كيف أحدثت تكنولوجيا البلوك تشين ثورة في حياتنا؟

5 دقائق
كيف أحدثت تكنولوجيا البلوك تشين ثورة في حياتنا؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/NicoElNino
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في خريف عام 2008، عندما كان العالم يترنح على حافة الانهيار المالي، ظهرت وثيقة مكونة من تسع صفحات على قائمة بريدية متخصصة. كتبت هذه الوثيقة شخصية غامضة تُدعى ساتوشي ناكاموتو (Satoshi Nakamoto)، ولا نعرف حتى الآن ما إذا كانت هذه الشخصية رجلاً أم سيدة أم مجموعة متخصصة، ولم يستطع أحد على الرغم من كل المحاولات والتكهنات أن يكتشف شخصية أو ماهية ساتوشي ناكاموتو.

ولكن بغض النظر عن هذا الجانب الغامض، تلك الوثيقة المنشورة كانت البداية لثورة تكنولوجية كبيرة مستمرة حتى الآن. كان عنوان الوثيقة “Bitcoin: A Peer-to-Peer Electronic Cash System” وفيها توضيح لفكرة تكنولوجيا البلوك تشين (Blockchain) وتطبيقاتها المتمثلة في العملة المشفرة التي تُسمّى البيتكوين. ومن هنا جاء الربط المباشر بين الكلمتين، وفي أحيان كثيرة، حينما يتم ذكر البلوك تشين، يعتقد السامع أن المقصود هو العملة المشفرة البيتكوين، ولكن الحقيقة هي أن العلاقة بين البلوك تشين والبيتكوين مثل العلاقة بين تكنولوجيا التبريد وجهاز التكييف المركب في المنزل الذي يعتبر أحد تطبيقات تكنولوجيا التبريد، ولا يعني تعطل جهاز التكييف أن التكنولوجيا غير مفيدة. وبالمنطق نفسه فإن البيتكوين من تطبيقات تكنولوجيا البلوك تشين ولا يعني حظر التعامل بالبيتكوين في كثيرٍ من الدول أن تكنولوجيا البلوك تشين غير مفيدة، بل بالعكس تماماً، تعتبر البلوك تشين ثورة في عالم التكنولوجيا.

اقرأ أيضاً: ما أبرز التطبيقات العملية لتكنولوجيا البلوك تشين وكيف ستغيّر حياتنا؟

تعريف البلوك تشين

ببساطة، البلوك تشين هي تكنولوجيا لتخزين المعلومات، ولكنها تختلف عن الطرق التقليدية مثل قواعد البيانات الشهيرة والمستخدمة في كثيرٍ من التطبيقات. طريقة البلوك تشين بسيطة جداً من الناحية النظرية، ولكنها معقدة من الناحية التكنولوجية، ولنأخذ مثالاً بسيطاً يوضح الفكرة. تخيل مجموعة من عشرة أصدقاء يرغبون في تسجيل معاملاتهم المالية المشتركة مثلاً، كم يدين بعضهم بعضاً بأموال أو أشياء مختلفة مثل تذاكر السينما والعشاء، ومَا إلى ذلك من معاملات بينهم. الحل البسيط أن تتم كتابة ذلك على ورقة أو في ملف إكسل على الحاسوب، وبالتأكيد تحتاج هذه الطريقة إلى الكثير من المتابعة والثقة في مُدخل البيانات والتأكد من أن أحداً لن يستطيع تعديل تلك البيانات لاحقاً، ناهيك عن الأخطاء العادية التي يمكن أن تحدث.

هنا تظهر فائدة البلوك تشين في حل المعضلات الرئيسية في طرق تخزين المعلومات التقليدية، وبالعودة الى مثال الأصدقاء العشرة الذين يقررون بدلاً من كتابة معاملاتهم على الورق، تسجيلها على البلوك تشين. ولنشرح كيف سيتم ذلك:

  1. المعاملات: كلما اقترض أحد الأصدقاء مبلغاً من صديقه يتم إنشاء سجل للمعاملة. يتضمن هذا السجل اسم المُقرض واسم المقترض منه ومبلغ القرض والتاريخ والساعة التي تمت فيها العملية. مثلاً “أحمد دفع 20 دولاراً لعلي يوم 15 مارس الساعة 9 صباحاً”.
  2. الكتلة: بدلاً من إضافة سجل المعاملة السابقة مباشرةً إلى البلوك تشين، يتم أولاً دمجه مع مجموعة من المعاملات الأخرى في كتلة. يمكنك التفكير في هذه الكتلة كصفحة من دفتر الأستاذ أو المذكرة. ومن هنا يأتي تفسير الجزء الأول من اسم البلوك تشين (Block chain).
  3.  التحقق: قبل إضافة هذه الكتلة إلى البلوك تشين، يجب التحقق منها. اتفق الأصدقاء على أنه للتحقق من الكتلة والمعلومات التي بها، يجب أن يحاول كل الأصدقاء حل مسألة حسابية معقدة، وأول من يستطيع حلها يحصل على مكافأة.
  4.  السلسلة: بمجرد التحقق من الكتلة، تتم إضافتها إلى سلسلة البلوك تشين. تتضمن كل كتلة في السلسلة رمزاً فريداً لها، وكذلك يتم تسجيل الرمز الفريد للكتلة التي قبلها. هذا يخلق سلسلة من الكتل، ترتبط كل كتلة بتلك التي قبلها وبعدها. إذا أردت تغيير معاملة في كتلة، سيتعين عليك تغيير كل كتلة تأتي بعدها، وهو أمر مستحيل عملياً. هذا يجعل البلوك تشين تكنولوجيا آمنة ومحمية من التلاعب.
  5. اللامركزية: جزء مهم آخر، حيث يحتفظ كل صديق بنسخة من البلوك تشين. لذا، بدلاً من وجود سلطة مركزية واحدة (كالبنك مثلاً)، يتم نشر السجل في أماكن متعددة. إذا حاول شخص ما الغش أو إجراء معاملة غير صحيحة أو تعديل معاملة تمت، فلن يتم التحقق منها، لأنها لن تتطابق مع بقية النسخ من الدفتر.
  6. الشفافية: يمكن لكل صديق قراءة جميع الإدخالات في المذكرة في أي وقت.
  7. عدم القابلية للتغيير: بمجرد كتابة الإدخال وقلب الصفحة (إنشاء كتلة جديدة)، لا يمكن تغييرها أو إزالتها. هذا بسبب رابط التشفير بين الكتل. يبدو الأمر وكأنك تريد تغيير إدخال في الصفحة 5، حيث سيتعين عليك مسح وإعادة كتابة جميع الإدخالات حتى الصفحة الحالية، وهذا عملياً غير ممكن.

هذا الجمع الفريد من الشفافية والأمان واللامركزية وعدم القابلية للتغيير هو ما يجعل البلوك تشين تكنولوجيا ثورية، لديها القدرة على إعادة تشكيل التعامل مع البيانات في كل المجالات ومختلف الصناعات عن طريق توفير الثقة وإزالة الوسطاء وجعل العمليات المالية واللوجستية أكثر شفافية وكفاءة.

اقرأ أيضاً: كيف تحمي البلوك تشين خصوصية المستخدمين وبياناتهم؟

تطبيقات البلوك تشين

تجاوزت فائدة البلوك تشين أنها الأساس في تطوير العملات المشفرة مثل البيتكوين وغيرها، لتصبح ثورة تكنولوجية أدّت إلى حل الكثير من المشكلات في مجالات عديدة، مثل سلاسل التوريد والمعاملات المصرفية والرعاية الصحية والاستثمار والتسجيل العقاري وجميع المعاملات الحكومية.

في المجال المالي، تحولت البلوك تشين إلى أداة قوية تتمثل فيما يُسمّى العقود الذكية، وهي العقود التي تنفذ ذاتياً عند تحقق شروط وظروف محددة متفق عليها بين أطراف العقد مسبقاً. وكذلك تطبيقات التمويل الموزع (DeFi) التي تعمل بشكلٍ مستقل عن الأنظمة المصرفية التقليدية. وبالإضافة إلى ذلك، مهّدت الطريق لترميز الأصول بأنواعها المختلفة، ما يجلب الأصول الحقيقية مثل العقارات والأعمال الفنية وغيرها إلى العالم الرقمي ليسهل التعامل معها.

أمّا في سلاسل التوريد، يؤدي استخدام تكنولوجيا البلوك تشين إلى الشفافية والقدرة على التتبع، فمثلاً يمكن مراقبة رحلة الذهب من المنجم في جنوب إفريقيا إلى السوق في دبي، أو تتبع تفاحة عضوية تمت زراعتها في الهند حتى بيعها في السوق في فرنسا.

كما استفادت الحكومات من تكنولوجيا البلوك تشين في إنجاز المعاملات الحكومية وربط الخدمات ببعضها، كما حدث في دول مثل الإمارات العربية المتحدة.

اقرأ أيضاً: لعبة خيال علمي قائمة على البلوك تشين لبناء ميتافيرس لا مركزي

رواد استخدام البلوكشين

تتفاوت نسبة القبول العالمي لتكنولوجيا البلوك تشين من دولةٍ إلى أخرى، في الغالب بسبب الأطر التنظيمية والاستعداد التكنولوجي. تشكّل الصين وكوريا الجنوبية طليعة الدول التي دمجت البلوك تشين في الخدمات العامة، فالصين أطلقت عملتها المشفرة (اليوان الرقمي)، وظهرت كوريا الجنوبية أيضاً، مع سوقها الرقمية المزدهرة ومبادرات البلوك تشين المموَّلة من الحكومة، كلاعب رئيسي، كما أصبحت سنغافورة، مع بيئتها التنظيمية المواتية، مركزاً مزدهراً لشركات ناشئة تعمل في مجال البلوك تشين.

وفي أوروبا، تتميز إستونيا بنهجها الثوري في البلوك تشين الذي تستخدمه في الإدارة العامة وإصدار بطاقات التعريف لما يُسمّى المواطن الإلكتروني الإستوني. أمّا باقي دول الاتحاد الأوروبي، فمن خلال الشراكة الأوروبية للبلوك تشين، فتشجّع الخدمات التي تستخدم تكنولوجيا البلوك تشين عبر الحدود. وقد أنشأت “وادي الكريبتو” في زيورخ بسويسرا التي تعتبر مركزاً لشركات البلوك تشين الناشئة بسبب بيئتها التنظيمية والتكنولوجية المناسبة لهذا النوع من الشركات.

عبر المحيط الأطلسي، تضم الولايات المتحدة وكندا بيئة تشجّع الابتكارات في تطبيقات البلوك تشين، بمساعدة من مجموعة من الشركات الرائدة في التكنولوجيا والشركات الناشئة والمنظمات والهيئات الداعمة. وتستفيد دول أميركا الجنوبية مثل الأرجنتين وفنزويلا، التي تعاني من تقلبات اقتصادية عنيفة، من البلوك تشين والعملات الرقمية كحلولٍ مالية بديلة.

اقرأ أيضاً: كيف يؤثر استخدام تكنولوجيا البلوك تشين على قطاع الخدمات المالية؟

مستقبل البلوك تشين

تبنّي البلوك تشين في مجالات عديدة أصبح هدفاً استراتيجياً لدولٍ كثيرة، وقامت شركات عملاقة مثل آي بي إم (IBM) وأمازون (Amazon) بتبني البلوك تشين وتطوير الكثير من التطبيقات ومنصات خاصة للمطورين لمساعدتهم على تطوير تطبيقات للمجالات كافة.

يبدو المستقبل واعداً مع تجاوز القضايا المعوقة للتطبيق. وقريباً، قد نشهد الاستخدام الكامل للبلوك تشين في أنظمة التصويت مع خلق منصات موزعة وآمنة تعزز الديمقراطية وتُتيح سهولة وأمان وسرية العملية الانتخابية. في الرعاية الصحية، قد تُتيح البلوك تشين مشاركة آمنة للسجلات الطبية دون تعرض المريض لانتهاك الخصوصية.

اقرأ أيضاً: من الرقمية إلى الحياة الواقعية: 5 مشكلات يمكن أن تحلها تكنولوجيا البلوك تشين

تطور البلوك تشين على مدار عقد من الزمن من بروتوكول للعملة المشفرة إلى تكنولوجيا رائدة تحمل وعداً بإعادة تعريف النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمجتمعاتنا، فتكنولوجيا البلوك تشين هي تجسيد للثقة والشفافية واللامركزية التي تعيد تعريف المشهد الرقمي. إنها ليست مجرد تكنولوجيا تضاف إلى ما ابتكره الإنسان؛ بل هي إيذان بدخول عصر رقمي جديد تكون فيه سلامة البيانات وشفافيتها هي القاعدة، لا الاستثناء.