كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث تحولاً جذرياً في الإنجازات العلمية؟

10 دقائق
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث تحولاً جذرياً في الإنجازات العلمية؟
حقوق الصورة: كريستوف بورغستيت مكتبة الصور العلمية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ها نحن ذا نشهد صيفاً آخر بطقس شديد القسوة، حيث تتعرض البلدان في أنحاء العالم كافة إلى موجات حر غير مسبوقة وحرائق برية وفيضانات. وفي محاولة لمواجهة تحدي التنبؤ بمثل هذه الحالات الطقسية المتطرفة بدقة، تعمل الشركة العملاقة في مجال أنصاف النواقل إنفيديا (Nvidia) على بناء “توأم رقمي” للكوكب بأسره بتصميم يعتمد على الذكاء الاصطناعي.

يحمل هذا التوأم الرقمي اسم “الأرض 2” (Earth-2)، وسيعتمد على التنبؤات الناتجة عن فوركاستنيت (FourCastNet)، وهو نموذج ذكاء اصطناعي يستخدم العشرات من التيرابايتات من بيانات نظام الأرض، ويستطيع التنبؤ بالطقس على مدى أسبوعين مقبلين بسرعة ودقة أعلى بعشرات الآلاف من المرات من الطرق الحالية للتنبؤ بالطقس.

تستطيع أنظمة التنبؤ بالطقس التقليدية توليد قرابة خمسين تنبؤاً للطقس الذي سيسود الأسبوع المقبل. أمّا فوركاستنيت فيستطيع التنبؤ بالآلاف من الاحتمالات، ويتميز بالدقة في التنبؤ بخطر الكوارث النادرة والمميتة، ما يمنح التجمعات السكانية المعرضة للخطر وقتاً ثميناً للاستعداد والإجلاء.

لقد بدأت الثورة التي كنا نحلم بها في مجال النمذجة المناخية. ومع تقدُّم الذكاء الاصطناعي، ستصبح الإنجازات العلمية أكثر تشويقاً بكثير، بل وقد تتغير جذرياً في بعض النواحي. وستتجاوز آثار هذه النقلة نطاق المختبر إلى حد بعيد، وستؤثّر علينا جميعاً.

إذا طبقنا هذه التكنولوجيا بصورة ملائمة، مع وجود تنظيم جيد ودعم مناسب للاستخدامات المبتكرة للذكاء الاصطناعي في التعامل مع أصعب المسائل العلمية، يمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى إحداث تغيير جذري في العملية العلمية. يمكننا بناء مستقبل تصبح فيه أدوات الذكاء الاصطناعي وسائل تريحنا من العمل المضني الذي لا يتطلب التفكير ويستغرق وقتاً طويلاً، وتقترح علينا اختراعات واكتشافات جديدة وإبداعية، ما يعزز تحقيق الإنجازات التي يمكن أن تستغرق عقوداً إذا ما اعتمدنا على الطرق التقليدية.

على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي كان في الأشهر القليلة الماضية شبه مرادف للنماذج اللغوية الكبيرة، فإن العلوم ومجالات البحث العلمي تتضمن عدداً كبيراً من الهيكليات المختلفة للنماذج التي يمكن أن تؤدي إلى آثار أكبر حتى. على مدى العقد المنصرم، كان معظم التقدم العلمي حتى الآن مرتكزاً على النماذج “الكلاسيكية” الأصغر المصممة للتركيز على أسئلة محددة. وقد تحققت إنجازات علمية كبيرة بفضل هذه النماذج. أمّا في الفترة الأخيرة، أصبح نطاق الاحتمالات أكبر بكثير، وذلك بفضل نماذج التعلم العميق الأكبر، التي بدأت بالاعتماد على المعرفة العابرة للمجالات والذكاء الاصطناعي التوليدي.

على سبيل المثال، استخدم العلماء في جامعة ماكماستر ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نموذج ذكاء اصطناعي لتحديد مضاد حيوي لعامل ممرض مقاوم للأدوية وصنفته منظمة الصحة العالمية ضمن أخطر أنواع البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية لمرضى المستشفيات. ويستطيع نموذج من جوجل ديب مايند التحكم في البلازما ضمن تفاعلات الاندماج النووي، ما يجعلنا أقرب إلى تحقيق ثورة في مجال الطاقة النظيفة. وفي مجال الرعاية الصحية، منحت الإدارة الأميركية للغذاء والدواء الترخيص للبدء باستخدام 523 جهازاً يعتمد على الذكاء الاصطناعي، ويُستخدم 75% منها في الطب الإشعاعي.

اقرأ أيضاً: جوجل تُطلق نموذج الذكاء الاصطناعي «بارد» بالعربية: كل ما تحتاج معرفته لاستخدامه

هيكلية جديدة للعلم

ستحافظ العملية العلمية، التي تعلمنا تفاصيلها في المرحلة الابتدائية، على جوهرها الرئيسي؛ أي إجراء البحث الأولي، ووضع الفرضيات، واختبارها من خلال التجارب، وتحليل البيانات الناتجة، والتوصل إلى استنتاج. لكن الذكاء الاصطناعي يتميز بقدرة كامنة على إحداث ثورة في طبيعة كلٍّ من هذه المراحل في المستقبل.

لقد بدأ الذكاء الاصطناعي منذ الآن بتغيير الأساليب التي يتبعها بعض العلماء في مراجعة المنشورات العلمية. فبعض الأدوات، مثل بيبر كيو أيه (PaperQA) وإيليسيت (Elicit)، تعتمد على النماذج اللغوية الكبيرة في مسح قواعد البيانات الخاصة بالمقالات وإنتاج ملخصات موجزة ودقيقة للمقالات الموجودة، وتتضمن الاستشهادات.

بعد الانتهاء من مراجعة المنشورات العلمية، يضع العلماء فرضية لاختبارها. يعتمد عمل النماذج اللغوية الكبيرة في جوهره على التنبؤ بالكلمة التالية في الجملة، ما يؤدي بدوره إلى صياغة جمل ومقاطع بأكملها. هذه الطريقة تجعل النماذج اللغوية الكبيرة مناسبة على نحو فريد للتعامل مع المشكلات الجوهرية الواسعة النطاق التي تعاني منها الهيكلية الهرمية للعلم، وتستطيع أن تمكّن هذه النماذج من التنبؤ بالاكتشاف المهم المقبل في مجال الفيزياء أو علم الأحياء.

يستطيع الذكاء الاصطناعي أيضاً أن يوسّع نطاق البحث -أو يضيق نطاق البحث- عن الفرضيات بسرعة أكبر. ولهذا، يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تساعد على صياغة فرضيات أكثر تماسكاً، مثل النماذج التي تنتج مركّبات مرشحة واعدة على نحو أفضل عند تصميم أدوية جديدة. لقد بدأنا نشهد عمليات محاكاة تعمل بسرعات تضاعفت على نحو هائل (عدة مراتب أسية) عما كان موجوداً منذ بضع سنوات وحسب، ما يسمح للعلماء باختبار المزيد من خيارات التصميم ضمن بيئة المحاكاة قبل إجراء التجارب العملية الحقيقية.

اقرأ أيضاً: هل يمكن للنماذج اللغوية أن تصحح تحيزاتها ذاتياً إذا طلبنا منها ذلك؟

على سبيل المثال، استخدم علماء في معهد كاليفورنيا للتقنية “كالتك” (CalTech) نموذج ذكاء اصطناعي لمحاكاة الموائع في عملية تصميم آلي لقثطار (أنبوب أجوف يُستخدم في عملية القثطرة) أفضل يمنع البكتيريا من الدخول في مجرى الدم والتسبب بالالتهابات. سيؤدي هذا إلى إحداث نقلة جذرية في عملية الاستكشاف العلمي التراكمية، ويُتيح للباحثين البدء بتصميم الحل الأفضل منذ البداية، بدلاً من الوصول إليه تدريجياً عبر مسار طويل من التحسينات المتتالية على التصميم الأولي، مثلما حدث خلال العمل الابتكاري الذي دام سنوات عديدة لتصميم فتائل المصابيح الكهربائية.

عند الانتقال إلى الخطوة التجريبية، سيُتيح الذكاء الاصطناعي إجراء التجارب بسرعة أكبر وتكلفة أقل وعلى نطاقٍ أوسع. على سبيل المثال، يمكن أن نبني آلات تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتحتوي على المئات من الممصات الدقيقة، وتعمل ليلاً ونهاراً على صنع العينات بوتيرة لا يستطيع البشر مضاهاتها. وبدلاً من الاقتصار على ست تجارب فقط، يستطيع العلماء استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لإجراء ألف تجربة.

لن يبقى العلماء القلقين بشأن مواصلة تأمين المنح المالية، ومواصلة النشر العلمي، والثبات الوظيفي، مقيدين بحدود التجارب الآمنة التي تتسم بأعلى احتمال للنجاح، وسيصبحون بدلاً من ذلك أحراراً في متابعة فرضيات أكثر جرأة وتغطي مجموعة أكبر من التخصصات في آن واحد. على سبيل المثال، يميلُ الباحثون عند تقييم الجزيئات الجديدة إلى التركيز على الجزيئات المرشحة المشابهة للجزيئات المعروفة من قبل، ولكن نماذج الذكاء الاصطناعي لا تحمل التحيزات والقيود نفسها.

في نهاية المطاف، ستُنَفّذ معظم العمليات العلمية في “مختبرات ذاتية العمل”، وهي منصات روبوتية مؤتمتة مزودة بأنظمة ذكاء اصطناعي. في هذه الحالة، يمكن أن ننقل قدرات الذكاء الاصطناعي من العالم الرقمي إلى العالم الحقيقي. بدأت المختبرات الذاتية العمل بالظهور في شركات مثل إيميرالد كلاود لاب (Emeral Cloud Lab) وأرتيفيشال (Artificial) وحتى في مختبر أرغون الوطني.

أخيراً، وفي مرحلة التحليل والاستنتاج، تنتقل المختبرات الذاتية العمل إلى مرحلة تتجاوز الأتمتة، وتستخدم النماذج اللغوية الكبيرة لتفسير النتائج التجريبية التي توصلت إليها وتقديم التوصيات بشأن التجربة التالية التي يجب إجراؤها. بعد ذلك، وفي إطار التعاون في العملية البحثية، يمكن للمساعد المخبري المشرف على الذكاء الاصطناعي طلب المواد لتعويض المواد المستخدمة في التجارب السابقة، وإعداد التجارب التالية الموصى بها وإجراؤها خلال الليل للحصول على النتائج في الصباح، فيما يمضي الباحث التجريبي ليلته نائماً في المنزل.

اقرأ أيضاً: هلوسات الذكاء الاصطناعي: ما الذي يدفع النماذج اللغوية لاختلاق المعلومات؟

الآفاق والقيود

من المحتمل أن الباحثين الشباب يشعرون بالقلق إزاء هذه الأفكار. ومن حسن الحظ أنه من المرجح أن تكون الوظائف الجديدة التي ستنشأ بسبب هذه الثورة أكثر إبداعاً وأقل رتابة مقارنة بمعظم الأعمال المخبرية الحالية.

تستطيع أدوات الذكاء الاصطناعي فتح المجال أمام عدد أكبر من العلماء الجدد للمساهمة في العمل العلمي، وإتاحة المزيد من الفرص للذين كانوا مُستَبعَدين من هذا المجال تقليدياً. وبوجود النماذج اللغوية الكبيرة التي تساعد على كتابة الرموز البرمجية، لم يعد طلاب العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) بحاجة إلى إتقان لغات برمجة مبهمة، ما يفتح أبواب هذا البرج العاجي أمام كفاءات جديدة وغير تقليدية، ويزيد من سهولة انخراط العلماء في مجالات أخرى مختلفة عن مجالاتهم. قريباً، يمكن أن تنتقل النماذج اللغوية الكبيرة المُدَربة على نحو خاص من مجرد تقديم مسودات أولية لأعمال مكتوبة مثل مقترحات المنح المالية، وتخضع لعمليات تطوير إضافية كي تستطيع إجراء مراجعات “الأقران” للأوراق البحثية الجديدة جنباً إلى جنب مع المراجعين البشر.

تتميز أدوات الذكاء الاصطناعي بقدراتٍ كامنة هائلة، إلّا أنه علينا أن نعترف بأن التدخل البشري ما زال ضرورياً في الكثير من الحالات، وتفادي التهور في الاستخدامات الجديدة. على سبيل المثال، لن يكون من السهل دمج الذكاء الاصطناعي والروبوتات من خلال المختبرات الذاتية العمل. فما زال هناك الكثير من المعرفة الضمنية التي يتلقّاها العلماء في المختبر، والتي يصعب نقلها إلى الروبوتات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي بسهولة. على نحو مماثل، يجب أن نكون مدركين للقيود -بل وحتى الهلوسات– التي تعاني منها النماذج اللغوية الكبيرة الحالية قبل أن نلقي على عاتقها جزءاً كبيراً من عملنا في المعاملات الورقية والبحث والتحليل.

ما زالت الشركات مثل أوبن أيه آي (OpenAI) وديب مايند (DeepMind) تحتل موقع الصدارة في الإنجازات الجديدة والنماذج والأوراق البحثية، لكن هيمنتها الحالية على هذا المجال لن تدوم إلى الأبد. فقد أثبتت ديب مايند حتى الآن تفوقها في التركيز على المعضلات المُعَرّفة على نحو جيد بأهداف ومعايير واضحة. وقد حققت الشركة أشهر نجاحاتها في التقييم النقدي لبنية البروتين (كاسب (CASP) اختصاراً)، وهي مسابقة تقام مرة كل سنتين، حيث تتنافس الفرق البحثية في التنبؤ بالشكل الدقيق للبروتين بناءً على ترتيب حموضه الأمينية.

من عام 2006 حتى 2016، كانت النتيجة الوسطية في الفئة الأكثر صعوبة تتراوح بين 30 و40 على مقياس كاسب الذي يمتدُ من 1 إلى 100. وفجأة، في 2018، حقق نموذج ألفافولد (AlphaFold) من ديب مايند نتيجة مذهلة بلغت 58. وتمكنت النسخة المحدّثة، ألفافولد 2 (AlphaFold 2) من تحقيق نتيجة بلغت 87 بعد سنتين، متجاوزة المتسابقين البشر بفارق هائل.

اقرأ أيضاً: شركة مصرية تطور نموذجاً مبتكراً للذكاء الاصطناعي يتحدث لغة البروتينات

بدأنا نلاحظ نمطاً متكرراً، بفضل الموارد المفتوحة المصدر، حيث يتمكن المجال من تحقيق إنجازات معينة، وبعد ذلك يبدأ الأكاديميون بالعمل على تحسين النموذج. فبعد إطلاق ديب مايند لنموذج ألفافولد، أطلق مينكيونغ بايك وديفيد بيكر من جامعة واشنطن نموذج روزيتافولد (RoseTTAFold)، الذي يعتمد على إطار عمل ديب مايند للتنبؤ ببنى المركبات البروتينية، بدلاً من بروتين واحد كما في حالة ألفافولد. أمّا الأهم من ذلك فهو أن الأكاديميين أبعد عن الضغوط التنافسية للسوق، ما يُتيح لهم تجاوز المشكلات المُعَرفة جيداً والنجاحات القابلة للقياس، التي تجتذب ديب مايند.

إضافة إلى الوصول إلى مستويات جديدة، يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدتنا على تأكيد ما نعرفه مسبقاً، وذلك بحل أزمة تكرار التجارب. يقول 70% من العلماء إنهم لم يتمكنوا من تكرار تجربة عالم آخر، وهي نسبة تدعو إلى الإحباط. وبفضل تأثير الذكاء الاصطناعي في تقليل التكلفة والجهد المطلوبين لإجراء التجارب، سيصبح تكرار النتائج أو الفشل في تكرارها، أكثر سهولة في بعض الحالات، ما يسهم في تعزيز الثقة بالعلم.

تمثّل الشفافية العامل الأهم في الثقة والقدرة على تكرار التجارب. في عالم مثالي، يكون كل ما يتعلق بالعلم متاحاً أمام الجميع، بدءاً من المقالات المجانية ووصولاً إلى الموارد المفتوحة المصدر من بيانات ورموز برمجية ونماذج. ومن سوء الحظ، وبسبب المشكلات الخطرة التي يمكن أن تتسبب بها هذه النماذج، فإن جعل جميع النماذج مفتوحة المصدر ليس بالفكرة الواقعية على الدوام. ففي كثيرٍ من الحالات، تصبح الوقاية من مخاطر الشفافية الكاملة أكثر أهمية من فوائد الثقة والمساواة. على الرغم من هذا، يجب أن نتحلى بأقصى قدرٍ ممكن من الشفافية فيما يتعلق بهذه النماذج، خصوصاً نماذج الذكاء الاصطناعي الكلاسيكية ذات الاستخدامات المحدودة بنسبة أكبر.

اقرأ أيضاً: بفضل الذكاء الاصطناعي: ديب مايند تتيح بنية جميع البروتينات المعروفة للعلماء

أهمية التنظيم

من المهم، في جميع المناحي السابقة، ألّا ننسى القيود والمخاطر المتجذرة في طبيعة الذكاء الاصطناعي. تتجسد القدرات الهائلة للذكاء الاصطناعي في أنه يسمح للبشر بتحقيق المزيد من الإنجازات بموارد أقل، ووقت أقل، وتعليم أقل، وتجهيزات أقل، إلّا أنه يمكن لهذه القدرات أن تحوّله إلى سلاحٍ خطير إذا وقع في أيدي جهات خبيثة. تعاقدت أوبن أيه آي مع الأستاذ في جامعة روتشستر، أندرو وايت، للمشاركة في “الفريق الأحمر” الذي يمكن أن يكشف مخاطر جي بي تي-4 (GPT-4) قبل إطلاقه. وباستخدام النموذج اللغوي، مع إمكانية الوصول إلى أدواته، وجد وايت أنه قادر على اقتراح مركبات خطيرة، بل وحتى طلبها من أحد مورّدي المواد الكيميائية. ولاختبار هذه العملية، حصل على مركّب تجريبي (آمن) طلب أن يُشحن إلى منزله في الأسبوع التالي. تقول أوبن أيه آي إنه اعتمد على نتائجه لتعديل جي بي تي 4 قبل إطلاقه.

يمكن حتى للبشر من ذوي النوايا الحسنة تماماً أن يلقموا أنظمة الذكاء الاصطناعي بأوامر نصية يمكن أن تؤدي إلى نتائج سيئة. يجب ألّا نشغل أذهاننا بالقلق من احتمال ظهور ذكاء اصطناعي خطير وخارج عن السيطرة، كما في فيلم ترميناتور (Terminator)، ونركّز بدلاً من ذلك، كما قال عالم الحواسيب ستيوارت راسل، على تفادي ارتكاب غلطة الملك ميداس، الذي تمنى أن يتحول كل ما يلمسه إلى ذهب، ما أدّى به إلى قتل ابنته بالخطأ عندما عانقها.

ليست لدينا آلية لدفع الذكاء الاصطناعي، من خلال أمر نصي ما، إلى تغيير هدفه، حتى عندما يتفاعل مع هدفه بطريقة غير متوقعة. من الحالات الافتراضية المذكورة كثيراً إعطاء أمر نصي للذكاء الاصطناعي بإنتاج أكبر عدد ممكن من مشابك الورق. وبما أن النموذج مصمم على تحقيق هدفه، يمكن أن يستولي على الشبكة الكهربائية، ويقتل أي بشري يحاول منعه، فيما تتراكم مشابك الورق باستمرار. ويعم الخراب في العالم. أمّا الذكاء الاصطناعي فيهنئ نفسه، فقد نفّذ مهمته بنجاح. وفي إشارة غير مباشرة إلى هذه التجربة الذهنية الشهيرة، يحمل الكثير من موظفي أوبن أيه آي مشابك ورق بعلامات تجارية شهيرة.

اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي: هل حان الوقت للحديث عن النفوذ بدلاً من مناقشة الأخلاقيات؟

تمكنت أوبن أيه آي من تطبيق مجموعة مثيرة للإعجاب من الإجراءات الوقائية، ولكنها فعّالة فقط بشرط بقاء جي بي تي 4 يعمل على خوادم أوبن أيه آي. من المرجح أن يتمكن شخص ما لاحقاً من نسخ النموذج واستضافته على خادم يخصه. يجب حماية هذه النماذج المبتكرة والمتطورة لمنع اللصوص من إزالة قيود حماية الذكاء الاصطناعي التي أضافها مطوروها الأصليون بعناية.

وللتعامل مع الاستخدامات السلبية للذكاء الاصطناعي، سواء كانت مقصودة أو لا، نحتاج إلى قوانين مبنية على معلومات جيدة لتنظيم عمل الشركات التكنولوجية العملاقة والنماذج المفتوحة المصدر، بحيث لا تعوق استخدام الذكاء الاصطناعي بطرقٍ مفيدة للعلم. على الرغم من أن الشركات التكنولوجية قطعت شوطاً كبيراً في مجال أمان الذكاء الاصطناعي، فإن المشرعين الحكوميين حالياً غير مستعدين على الإطلاق لفرض قوانين مناسبة، ويجب أن يبذلوا المزيد من الجهود لتثقيف أنفسهم في هذا المجال، والاطلاع على أحدث تطوراته.

إضافة إلى التنظيم، يمكن للحكومات -مع المؤسسات الخيرية- أن تدعم المشاريع العلمية التي تتميز بعائد اجتماعي مرتفع دون عائد مالي جيد أو حافز أكاديمي. ثمة الكثير من المجالات التي يجب أن نجد حلولاً لمشكلاتها على نحو خاص وملح، بما فيها التغيّر المناخي، والأمن الحيوي، والاستعداد لمواجهة الأوبئة والجائحات. في هذه المجالات بالذات، نحن في حاجة ماسة إلى ما يمكن للذكاء الاصطناعي والمختبرات الذاتية العمل توفيره من سرعة ومستوى عالٍ من الأداء.

يمكن للحكومات أن تساعد أيضاً على تطوير مجموعات بيانات ضخمة وعالية الجودة، مثل تلك التي كان نموذج ألفافولد يعتمد عليها، وبقدر ما تسمح به مخاوف الأمان والسلامة. تمثّل مجموعات البيانات المفتوحة ممتلكات عامة؛ فهي تفيد الكثير من الباحثين، ولكن ليس لدى الباحثين حافز يكفي لدفعهم إلى بناء هذه المجموعات بأنفسهم. يمكن للحكومات والمنظمات الخيرية أن تعمل مع الجامعات والشركات لتحديد التحديات العلمية المؤثرة، التي يمكن التصدي لها من خلال الاستفادة من سهولة الوصول إلى قواعد بيانات عالية الجودة.

على سبيل المثال، تتميز الكيمياء بلغة واحدة فقط توحّد هذا المجال بأسره، وعلى ما يبدو، فإن طبيعة هذه اللغة تجعل تحليلها سهلاً بالنسبة لنماذج الذكاء الاصطناعي، إلّا أنه لا توجد في حوزة أي جهة مجموعة بيانات شاملة حول خصائص الجزيئات، المُخَزنة حالياً في العشرات من قواعد البيانات، وهو ما يعوق التوصل إلى استنتاجات كان يمكن الحصول عليها باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي في حال وجود مصدر موحد للبيانات في هذا المجال. أمّا علم الأحياء، من ناحية أخرى، فيفتقر إلى البيانات المعروفة والقابلة للحساب والقياس كما في حالة الفيزياء والكيمياء، بل إن بعض المجالات الفرعية، مثل البروتينات المضطربة ذاتياً، ما زالت أقرب إلى اللغز بالنسبة لنا. ولهذا، ستحتاج إلى جهود أكثر تنسيقاً لاستيعاب البيانات اللازمة لبناء قاعدة بيانات شاملة، بل وحتى تسجيلها.

اقرأ أيضاً: دليل شركات التكنولوجيا الكبرى للحديث عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي

ما زال أمامنا شوط طويل قبل تحقيق تبني الذكاء الاصطناعي على نطاق أوسع في العلم، وما زال أمامنا الكثير مما يجب تنفيذه على نحو صحيح، بدءاً من بناء قواعد البيانات المناسبة، وصولاً إلى تطبيق القوانين الصحيحة، وتخفيف التحيزات في خوارزميات الذكاء الاصطناعي لضمان الوصول العادل العابر للحدود للجميع إلى الموارد اللازمة، مثل الحواسيب ووحدات المعالجة الرسومية.

على الرغم من كل هذا، فنحن نعيش لحظة تدعو إلى التفاؤل. لقد كانت التحولات السابقة التي شهدها النموذج الفكري في العلم، مثل ظهور العملية العلمية أو البيانات الكبيرة، تتمحور حول الجوانب الذاتية في معظمها، وتهدف إلى جعل العلم أكثر دقة وضبطاً ومنهجية. أمّا الذكاء الاصطناعي فيتمتع بطبيعة توسعية، ويُتيح لنا جمع المعلومات بطرقٍ جديدة، ورفع الابتكار والتقدُّم في العلوم إلى مستويات غير مسبوقة.