هل ستحل العملة الرقمية الصينية مكان الدولار في التعاملات التجارية الدولية؟

10 دقائق
هل ستحل العملة الرقمية الصينية مكان الدولار في التعاملات التجارية الدولية؟
مصدر الصورة: ستيفاني آرنيت. إم آي تي تي آر. إنفاتو
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بدت ولادة اليوان الرقمي الصيني ناجمة عن رغبة تحقيق السيطرة المركزية على نظام دفع إلكتروني تسيطر عليه الشركات التكنولوجية علي بابا (Alibaba) وتينسينت (Tencent). ووفقاً للمصرف المركزي الصيني، فإن هذه العملة الرقمية -المعروفة أيضاً باسم “إي سي إن واي” (e-CNY)- تؤدي دور بديل خالٍ من المخاطر لهذه المنصات التجارية، وبديل للأموال النقدية التي بدأ استخدامها يتراجع بالتدريج في وقت واحد،

إلّا أنه بعدما يقرب من ثلاث سنوات من إطلاق هذا البرنامج التجريبي، يبدو أن الحكومة ما زالت تواجه صعوبات في العثور على تطبيقات مفيدة لهذه العملة، التي لم تحقق سوى درجة ضعيفة من الانتشار. والآن، يبدو أن الهدف من هذه العملة بدأ يتغير، أو بدأ نطاقه يتوسع على الأقل؛ فقد بدأت الصين، على ما يبدو، تنفذ خططها لاستخدام عملتها الرقمية إي سي إن واي لأغراض التجارة الدولية خارج حدودها.

وإذا حققت النجاح، فمن الممكن أن تمثّل تحدياً لمكانة الدولار الأميركي بوصفه العملة الاحتياطية الأولى في العالم، ما يمكن أن يحدث هزة في النظام الجيوسياسي العالمي.

المنطق الحكومي

من وجهة نظر مراقب خارجي لمجريات الأحداث، ليس من الممكن أن نتيقّن من الخطط الحكومية للإي سي إن واي بالكامل. وعلى الرغم من أن بنك الصين الشعبي (PBOC) لم يتردد في التصريح عن مشروعه للعملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي “سي بي دي سي” (CBDC)، إلّا أنه لم يكشف الكثير من التفاصيل حول آلية عمل إي سي إن واي المفصلة، أو طريقة استخدامها في نهاية المطاف. ما نعلمه على وجه اليقين هو أن هذا المشروع بدأ منذ فترة طويلة.

ففي حين أطلقت علي بابا وتينسينت نظاميهما للدفع الرقمي في 2004 (بالنسبة إلى الأولى) و2005 (بالنسبة إلى الثانية)، بدأت الصين بإجراء الأبحاث على تكنولوجيا العملة الرقمية في 2014، وأسست معهداً بحثياً مكرساً لهذه الفكرة في 2016، على أمل إنشاء بديل مركزي. وبعد ذلك، في 2019، عندما اقترحت ميتا (Meta) (التي كانت تحمل اسم فيسبوك (Facebook) في تلك الفترة) عملتها الرقمية العالمية التي تخصها، أعرب مسؤولو بنك الصين الشعبي عن قلقهم من أن هذه العملة، التي كانت تحمل اسم ليبرا (Libra)، قد تؤدي إلى تقويض السيادة المالية للعملة الصينية، اليوان. وفي السنة التالية، أطلق بنك الصين الشعبي مرحلة البرنامج التجريبي للإي سي إن واي، التي ما زالت مستمرة حتى الآن.

وفقاً للمدير العام لمعهد العملات الرقمية في بنك الصين الشعبي، مو تشانغتشون، ثمة ثلاثة أهداف رئيسية لمشروع إي سي إن واي: تحسين فاعلية نظام المصرف المركزي للدفع الإلكتروني، وتوفير نظام احتياطي لنظام الدفع الإلكتروني في قطاع التجزئة، و”تحسين الشمولية المالية”.

اقرأ أيضاً: أين وصلت فكرة الدولار الرقمي اليوم؟ وهل هي مجدية؟

وقد قال في حديث عبر منصة زوم (Zoom) في حدث استضافته السنة الماضية مؤسسة المجلس الأطلسي للدراسات المختصة بالسياسات الخارجية (Atlantic Council)، في واشنطن العاصمة: “أصبح بإمكاننا الآن تقديم الخدمات على مدار الساعة لعامة الشعب”. أضاف مو قائلاً إن العملة إي سي إن واي ستوسّع إمكانية الوصول إلى نظام بنك الصين الشعبي للدفع الإلكتروني، وتُتيح له توسيع نطاقه كي يشمل المزيد من شركات القطاع الخاص، من بين العديد من الجهات الأخرى، بما في ذلك شركات التكنولوجيا المالية وشركات الاتصالات.

قال مو إن إي سي إن واي ستخدم غرضاً ضرورياً آخر، وهو تأمين الدعم الاحتياطي لتطبيقي الدفع الإلكتروني عبر الهواتف الخلوية الشهيرة، علي باي (Alipay) ووي تشات باي (WeChat Pay)، اللذان يهيمنان على العمليات التجارية اليومية للأفراد في قطاع التجزئة في الصين. يعتمد معظم الناس في الصين على هواتفهم الخلوية للدفع، ولا يستخدمون المال النقدي أو البطاقات الائتمانية. ولهذا، تحولت هذه المنصات التجارية إلى “بنية تحتية مالية فائقة الأهمية”، وفقاً لمو. إذا تعرضت هذه المنصات إلى أي مشكلة، “فسُيحدث هذا أثراً سلبياً للغاية على الاستقرار المالي للصين”، على حد تعبيره.

إضافة إلى هذا، ثمة نسبة من الصينيين تتراوح بين 10% إلى 20% الذين لا يملكون حسابات مالية، ولا يستطيعون استخدام النظام المالي التجاري، وفقاً لمو. وغالباً ما يتعرض زوار الصين من البلدان الأخرى أيضاً إلى صعوبات في الاشتراك بنظام الدفع الإلكتروني الذي تهيمن عليه التطبيقات الخلوية، حيث توقف الكثير من البائعين عن التعامل بالمال النقدي أو حتى البطاقات. ووفقاً لمو، يمكنهم بدلاً من هذا استخدام إي سي إن واي.

يمكن استخدام إي سي إن واي عبر تطبيقات المصارف التجارية، إلّا أنه يمكن استخدامها أيضاً عبر تطبيق يشرف عليه بنك الصين الشعبي. يمثّل التواصل المباشر بين بنك الصين الشعبي والعملاء الأفراد عبر تطبيقه خياراً فريداً من نوعه، لأن المصارف المركزية لا تتعامل عادة إلّا مع المصارف الأخرى.

اقرأ أيضاً: مبتكر تشات جي بي تي يطلق عملة وورلد كوين لإنشاء هوية عالمية وشبكة مالية يملكها الجميع

“حجب الهوية المنظم”

تتصدر الصين توجهاً عالمياً يكتسب المزيد من الزخم على نحو متواصل لتبني العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية. ويبلغ عدد البلدان التي تدرس التصاميم المحتملة لهذه العملات حول العالم أكثر من 100 بلد، وتواجه جميعاً صعوبة في الإجابة عن سؤال جوهري، وهو الاختيار بين إشراف المصرف المركزي على إدارة هذه العملة إلى درجة ما، والسماح بإخضاعها لإدارة مؤسسات وسيطة من القطاع الخاص. على سبيل المثال، تفرض المصارف التقليدية على المستخدمين إثبات هوياتهم لمنع تبييض الأموال وغير ذلك من الجرائم المالية. غير أن معظم المصارف المركزية لا ترغب في تطبيق هذا الإجراء الإداري على الملايين من الأشخاص، وفقاً للمديرة المساعدة المختصة بأبحاث العملات الرقمية في مؤسسة المجلس الأطلسي، أنانيا كومار.

لكن رغبة بنك الصين الشعبي في تطبيق هذا الإجراء بالذات تفسّر معارضة بعض الناشطين من مناصري الحريات المدنية فكرة العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي. يشهد استخدام المال النقدي في المعاملات المالية للأفراد تراجعاً متواصلاً في أنحاء العالم كافة، وإذا توقف استخدام المال النقدي، فسوف تستخدم الحكومات العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية أدوات للمراقبة والسيطرة، وفقاً للرئيس التنفيذي للشؤون الاستراتيجية في مؤسسة حقوق الإنسان، أليكس غلادستاين.

يقول غلادستاين: “تسعى الحكومة الصينية إلى تعزيز سيطرتها على المدفوعات”. ويُضيف قائلاً إنه وعلى الرغم من أن الحكومة تسيطر بإحكام على الشركتين التجاريتين العملاقتين في مجال أنظمة الدفع الإلكتروني، فإن السيطرة والإشراف المباشرين على العملة الرقمية سيؤمّنان لها بيانات أفضل بكثير، إضافة إلى صلاحية حرمان أي شخص من استخدامها.

اقرأ أيضاً: لماذا يرفض مطورو شبكة بيتكوين اعتماد آلية إثبات الحصة؟

من ناحيةٍ أخرى، يقول بنك الصين الشعبي إن سي إن واي ستؤمّن حماية الخصوصية للناس بفضل سياسة يُطلق عليها اسم “حجب الهوية المنظم”. باختصار، سيكون من الممكن الحصول على حساب إي سي إن واي باستخدام رقم خلوي وحسب. وستكون الأرصدة في هذه الحسابات محدودة. قال مو في حديثه في السنة الماضية، إن الحد الأعلى لهذه الأرصدة يعادل 10,000 يوان (قرابة 1,400 دولار عند كتابة هذا المقال)، وإن مستخدمي هذه المَحافظ البرمجية سيكونون قادرين على إنفاق ما يصل إلى 2,000 يوان في العملية الواحدة وما يصل إلى 5,000 يوان في اليوم الواحد.

نفى مو فكرة قدرة الحكومة على تحديد الهويات الحقيقية للمستخدمين اعتماداً على رقم الهاتف الخلوي. وقال إن قانون حماية المعلومات الشخصية الصيني الجديد سيمنع شركات الاتصالات من تشارك المعلومات التي تُتيح تحديد هوية المستخدمين مع المصرف المركزي أو غيره من الجهات المشرفة على إي سي إن واي.

من الميزات المتطورة للغاية لإي سي إن واي على وجه الخصوص إمكانية تحويل الأموال بين شخصين باستخدام جهازين غير متصلين بالإنترنت. عرض مو خلال حديثه في لقاء للمجلس الأطلسي مقطع فيديو لأشخاص يستخدمون طريقة الدفع بدون الإنترنت هذه باستخدام الهواتف الذكية وبطاقات بلاستيكية مزودة بشاشات تعمل بتقنية الحبر إلكتروني.

اقرأ أيضاً: كيف أحدثت تكنولوجيا البلوك تشين ثورة في حياتنا؟

البحث عن مكان

ولكن، ما الذي سيدفع الناس إلى تبني إي سي إن واي؟ يبدو أن الحكومة ما زالت تحاول الإجابة عن هذا السؤال. لقد كان بنك الصين الشعبي يختبر هذه العملة على مدى ثلاث سنوات تقريباً، ويجري التجارب على نطاقٍ واسع من الاستخدامات المحتملة.

وقد وثّقت كومار مع زملائها 30 تطبيقاً تجريبياً مختلفاً، وتتراوح هذه التطبيقات بين القروض المصرفية والبطاقات التي تجمع مَحافظ إي سي إن واي مع وظائف أخرى. وتتضمن الأمثلة “بطاقة رعاية كبار السن” التي تدمج معلومات الرعاية الصحية وبيانات الموقع الجغرافي مع نظام خدمات الطوارئ، و”بطاقة الطالب الذكية”، وبطاقة تمنح جوائز مقدرة بالإي سي إن واي لقاء استخدام وسائل النقل التي تُطلق انبعاثات كربونية منخفضة. أيضاً، ثمة عدة برامج تجريبية تركّز على التجارة الإلكترونية في المناطق الريفية. وفي أبريل/ نيسان، قالت مدينة تشانغشو التي يبلغ عدد سكانها 1.5 مليون نسمة، إنها ستبدأ بدفع رواتب الموظفين الحكوميين بالإي سي إن واي.

يقول أستاذ العلوم المالية في كلية الدراسات العليا لإدارة الأعمال في جامعة ستانفورد، داريل دافي: “تتضمن هذه التجارب اختبار إمكانية استخدام إي سي إن واي في جميع أركان نظام الدفع الإلكتروني وميزاته”.

غير أن انتشار هذه العملة ما زال محدوداً للغاية؛ فعلى الرغم من اختبار النظام في 25 مدينة، ووجود 260 مليون محفظة مختلفة تحتوي على مبلغ إجمالي بقيمة 13.61 مليار رينمينبي (1.9 مليار دولار)، لم تتجاوز نسبة المبالغ من العملة الرقمية إي سي إن واي في احتياطيات المصرف المركزي والأموال النقدية المتداولة 0.13% في العام الماضي. يقول دافي: “هذه نسبة صغيرة للغاية بعد برنامج تجريبي دام سنتين”. ويقول إن السبب الوحيد الذي يدعو إلى تسميته حتى الآن بالبرنامج التجريبي هو عدم انطلاقه بعد.

اقرأ أيضاً: ما أبرز التطبيقات العملية لتكنولوجيا البلوك تشين وكيف ستغيّر حياتنا؟

قال المسؤولون إنه لا يوجد موعد محدد لإطلاق العملة إي سي إن واي رسمياً، وإن المصرف يركّز على تحسين تجربة المستخدم واختبار الشبكة من حيث الأمان والاستقرار بدلاً من التركيز على توسيع انتشار الاستخدام. غير أن بعض المراقبين يعتقدون أن الحكومة استخفت بصعوبة بناء شبكة دفع إلكتروني للأفراد من الصفر.

يقول أحد كبار الباحثين في معهد بيترسون للاقتصاد، مارتن تشورزيمبا، وهو مؤسسة بحثية في واشنطن العاصمة: “تبين للمسؤولين عن المشروع أن تحقيق الكثير من أفكارهم الطموحة أصعب مما كانوا يعتقدون، وأن الجدول الزمني لإنجاز المشروع أطول من المُتَوَقع”. ويقول إن أصعب المهام، على وجه الخصوص، كانت دفع ما يكفي من التجار إلى الاشتراك في بناء “بيئة عمل متكاملة” غنية بما يكفي لجعل إي سي إن واي يضاهي طرق الدفع الإلكتروني المعتمدة من حيث الفائدة.

يقول تشورزيمبا، الذي ألّف كتاباً حول نظام الدفع الإلكتروني في الصين: “يجب أن تكون إي سي إن واي قادرة على مجاراة “على باي” ووي تشات باي من حيث الفائدة حتى تتمكن من امتلاك قاعدة جيدة من المستخدمين، ولكن لا توجد حالة استخدام جيدة حالياً. ويُضيف قائلاً: “عادة ما يحصل المستخدمون على مغلف أحمر، وينفقون محتوياته، ولا يعاود أغلبهم فتح تطبيق إي سي إن واي مرة أخرى”، مشيراً إلى الأيقونة الإلكترونية التي تستخدمها الحكومة عند توزيع الأموال الرقمية على المشتركين بالمشروع التجريبي. يتوقع تشورزيمبا أن التحديات التي واجهها بنك الصين الشعبي في زيادة زخم إي سي إن واي داخل الصين قد تكون أحد العوامل المساهمة في زيادة تركيزه على الاستخدامات الدولية. وهو ما أدّى إلى وضع إي سي إن واي في مواجهة تصادمية مع الدولار الأميركي.

اقرأ أيضاً: هل يمكن لشركات تدقيق العقود الذكية حماية أنظمة العملات المشفرة من الأخطاء البرمجية؟

إي سي إن واي ضد الدولار الأميركي

تواجه الحكومة الكثير من الصعوبات في العثور على تطبيقات جذابة داخل الصين، ولكن من المحتمل أنها وجدت تطبيقاً في مكان آخر، في شكل نظام عابر للحدود للمدفوعات الكبيرة بين المصارف. فنظام الدفع العالمي، الذي يتألف من شبكة تُسمّى المصارف المُراسلة (correspondent banks)، يتسم بالتثاقل والبطء في بعض الأحيان. ويمكن للعملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية أن تكون أكثر سرعة وفاعلية.

وبالنسبة للصين، ثمة فائدة جيوسياسية محتملة، فقد يكون هذا النظام خياراً بديلاً يُتيح تأسيس مسارات لإنجاز عمليات دفع دولية لا تسيطر عليها الولايات المتحدة.

بما أن الدولار هو أهم عملة احتياطية في العالم، فعادة ما تحتاج الدولة الراغبة في التعامل التجاري مع الدول الأخرى إلى الدولار. وهذا يعني أن الولايات المتحدة تستطيع طرد أي خصم من النظام المالي العالمي من الناحية العملية. على سبيل المثال، عندما غزت روسيا أوكرانيا في أوائل عام 2022، فرضت الولايات المتحدة، بمساعدة حلفائها، عقوبات على أكبر مصارف روسيا، حيث استهدفت أصولها وحظرت عليها استخدام البنية التحتية المالية التي تتحكم فيها الولايات المتحدة، ما أعاق قدرتها على زيادة رأس المال.

يمكن تقويض هذه الأفضلية الجيوسياسية إذا أصبحت عدة عملات، مثل اليوان الصيني، أكثر انتشاراً في التجارة العالمية، وهي عملية يمكن للإي سي إن واي أن تسرعها. من هنا يستمد أحد برامج إي سي إن واي التجريبية، وهو مشروع إم بريدج (mBridge)، أهميته، وفقاً لتشورزيمبا.

اقرأ أيضاً: قصة انهيار إمبراطورية FTX وتبخر مليارات الدولارات من العملات المشفرة

يمثّل المشروع اختباراً لبنية تحتية تخصُّ نظام عملة رقمية صادرة عن المصرف المركزي “لتوفير الخدمات المصرفية للمؤسسات والشركات” بقيادة الصين، حيث سيُستَخدم لنقل الأموال عبر الحدود بين المصارف بكميات ضخمة، وفقاً لتشورزيمبا. ويقول: “هنا يظهر احتمال حقيقي لمنافسة الدولار الأميركي”.

حالياً، تنفذ المصارف هذه المعاملات باستخدام ما يُسمّى نظام الخدمات المصرفية عبر المصارف المراسلة. ويُعَرّف المصرف المراسل بأنه جهة خارجية تعمل وسيطاً بين المصارف المحلية في بلدان مختلفة، إلّا أنه وفقاً لبنك التسويات الدولية، فإن هذا النظام “لم يتمكن من مجاراة النمو السريع في التكامل الاقتصادي الدولي” على مدى العقود الأخيرة. فالمصارف المراسلة تكرر العمليات والخطوات، ما يجعل عمليات الدفع العابرة للحدود مكلفة وبطيئة ومعقدة من الناحية التشغيلية، إضافة إلى “الوصول المحدود والشفافية الضعيفة”، وفقاً لبنك التسويات الدولية. يعتقد الباحثون في بنك التسويات الدولية أن النظام الذي يعتمد على العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية يمكن أن يجعل هذا النظام أكثر فاعلية وأقل تكلفة.

وهذا جزء من السبب الذي دعا بنك التسويات الدولية إلى العمل مع بنك الصين الشعبي -إضافة إلى المصارف المركزية لكل من هونغ كونغ والإمارات العربية المتحدة وتايلاندا- على مشروع إم بريدج. على مدى ستة أسابيع في شهري أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول الماضيين، استخدم أكثر من 20 مصرفاً تجارياً نظام بلوك تشين خاصاً لتسوية 22 مليون دولار من المعاملات العابرة للحدود باستخدام العملات الرقمية الصادرة عن مصارف مركزية.

اقرأ أيضاً: ما إيجابيات وسلبيات الدفع بالعملات المشفرة بدلاً من العملات التقليدية؟

وهذا ليس سوى “غيض من فيض”، كما تعترف كومار من المجلس الأطلسي. ولكنه أمر مهم على أي حال، لأنها المرة الأولى التي أجرت فيها عدة نطاقات قضائية عمليات تسوية باستخدام عملات رقمية صادرة عن مصارف مركزية، وتقول: “ليس أمراً ممكناً أو محتملاً وحسب، بل نُفِّذ فعلياً على أرض الواقع”. يحمل هذا الإنجاز أهمية كبرى أيضاً في سياق الحوار الدولي حول “التخلص من الدولرة” ونشر عدة عملات أخرى على مستوى العالم، وفقاً لكومار.

وبالنظر إلى نهج “تحويل الدولار إلى سلاح” من خلال العقوبات، تسعى الصين وغيرها من البلدان إلى تطوير أساليب جديدة لتسوية التعاملات التجارية، كما تقول كومار. على سبيل المثال، في أبريل/ نيسان، استخدمت بنغلاديش اليوان لسداد قرض حصلت عليه من جهات إقراض روسية، باستخدام نظام الدفع بين المصارف الذي طوّرته الصين، والذي يُسمّى نظام الدفع العابر للحدود بين المصارف، أو اختصاراً: سيبس (CIPS). تقول كومار: “يُعزى هذا الإجراء جزئياً إلى سببين، وهما انخفاض احتياطي الدولار لدى بنغلاديش، ورغبتها في التعامل التجاري مع روسيا”. يُحظر على المصارف التي تشملها العقوبات استخدام نظام جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، أو اختصاراً: سويفت (SWIFT)، وهو المنصة التي تسهّل معظم معاملات الخدمات المصرفية للمؤسسات والشركات عبر الحدود.

إلّا أنه وفقاً لكومار، فإن إم بريدج يتجاوز كونه مشروعاً للعملة وحسب: “يتعلق الجزء الأهم في ذلك بانتشار التكنولوجيا على مستوى العالم واستخدام بلدان أخرى لها، بسبب وجود عوامل جيوسياسية تدفعها إلى هذا”. وقد وضعت كومار فرضية تقول إن نجاح الصين قد يؤدي إلى ظهور “مجموعة من المعايير الفنية والقانونية التي تعتمد على بنية إي سي إن واي”.

ليس من قبيل المصادفة أن البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بدأ الآن إجراء الأبحاث على أنظمة العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي للمعاملات الضخمة العابرة للحدود أيضاً. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، نشر بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك مجموعة من نتائج المرحلة الأولى ما أطلق عليه اسم مشروع سيدار (Project Cedar): “جهد بحثي متعدد المراحل لتطوير الإطار الفني لعملة رقمية نظرية صادرة عن المصرف المركزي لتوفير الخدمات المصرفية للمؤسسات والشركات”. وفي مايو/ أيار، نشر مجموعة من نتائج المرحلة الثانية، وهي عبارة عن عمل مشترك مع مصرف سنغافورة المركزي. ووفقاً للبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، بيّن المشروع أن تكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع (distributed ledger) يمكن أن تدعم إجراء “تحسينات على المدفوعات والتسويات المتعددة العملات”.

اقرأ أيضاً: ما ملامح المرحلة المقبلة في مجال العملات المشفرة؟

سيمر “وقت طويل للغاية” قبل ظهور احتمال تحوّل إي سي إن واي إلى مشكلة جيوسياسية للولايات المتحدة، وفقاً لدافي من كلية الدراسات العليا لإدارة الأعمال في جامعة ستانفورد، ولا يعود هذا إلى تعقيد هذه التكنولوجيا وحسب، بل أيضاً إلى التعقيد الشديد للمشاكل القانونية والإدارية للمدفوعات العابرة للحدود.

يتفق تشورزيمبا مع الفكرة التي تقول إن إي سي إن واي ستحتاج إلى وقتٍ طويل كي تتمكن من زعزعة هيمنة الدولار، إن افترضنا حدوث هذا الأمر أساساً. تراهن الصين على تبنّي الكثير من البلدان الأخرى أنظمة المصرف المركزي للدفع الإلكتروني القائمة على “العملات الرمزية”، على حد تعبيره، ولكن ليس من الواضح ما إذا كانت هذه التكنولوجيا توفر ميزات أخرى تتفوق بها على أنظمة الدفع التقليدية. ولكنه يقول: “لن أستبعد هذا”.