ابتكار طبي جديد: أعضاء مصغّرة من الخلايا التي تفرزها الأجنّة داخل الرحم

4 دقيقة
"ابتكار طبي جديد: أعضاء مصغّرة من الخلايا التي تفرزها الأجنّة داخل الرحم "
حقوق الصورة: shutterstock.com/Billion Photos
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عندما ينمو الجنين داخل الرحم، ينتقل بعض الخلايا الجنينية إلى السائل الأمنيوسي الذي يحيط به ويوفر له الحماية. أثبت الباحثون الآن أنهم يستطيعون استخدام هذه الخلايا لزراعة العضيّات (أعضاء مصغّرة)، وهي هياكل ثلاثية الأبعاد تحتوي بعض خصائص الأعضاء البشرية، على غرار الكلى والأمعاء الدقيقة والرئتين في هذه التجربة. يمكن أن توفر هذه العضيّات للأطباء مزيداً من المعلومات حول كيفية تطور أعضاء الجنين؛ ما قد يؤدي إلى تحسين تشخيص الأمراض الخلقية قبل الولادة مثل السنسنة المشقوقة (spina bifida).

اقرأ أيضاً: دواء مبتكر بمساعدة الذكاء الاصطناعي لعلاج التهابات الأمعاء المستعصية

عضيات من الخلايا الجنينية

لا تُعد هذه المرة الأولى التي تُنتج فيها عضيّات من الخلايا الجنينية؛ إذ عملت مجموعات بحثية أخرى على زراعة عضيّات من أنسجة جنينية بعد حالات الحمل المنتهية؛ لكن تُعد هذه المجموعة من بين المجموعات البحثية الرائدة التي نجحت في زراعة العضيّات باستخدام خلايا مأخوذة من السائل الأمنيوسي؛ الذي يمكن استخراجه دون إلحاق أي ضرر بالجنين.

عرف الباحثون منذ عقود أن السائل الأمنيوسي يحتوي خلايا جنينية؛ ما يسمح للأطباء بتشخيص حالات مثل متلازمة داون وداء الخلايا المنجلية قبل الولادة عن طريق ما يُسمى “بزل السلى”، وهو إجراء لأخذ عينة من السائل باستخدام إبرة. يقول عالم أحياء الخلايا الجذعية في كلية لندن الجامعية وأحد مؤلفي البحث المنشور في مجلة نيتشر ميديسين (Nature Medicine) في 4 مارس/آذار، ماتيا جيرلي، إن الغالبية العظمى من هذه الخلايا، 95% أو أكثر، هي خلايا ميتة تتساقط من أنسجة الجنين. لكنّ الباحثين ركزوا على الجزء الأصغر بكثير من الخلايا الحية في السائل الأمنيوسي.

أولاً، عمل الباحثون على تحديد أنواع الخلايا الموجودة في السائل الأمنيوسي، وذلك من خلال رسم خريطة هويتها الوراثية، ثم استخدام تقنية تخطيط تسلسل الخلايا الفردية لتقييم منشأ هذه الخلايا. بعد ذلك، وضع الفريق 3 أنواع من الخلايا الأصلية، الكلى والرئة والأمعاء الدقيقة، في مزرعة ثلاثية الأبعاد، وذلك لتقييم قدرتها على تشكيل العضيّات.

يقول المؤلف المشارك وجراح الأطفال في كلية لندن الجامعية ومستشفى غريت أورموند ستريت (Great Ormond Street Hospital)، باولو دي كوبي، في مؤتمر صحفي: “نحن فقط نأخذ الخلايا كما هي ونضعها في قطرة من الهلام، إنها تقنية بسيطة جداً”.

نجحت التجربة بالفعل؛ إذ نمت العضيّات وظهرت عليها سمات وخصائص الأنسجة التي نشأت منها الخلايا. على سبيل المثال؛ في غضون أسابيع، أصبحت عضيّات الرئة المصغّرة تحتوي على هياكل نابضة تشبه الشعيرات الدقيقة تسمى “الأهداب”، تشبه تلك الموجودة داخل الرئة.

يتعامل دي كوبي غالباً مع العيوب الخلقية، بصفته جراح أطفال. يمكن للأطباء اكتشاف هذه العيوب باستخدام تقنية التصوير؛ لكن لا تتوفر لديهم طريقة فعالة لتقييم مدى شدتها أو تأثيرها على وظائف الأعضاء. لتقييم إمكانية استخدام عضيّات الرئة المصغّرة في توفير بعض هذه المعلومات، جمع الفريق خلايا من أجنّة مصابة بحالة نادرة تسمى “فتق الحجاب الحاجز الخلقي” (CDH). تعاني هذه الأجنّة وجود فجوة في الحجاب الحاجز تسمح للأعضاء الموجودة في البطن بالنزوح إلى التجويف الصدري والضغط على الرئتين. يقول دي كوبي: “إذا تعرضت الرئة إلى الضغط، فإنها لا تنمو بالطريقة الصحيحة؛ ومن ثَمّ فإن 70% فقط من هذه الأجنّة سوف تبقى على قيد الحياة”.

اقرأ أيضاً: إنجاز جديد: بطين أيمن آلي مطابق للبشري لمحاكاة حالات الصحة والمرض

قارن الفريق العضيّات المزروعة من الأجنّة المصابة بالفتق الحجابي الخلقي مع العضيّات المزروعة من أجنّة سليمة. في البداية، لم تظهر اختلافات واضحة بين المجموعتين. لكن عند تحفيز العضيّات على التمايز لمحاكاة جزء الرئة الأقرب إلى القصبة الهوائية، أو الأجزاء العميقة من الرئة، لاحظ الباحثون بعض الاختلافات المذهلة. طوّرت العضيّات الصحية والعضيّات المصابة بفتق الحجاب الحاجز الخلقي أهداباً؛ لكنّ النمط كان مختلفاً في العضيّات المصابة بفتق الحجاب الحاجز الخلقي، وكانت تعاني صعوبة أكبر في التمايز. بالإضافة إلى ذلك، أنتجت العضيّات المصابة بالفتق الحجابي الخلقي كمية أقل من المادة الفاعلة بالسطح الرئوي، وهي مادة تساعد الأكياس الهوائية في الرئتين على العمل بطريقة سليمة.

يمكن علاج الفتق الحجابي الخلقي؛ إذ يضع الجراحون بالوناً في القصبة الهوائية للجنين لإجبار الرئتين على الضغط ودفع الأعضاء المجاورة المتقدمة. عندما قارن الباحثون عضيّات الرئة المزروعة من خلايا مأخوذة من السائل الأمنيوسي قبل إجراء البالون وبعده، وجدوا أن العضيّات المعالَجة نمت بطريقة مشابهة جداً لعضيّات الرئة الطبيعية، وأشارت دراسة التعبير الجيني إلى نمو أكثر اكتمالاً في هذه العضيّات.

استخدامات محتملة للعضيّات

تشير هذه النتائج إلى استخدامَين محتمَلين. يتطلب وضع البالون إجراء عملية جراحية للجنين، ولا تتوفر لدى الأطباء طريقة فعالة لتحديد الأجنّة التي يمكن أن تستفيد من هذا الإجراء والأجنّة التي لن تستفيد منه. ربما تساعد هذه العضيّات المخصصة الأطباء على تحديد مدى تأخر نمو الرئتين حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات مدروسة أفضل. بالنسبة إلى الأجنّة التي تخضع إلى هذا الإجراء، فمن الممكن أن توفر العضيّات للأطباء معلومات حول فعالية هذه العملية ومدى نجاحها.

بالإضافة إلى هؤلاء الباحثين، ثمة مجموعات بحثية أخرى طورت عضيّات باستخدام الخلايا الموجودة في السائل الأمنيوسي. في ورقة بحثية أولية نُشرت في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، أفاد باحثون أنهم تمكنوا من زراعة مثل هذه الخلايا لإنشاء عضّيات رئوية وكلوية.

على الرغم من أن هذه العضيّات لا تُعد أعضاءً وظيفية مصغّرة مثلما يوحي اسمها، فإنّ هذه المجموعات من الخلايا تعيد تكوين بعض الأجزاء من بنية الأعضاء الحقيقية وتعقيدها، ونتيجة لذلك؛ فإنها يمكن أن توفر فرصة فريدة لفهم مراحل تطور الإنسان. ونظراً إلى أنها تحمل الطفرات الجينية نفسها التي يحملها الجنين، فيمكنها أيضاً إعطاء الأطباء لمحة عن كيفية تطور ذلك الجنين على وجه التحديد.

ما تزال العضيّات غير جاهزة للاستخدام السريري حتى الآن؛ لكن يتصور الفريقان العديد من الاستخدامات المحتملة لنماذج الأعضاء الجنينية المخصصة هذه. عندما يكتشف التصوير بالموجات فوق الصوتية بعض التشوهات الخلقية، يمكن للعضيّات أن تكشف سبب تلك التشوهات في الوقت الفعلي، وربما توجه الأطباء إلى العلاجات التي يمكن تقديمها في أثناء نمو الأعضاء، ويمكنها أيضاً أن تساعد الباحثين على فهم التشوهات التي لا تنجم عن اضطراب وراثي وتسلط الضوء على كيفية تأثير التعرض إلى العوامل البيئية على النمو.

اقرأ أيضاً: زراعة قلوب الحيوانات قد تنقذ حياة الأطفال الذين يعانون من اعتلالات قلبية

يشير دي كوبي إلى أن شركات الأدوية بدأت استخدام العضيّات المشتقة من الخلايا البالغة لتحديد علاجات جديدة. ويشير إلى إمكانية الاستفادة من تلك التطورات التكنولوجية في مجال دراسة نمو الجنين؛ إذ يقول: “للمرة الأولى، نستطيع بالفعل فحص الجنين ودراسة نموه دون الحاجة إلى التدخل المباشر وتعريضه للخطر”.