هل يمكن أن ينجح التعديل الجيني في علاج أكثر الأمراض فتكاً في العالم؟

6 دقائق
هل يمكن أن ينجح التعديل الجيني في علاج أكثر الأمراض فتكاً في العالم؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/ vchal
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تسبب أمراض القلب 16% من إجمالي حالات الوفيات على مستوى العالم كل عام، كما أنها تكلف الاقتصاد الأميركي ما يقرب من 219 مليار دولار سنوياً.

يعتبر ارتفاع مستويات الكوليسترول في مجرى الدم أحد العوامل الرئيسية المسببة لأمراض القلب، لهذا السبب يستخدم أكثر من 200 مليون شخص حول العالم أدوية الستاتين بانتظام، وهو الدواء الرائد لخفض مستويات الكوليسترول في الدم. وقد أثبتت هذه الأدوية فعاليتها، ولكنها تتطلب استخداماً منتظماً، فضلاً عن آثارها الجانبية المحتملة. لكننا اقتربنا من حل هذه المعضلة أكثر من أي وقتٍ مضى.

لطالما عرف العلماء أن PCSK9، وهو الجين الذي يرمز للبروتين، يؤدي دوراً رئيسياً في تنظيم مستويات الكوليسترول في مجرى الدم. 

في أوائل أغسطس/ آب 2022، بدأت تجربة علاج كريسبر الثوري الجديد والذي يمكنه إيقاف عمل جين PCSK9، وهو أولى التجارب البشرية لمثل هذا العلاج.

اقرأ أيضاً: كيف تغيّر التكنولوجيا الحديثة مستقبل الرعاية الصحية الرقمية؟

سنشرح في هذه المقالة كيف يمكن أن يؤثر هذا العلاج الجديد على صحة الإنسان وإطالة عمره، ونبحث الإمكانات الأوسع لنهج تعديل الجين الجديد هذا لدى البشر.

تأثير جين PCSK9 على صحة القلب

تأكّد تأثير جين PCSK9 على صحة القلب لأول مرة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، من خلال العمل الرائد للباحثين في مركز ساوث وسترن الطبي التابع لجامعة تكساس الذين اكتشفوا أن الأشخاص الذين لديهم طفرات في جين PCSK9 تمنع إنتاج البروتين، لديهم مستويات منخفضة من البروتين الدهني منخفض الكثافة (LDL) بشكل ملحوظ، والمعروف أيضاً باسم الكوليسترول “الضار”.

اتضح أن مستويات PCSK9 تؤثر بشكل كبير على مستويات الكوليسترول، فالبروتين يمنع إعادة تدوير مستقبلات LDL في الكبد، وهي المسؤولة عن تصفية الكوليسترول الضار من مجرى الدم. وبالتالي، تؤدي المستويات العالية من PCSK9 إلى انخفاض العدد الإجمالي للمستقبلات وارتفاع مستويات الكوليسترول.

كما أن لهذا البروتين المنفرد تأثيراً هائلاً، ففي دراسة لاحقة، اكتشف باحثو ساوث وسترن الطبي التابع لجامعة تكساس، أن الطفرات في جين PCSK9 كانت مسببة لانخفاض في مستويات مستقبلات LDL بنسبة تتراوح بين 15% إلى 28%، بالإضافة إلى انخفاض خطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة تتراوح بين 47% إلى 88%.

اقرأ أيضاً: تجميد الجثث بالتبريد: من أفلام الخيال العلمي إلى المختبرات الطبية

سببت هذه الدراسة بانطلاق سباق للعثور على أدوية يمكن أن تثبط عمل هذا البروتين المزعج. ومع ذلك، فقد ثبت أن هذا قد لا يكون ناجعاً تماماً نظراً لقلة مواقع الارتباط على سطح هذا البروتين والتي تمكن الجزئيات الصغيرة من أن تلتصق بها حتى تتمكن من تعطيل عمله.

كما يعتبر استخدام الأجسام المضادة أحادية النسيلة، أحد الأساليب العلاجية الواعدة، فبعد محاكاة المختبر للأجسام المضادة الطبيعية التي يمكن استهدافها لجزيء معين، تم التوصل إلى أن هناك نوعين من الأجسام المضادة أحادية النسيلة والتي تستهدف PCSK9، والمعتمدة من قِبل إدارة الغذاء والدواء (FDA)، وهما “أليروكوماب” (alirocumab) و”إيفولوكوماب” (evolocumab)، وأن كليهما يقللان من نسبة خطر إصابة المرضى بمشكلات القلب والأوعية الدموية إلى النصف.

ومع ذلك، فإن الأدوية التي تتضمن الأجسام المضادة أحادية النسيلة أغلى بكثير من الأدوية التي تخفّض الكوليسترول كون إنتاجها يتطلب إجراءات معقدة. وفي العام الأول في طرحها في السوق، تمكّن ثلث المرضى فقط من أخذها وذلك لأن شركات التأمين ترفض تغطية ثمنها أو تعتبرها متاحة فقط لاشتراكات التأمين عالية التكلفة.

تحرير كريسبر لجين PCSK9 كعلاج

ولكن ماذا لو قمنا بمحاولة إيقاف عمل جين PCSK9 بشكل مباشر وقمنا بقطعه بدلاً من إيقافه؟

إذا تمكنا من إدخال طفرات في جين PCSK9 مشابهة لتلك الموجودة في المرضى الذين أجرى عليهم باحثو ساوث وسترن الطبي التابع لجامعة تكساس تجاربهم، فمن الممكن جعلهم يقاومون أمراض القلب كما حدث مع مرضى ساوث ويسترن. 

اقرأ أيضاً: أداة جديدة يمكنها اكتشاف السكتة القلبية عن طريق الإصغاء إلى التنفس

ومع ذلك، فإن تحرير الجينات عند البشر هو عملية معقدة وخطيرة. فعلى الرغم من أن ظهور نظام كريسبر- كاس 9 قد أحدث ثورة في قدرتنا على تعديل الجينوم، فإن هناك مخاوف تحيط به تتعلق بالدقة والسلامة، ما حد من إمكانية تطبيقه في الطب.

وذلك لأن إنزيم كاس 9 القياسي يقطع خيطي الحمض النووي في الموقع المستهدف قبل قيام نظام الإصلاح الداخلي للخلية بربطهما احتياطياً. لا تجري هذه العملية بشكلٍ مثالي دائماً، فقد تؤدي إلى تعديلات غير مقصودة على الحمض النووي والتي لا تقلل فعاليته فحسب، بل قد تؤدي أيضاً إلى حدوث طفرات ضارة.

ومع ذلك، فإن النهج الناشئ المعروف باسم تحرير القاعدة يتغلب على هذه المشكلة باستخدام إنزيم كاس 9 المعدّل الذي يقطع فقط خيطاً واحداً من الحمض النووي. يتم تقسيم إنزيم كاس 9 هذا إلى إنزيم آخر يمكنه تحويل حرف الحمض النووي إلى آخر. وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب لا يمكنه سوى إجراء تعديلات على حرف واحد، فإنه يعتبر أسلوباً مبشراً بالنسبة للتطبيقات الطبية.

اقرأ أيضاً: جوجل تدعم محاولة لاستخدام تقنية كريسبر للوقاية من أمراض القلب

وبالصدفة، اتضح أنه يمكن إيقاف الجين المسؤول عن أكبر مرض قاتل في العالم، عن طريق تعديل بسيط من حرف واحد، وهو ما يشكل إشكالاً كبيراً لأن الأمراض التي تسببها طفرات نقطية واحدة مثل هذه غير شائعة نسبياً، الأمر الذي دفع شركة تدعى “فيرف ثيرابيوتيكس” (Verve Therapeutics) إلى تصميم محرر أساسي يقوم بتعطيل حرف واحد في امتداد ترميز الحمض النووي لـ PCSK9، ما يؤدي بشكل أساسي إلى تعطيل الجين، كما أن هذه الشركة قد صرحت في العام الماضي لمجلة نيتشر، بأنها عندما حقنت العلاج في كبد القرود، قلل من مستويات البروتين الدهني منخفض الكثافة لديها بنسبة 60%.

الاختبارات الأولى على البشر

وبعد هذه النتائج الواعدة، انتقلت الشركة الآن إلى مرحلة التجارب السريرية، ففي وقت سابق من الشهر الماضي، تطوع شخصٌ من نيوزيلندا ليكون أول شخص يخضع للعلاج. بدايةً، سيتم إعطاء العلاج لـ 40 شخصاً يعانون من حالة مرضية وراثية تسمى فرط كوليسترول الدم العائلي الذي يؤدي إلى مستويات عالية للغاية من الكوليسترول الضار LDL.

سبب التركيز على هذه المجموعة هو أنها أكثر عرضةً لخطر الإصابة بأمراض القلب الخطيرة، لذلك يجب أن تفوق فوائد العلاج أي مخاطر محتملة. أما الأمل الحقيقي فيكمن في إمكانية طرح هذا العلاج في النهاية باعتباره النهج القياسي لعلاج أمراض القلب.

قال سيكار كاثيريسان الرئيس التنفيذي لشركة فيرف  لإم آي تي تكنولوجي ريفيو: “إذا نجح هذا العلاج وتبين أنه آمنٌ، فسيكون حلاً للنوبة القلبية، وسيكون هو العلاج الناجع”. سيتطلب العلاج الكثير من العمل على عكس الستاتين أو الأجسام المضادة وحيدة النسيلة، يجب أن يكون هذا العلاج من الناحية النظرية علاجاً لمرةٍ واحدة لأنه سيحدث تغييرات دائمة في خلايا الكبد تمنعها من إنتاج PCSK9، كما أن هذه التعديلات يجب أن تنتقل إلى الجيل التالي من الخلايا، لأنها تشكلت من الخلايا القديمة المنقسمة، ما يعني أنه حتى لو كان العلاج مكلفاً، فإن تكلفته على مدار الحياة أقل بكثير من نظائره.

اقرأ أيضاً: ما حقيقة الشرائح الإلكترونية التي تُزرع في الدماغ؟

يتم إيصال مكونات التعديل الأساسي أيضاً إلى خلايا الكبد في جسيمات نانوية دهنية، وهي نفس التقنية المستخدمة في لقاحات الرنا المرسال في وباء كوفيد-19، فبفضل الوباء، تم بالفعل توسيع نطاق المرافق اللازمة لتصنيع هذا النوع من العلاج، ما سيساعد على خفض أسعاره بشكل أكبر.

من المهم أن تتذكر أن ابتكار هذا العلاج لا يزال في مراحله الأولى، وحتى إذا نجح العلاج في هذه التجارب المبكرة، فمن المحتمل أن تستغرق الشركة سنوات عديدة حتى تتمكن من تجميع بيانات أمان كافية لإقناع المنظمين بالموافقة عليه كعلاج فعّال لارتفاع نسبة الكوليسترول في الدم.

ولكن إذا تبين أن هذا العلاج هو حل دائم للمرض القاتل الأكبر في العالم، فسيكون أحد أكثر الابتكارات التحويلية التي تحسّن صحة الإنسان وتسهم في إطالةعمره، والتي رأيناها منذ عقود.

الأفكار النهائية والوعد المستقبلي

بالإضافة إلى إمكانية علاج أمراض القلب، تعد هذه الأخبار أيضاً علامة فارقة في التطبيق السريري للهندسة الوراثية.

إن تقنية التعديل الأساسية الحالية قادرة على معالجة نحو 60% من الطفرات أحادية النقطية المعروفة بأنها تسبب المرض، كما يخضع هذا المجال لابتكار مهم يمكن أن يوسع نطاق الأمراض التي يمكن أن تعالجها هذه العلاجات.

شركة أخرى تسمى “بيم ثيرابيوتيكس” (Beam Therapeutics) على وشك بدء التجارب البشرية لتعديل أساسي مصمم لعلاج مرض فقر الدم المنجلي الوراثي، لكنها تعمل أيضاً على العلاجات التي تستخدم المحررين الأساسيين لإجراء تغييرات متعددة على حرف واحد لعلاج الأمراض الأكثر تعقيداً.

كما تقوم شركات مثل “ويف لايف ساينس” (Wave Life Sciences) بتجربة تعديل الحمض النووي الريبوزي بدلاً من الحمض النووي، ما يجعل من الممكن إجراء تغييرات مؤقتة على كيفية عمل الجينات بدلاً من التعديلات الدائمة على الجينوم.

اقرأ أيضاً: تجربة ناجحة لتقنية كريسبر في علاج الثلاسيميا بيتا وفقر الدم المنجلي

أما الأمر الأكثر أهمية، فهو أن الباحث الذي طوّر التحرير الأساسي للجينات، وهو ديفيد ليو من معهد برود التابع “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)” وجامعة هارفارد، قد واصل الابتكار. ففي عام 2019 وبحسب مجلة Nature، حدد هذا الباحث مع زملائه نهجاً جديداً يزيد من نطاق التعديلات المحتملة بشكل كبير، وهو ما يسمى التحرير الأولي.

إن تقنية التحرير الأولي هذه تشبه تحرير القاعدة، من حيث إنها تقطع خيطاً واحداً من الحمض النووي فقط، كما يمكنها استبدال الامتدادات الكاملة بتسلسلات جينية جديدة، بالإضافة إلى إجرائها تعديلات على الحروف الفردية. 

يتوقع الفريق مبدئياً أن يكون قادراً على تصحيح ما يصل إلى 89% من الطفرات المرتبطة بالأمراض لدى البشر.

نظراً لوتيرة الابتكار في هذا المجال، ربما سيكون هناك المزيد من الابتكارات في الهندسة الوراثية أيضاً.

اقرأ أيضاً: اختبار جيني للعاب يهدف إلى تمكين الأزواج من معرفة خطر توريثهم للأمراض الشائعة

في الواقع، تشير جميع الأدلة إلى أن الأمراض الوراثية ستصبح قابلة للشفاء تماماً في المستقبل القريب.