطح الأرض، وتؤدي إلى مفعول أشبه بمفعول بطانيات تحوم فوق الأرض.

تؤدي ظاهرة تشكّل السحب هذه إلى قُرابة 35% من إجمالي إسهام الطيران في التغير المناخي، أو قُرابة 1% إلى 2% من الاحترار العالمي الإجمالي، وفقاً لبعض التقديرات.

تنتج نسبة 80% من خطوط التكاثف عن نسبة صغيرة تبلغ 2% إلى 10% من إجمالي الرحلات الجوية. ولهذا؛ ثمة آمال متزايدة بإمكانية تخفيف هذا الأثر إلى حد كبير من خلال إجراء بسيط يتضمن تعديل مسارات هذه الرحلات؛ ما يمثل طريقة قد تتيح تخفيف الاحترار بسرعة وفعالية عالية وتكلفة منخفضة.

في الصيف الماضي، أعلنت مؤسسة بريكثرو إنرجي (Breakthrough Energy) وقسم الأبحاث في شركة جوجل وشركة أميريكان إيرلاينز (American Airlines) عن بعض النتائج الواعدة لعمل بحثي مشترك كما ورد أول مرة في صحيفة نيويورك تايمز (New York Times). اعتمدت هذه المؤسسات على صور الأقمار الاصطناعية وبيانات الطقس والنماذج البرمجية وأدوات التنبؤ بالذكاء الاصطناعي لتوجيه الطيارين للتحليق بطائراتهم فوق المناطق التي يُرجح أن تصدر طائراتهم فيها خطوط التكاثف أو تحتها. استخدمت أميريكان إيرلاينز هذه الأدوات في 70 رحلة تجريبية على مدى 6 أشهر، وأشارت بيانات الأقمار الاصطناعية اللاحقة إلى أن هذه التعديلات أدت إلى تقليل الطول الإجمالي لخطوط التكاثف بنسبة 54%، وذلك بالمقارنة مع الرحلات التي لم تُعدل مساراتها.

بطبيعة الحال، ستكون ثمة تكاليف مترتبة على تطبيق هذه الاستراتيجية. فالابتعاد عن هذه المناطق يتطلب عموماً كميات إضافية من الوقود؛ ما يعني أن هذه الرحلات ستنتج المزيد من غازات الدفيئة (سنتحدث لاحقاً بمزيد من التفصيل عن هذه النقطة).

إضافة إلى هذا، فإن زيادة الوقود تعني زيادة النفقات، ومن غير المرجح أن تطبق شركات الطيران هذه التعديلات طوعاً إن لم تكن معقولة التكاليف نسبياً.

في دراسة جديدة نُشرت في مجلة البحوث البيئية: البنية التحتية والاستدامة (Environmental Research: Infrastructure and Sustainability)، دُرِسَت هذه المسألة من خلال جمع أداتين تجاريتين لتحسين مسارات الطيران مع نماذج لمحاكاة قُرابة 85,000 رحلة من رحلات أميريكان إيرلاينز المحلية والدولية، ضمن ظروف جوية مختلفة في الصيف الماضي وهذا الشتاء.

اقرأ أيضاً: كيف تَعِدُنا البطاريات الحرارية بمستقبل أقل تلوثاً في مجال التصنيع؟

 زيادة في التكاليف

وجد الباحثون بعد إجراء عمليات المحاكاة هذه أن تخفيف أثر الاحترار الناجم عن خطوط التكاثف بنسبة 73% أدى إلى زيادة تكاليف الوقود بنسبة 0.11% فقط، وزيادة التكاليف الإجمالية بنسبة 0.08%، وهي قيم متوسطة تعبر عن هذه الرحلات التي يبلغ عددها عشرات الآلاف (من الجدير بالذكر إن نسبة الرحلات التي وجب تعديلها من أجل تفادي خطوط التكاثف التي تؤدي إلى الاحترار في عمليات المحاكاة هذه بلغت 14% فقط).

يقول أحد مؤلفي الورقة البحثية ومدير فريق خطوط التكاثف في بريكثرو إنرجي (وهي المنظمة التي أسسها بيل غيتس لتعزيز الإبداع في مجال الطاقة النظيفة ومعالجة التغير المناخي)، مارك شابيرو: “من الواضح أنه ثمة تضارب بين كميات الوقود الإضافية وتخفيف خطوط التكاثف الضارة، وهذه مسألة حقيقية وتمثل إحدى أكبر المشكلات المتعلقة بهذا الحل المناخي. لكننا نبين في هذا البحث أن استهلاك الوقود الإضافي يكلف أقل بكثير من المتوقع”.

ويقول أيضاً إنه يمكن لشركات الطيران أن تستخدم أداة تجارية مماثلة لتحديد المسارات من أجل اتخاذ القرارات التي تحقق التوازن بين الأهداف المالية والمناخية. على سبيل المثال؛ يمكن أن تسمح الشركات ببعض الرحلات التي تؤدي إلى تشكل خطوط التكاثف عندما تصبح تكلفة تعديل المسارات مرتفعة للغاية.

تعمل مجموعات بحثية وشركات طيران أخرى أيضاً على تقييم هذا المفهوم عبر مشروعات مختلفة؛ بما فيها مشروع تعاوني بين شركة دلتا (Delta) وقسم الملاحة الجوية والملاحة الفضائية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي). (من الجدير بالذكر أن معهد إم آي تي يمتلك مجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو، غير أن المجلة مستقلة عن المعهد من الناحية التحريرية).

ثمة أساليب أخرى لتخفيض تشكل خطوط التكاثف؛ مثل الانتقال إلى استخدام أنواع مختلفة من الوقود أو مواصلة تطوير طائرات أفضل تعمل بالكهرباء أو الهيدروجين.

لكن الدراسات التي أجريت حتى الآن تشير إلى أن تعديل مسارات الرحلات قد يكون أحد أبسط الطرائق الممكنة للحد من الاحترار الناجم عن خطوط التكثف بدرجة كبيرة.

يقول رئيس قسم الملاحة الجوية والملاحة الفضائية في إم آي تي، ستيفن باريت: “حتى الآن، تبدو هذه الطريقة واعدة للغاية من حيث إنها تمثل الطريقة الأقل تكلفة والأسرع لتخفيف الآثار المناخية للطيران”.

ويضيف قائلاً إن اكتشاف أي طريقة لإحراز تقدم على المدى القصير يتسم بأهمية كبيرة، نظراً إلى لأنه ما زال من المرجح أننا سنحتاج إلى فترة طويلة لتطوير أساليب معقولة التكاليف وقابلة للتطبيق على نطاق واسع من أجل معالجة الانبعاثات الناجمة عن استخدام الوقود الثقيل.

اقرأ أيضاً: ما هي الشرائح الهاتفية الخضراء؟ وكيف تسهم في حماية البيئة؟

هل يؤدي تفادي تشكيل خطوط التكاثف النتائج المطلوبة؟

غير أننا سنحتاج أيضاً إلى المزيد من دراسات النمذجة، والتجارب الواقعية، حتى نثبت أن هذه الطريقة التي أصبحت معروفة باسم “تفادي تشكيل خطوط التكاثف” تقدم النتائج المطلوبة بالفعالية المأمولة.

فمن جهة، كما يقول باريت، ما زال الباحثون في حاجة إلى إجراء عمليات التصميم الهندسي والاختبار والتحسين للأنظمة التي تستطيع التنبؤ بمواقع تشكل خطوط التكاثف وتوقيتاتها، بصورة موثوقة ومع مهلة زمنية كافية لتغيير مسارات الطائرات، وذلك في خضم ظروف الطقس المتقلبة.

إضافة إلى ذلك، ثمة بعض التعقيدات الشائكة التي ما زالت في حاجة إلى حل، فعلى سبيل المثال؛ يمكن أن تؤدي السحب السمحاقية أيضاً إلى تخفيف الاحترار من خلال عكس إشعاعات الموجة القصيرة التي تصدرها الشمس.

ويجب أن نأخذ فقدان أثر التبريد هذا بعين الاعتبار في أي حسابات للفوائد الإجمالية، أو ربما نتفاداه. على سبيل المثال؛ يقول شابيرو إن الاستراتيجية الأولية قد تتمثل بتغيير مسار الرحلات فقط في وقت مبكر من المساء والليل؛ ما يؤدي إلى إزالة التعقيدات المتعلقة بعكس أشعة الشمس.

إضافة إلى هذا، فإن تخفيف الاحترار الناجم عن تفادي تشكيل خطوط التكثف يجب أن يكون مفعوله أقوى من الاحترار الإضافي الناجم عن زيادة التلوث بغازات الدفيئة. تصبح المسألة أكثر تعقيداً عندما نأخذ عاملاً آخر بعين الاعتبار، وهو إن كنا نكترث بالاحترار على المدى القريب أو البعيد، فتخفيف إنتاج خطوط التكاثف يؤدي إلى فائدة فورية؛ لكن إضافة أي قدر من ثنائي أوكسيد الكربون قد تستغرق عقوداً من الزمن كي يظهر أثره الاحتراري الكامل، وقد يستمر فترة تصل إلى مئات الأعوام أو حتى آلاف الأعوام.

وقد وجدت الدراسة الجديدة، على الأقل، أن تخفيف إنتاج خطوط التكاثف يؤدي إلى تخفيف الاحترار الإجمالي على مدى 20 عاماً و100 عام، حتى إذا أخذنا الكميات الإضافية من غازات الدفيئة بعين الاعتبار، وإن كان المفعول الإيجابي أقل من ذلك في هذا السيناريو. لكن هذه المسألة أيضاً تحتاج إلى مزيد من التقييم من خلال إجراء دراسات إضافية.

ثمة سؤال آخر ما زال دون إجابة؛ وهو إن كانت القيود المفروضة على المجال الجوي والاختناقات المرورية قادرة على أن تحد من قدرة شركات الطيران على تعديل مسارات الرحلات الجوية الضرورية بصورة منتظمة.

تأمل بريكثرو إنرجي في الخطوة التالية بأن تعمل مع شركات الطيران على دراسة بعض من هذه الأسئلة من خلال توسيع نطاق الرحلات الجوية الحقيقية وعمليات المراقبة.

لكن، حتى لو أثبتت الدراسات اللاحقة أن هذه الطريقة تمثل أسلوباً سريعاً وزهيد التكاليف لتخفيف الاحترار، ما زال من غير الواضح مدى استعداد شركات الطيران لتطبيق هذه الطريقة إن لم تلزمها السلطات المختصة بذلك. فعلى الرغم من ضآلة تكاليف الوقود الإضافية التي تؤدي إليها هذه الطريقة من حيث النسبة المئوية، فإنها يمكن أن تتراكم بسرعة على مستوى أسطول كامل من الطائرات ومع مرور الوقت.

اقرأ أيضاً: لماذا لا ترقى بدائل الوقود الأحفوري إلى مستوى التوقعات المتعلقة بالانبعاثات في صناعة الطيران؟

غير أن مؤلفي الدراسة يشددون على أنهم أثبتوا إمكانية استخدام طريقة تفادي تشكيل خطوط التكاثف للحصول على “فوائد مناخية ضخمة وفورية بتكلفة أقل من معظم الإجراءات المناخية الأخرى”. ووفقاً لوجهة نظرهم؛ فإن هذه الطريقة “يجب أن تتحول إلى إحدى المسائل الرئيسة التي ستركز عليها شركات الطيران في الأعوام المقبلة”.