لماذا قد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تفاقم التفاوت الاقتصادي بين الدول؟

5 دقيقة
مصدر الصورة: إزرائيل فارغاس

ملخص: ما زال استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات الاقتصادية جديداً، وما زالت نتائج هذا الاستخدام بالنسبة إلى المجتمع والأفراد، على اختلاف الشرائح التي ينتمون إليها، غامضة وغير مؤكدة. فمن ناحية، يشير بعض العوامل إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى طفرة في الإنتاجية، ومن ناحية أخرى، لا يوجد ما يضمن أن تكون هذه المكاسب موزعة بالتساوي على الجميع. ويعود السبب في ذلك إلى أسباب ديموغرافية، مثلاً في البلدان التي تطور الذكاء الاصطناعي ترتفع نسبة المسنين، ما يجعلها تركز على استخدام الذكاء الاصطناعي لتقليل تكاليف العمالة. يقابل ذلك إهمال مجموعة من المشكلات التي يمكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي في حلها، ومنها التغير المناخي والرعاية الصحية.

يتوقع الباحثون البارزون في مجال الذكاء الاصطناعي أن الجهود الرامية إلى ابتكار الذكاء الاصطناعي العام قد تتكلل بالنجاح خلال السنوات القليلة المقبلة وربما لن تتكلل بالنجاح يوماً. وفي الوقت نفسه، ثمة خلاف بين كبار الاقتصاديين حول الآثار المحتملة للذكاء الاصطناعي: فالبعض يتطلع إلى مستقبل يتسم بتسارع الإنتاجية بصورة مستمرة، على حين ثمة آخرون يتوقعون مكاسب أكثر تواضعاً. لكن معظم الخبراء يتفقون على أن التقدم التكنولوجي، مهما كان نشطاً ومزدهراً، لا يضمن تحقيق المكاسب للجميع.

اقرأ أيضأً: هل يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي كشف الاحتيال المالي؟

المكاسب لن تتساوى بين الجميع!

ولسوء الحظ، على الرغم من أن ضمان المكاسب للجميع يمثل الهدف الرئيسي أو المبدأ التوجيهي لبعض أبرز مشاريع البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي، وفقاً لما تعلنه المؤسسات المسؤولة عن هذه المشاريع، فإن ضمان إسهام الذكاء الاصطناعي في بناء مستقبل أكثر شمولية يظل أحد أضعف المجالات استثماراً في حوكمة الذكاء الاصطناعي. قد يبدو هذا طبيعياً بالنظر إلى الوضع الحالي لهذا الحقل: ما يزال التأثير الذي سيحدثه الذكاء الاصطناعي على صعيدي العمالة والتفاوت غير مؤكد إلى حد بعيد، ما يجعل تصميم الإجراءات الضرورية للتدخل أمراً صعباً للغاية. لكننا نعرف على الأقل بعض العوامل التي ستؤثر في العلاقة المتبادلة بين الذكاء الاصطناعي والتفاوت خلال العقود القليلة المقبلة. وإذا منحنا هذه العوامل ما تستحقه من الاهتمام، فقد يسهم هذا في جعل فكرة وصول مكاسب الذكاء الاصطناعي إلى الجميع أكثر من مجرد حلم بعيد المنال.

بما أن تطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه يعتمدان إلى حد بعيد على القطاع الخاص، فهما معرضان بشدة لتأثيرات هياكل الحوافز التي تتضمنها الاقتصادات العالمية. وإذا كان هناك من شيء مهم يتعلق بهذه الاقتصادات ويمكن أن نتنبأ به، وبدرجة معقولة من اليقين، فهو تركيبها الديموغرافي المستقبلي. ثمة فرق شاسع بين البلدان المرتفعة الدخل، التي تزداد نسبة كبار السن فيها بسرعة (البلدان المسنة)، والتي سيتقلص تعدادها السكاني دون تدفق المهاجرين إليها، والبلدان المتوسطة الدخل والمنخفضة الدخل، التي ستواصل نموها السكاني طوال الفترة الباقية من هذا القرن، لأن معدل الولادات أعلى من معدل الوفيات فيها.

لماذا يجب أخذ المشاكل الديموغرافية في الحسبان عند تطوير الذكاء الاصطناعي؟

لكن ما علاقة هذا بالذكاء الاصطناعي؟ تتركز مشاريع تطوير الذكاء الاصطناعي في البلدان المسنة، ولهذا، فإنها ستتبع المسارات المرتبطة بوقائع تلك البلدان واحتياجاتها وعوامل التحفيز فيها. تشهد البلدان المسنة انهياراً تدريجياً في نسبة تعداد الأشخاص الذين ما زالوا في سن مناسب للعمل إلى تعداد المتقاعدين، ما يزيد من صعوبة الحفاظ على أنظمة التقاعد واحتواء تكاليف الرعاية الصحية. إن البلدان التي تسعى إلى الحفاظ على مستوى معيشة متقاعديها وحيويتها الاقتصادية الإجمالية ستبحث عن وسائل لتوسيع قاعدة القوى العاملة الفعالة لديها، سواء من خلال تعزيزها بالبشر أو بالوكلاء الاصطناعيين (منظومات الوكيل الاصطناعي).

من الممكن تحقيق بعض المكاسب المحدودة (التي من المرجح أن تلقى اعتراضات حادة) من خلال رفع سن التقاعد. كما يمكن تحقيق مكاسب أكبر من خلال الهجرة. لكن الحفاظ على ثبات نسبة عدد الأشخاص الذين ما زالوا في سن العمل إلى عدد المتقاعدين سيتطلب زيادة كبيرة في الهجرة إلى البلدان الأعلى دخلاً. غير أن المشاعر المناهضة للهجرة المنتشرة على نطاق واسع قد تجعل اللجوء إلى هذا الأسلوب أمراً غير مرجح، على الرغم من أن الآراء قد تتغير بسرعة نسبياً عندما يجد الناس أنفسهم في مواجهة احتمال انخفاض معاشاتهم التقاعدية وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.

إذا لم تخفف البلدان الثرية سياساتها التقييدية المفرطة المتعلقة بالهجرة، فمن المرجح أن نشهد زيادة كبيرة للغاية في المحفزات الاقتصادية التي تدفع نحو تعويض النقص في العمالة باستخدام الذكاء الاصطناعي خلال العقود القليلة المقبلة. قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا لن يؤدي إلى تفاقم التفاوت إذا كان عدد الأشخاص المتاحين القادرين على العمل أقل من عدد الوظائف المتاحة. لكن إذا ارتبط هذا التوجه بتوزيع غير متكافئ للمكاسب والخسائر، وتراجع متزايد في استقرار العمالة، وتشديد المراقبة على العاملين، ورقمنة خبراتهم ومعرفتهم دون تعويض مناسب، فيجب أن نتوقع زيادة حادة في التفاوت.

اقرأ أيضاً: أداة ذكاء اصطناعي تتنبأ بموعد استقالة الموظفين

وحتى لو أدت جهود الاستعاضة عن العمالة بالذكاء الاصطناعي في البلدان الثرية إلى نتائج إيجابية للغاية بالنسبة إلى سكانها، فقد يؤدي هذا إلى تعميق التفاوت بين البلدان. ففي الفترة المتبقية من القرن 21، ستظل البلدان ذات الدخل المنخفض تعاني نمواً مستمراً في الشرائح السكانية الشابة التي لا يحتاج أفرادها إلى تكنولوجيات تحل محل العاملين البشر، بل إلى فرص عمل توفر مكاسب جيدة. تكمن المشكلة في أن الآلات التي جرى اختراعها لتعويض نقص العمالة في بعض البلدان تنتشر بسرعة حتى في البلدان التي تبلغ البطالة فيها معدلات مرتفعة نسبياً، ويعمل غالبية العاملين فيها في شركات غير رسمية وغير مُسجَّلة. ولهذا نجد أكشاك الخدمة الذاتية في مطاعم جنوب إفريقيا ومطارات الهند، حيث تحل محل الوظائف الرسمية في هذه القطاعات في هذين البلدين وبلدان أخرى كثيرة تكافح من أجل خلق ما يكفي من هذه الوظائف.

خفض تكاليف العمالة مقابل جملة من المشاكل

في عالم كهذا، قد يبقى الكثير من التطبيقات المفيدة للذكاء الاصطناعي متخلفاً نسبياً مقارنة بالتطبيقات التي يقتصر أثرها على استبدال العمالة البشرية وتوفير تكاليفها وأعبائها. على سبيل المثال، فإن الجهود الرامية إلى تطوير الذكاء الاصطناعي من أجل التكيف مع آثار التغير المناخي، أو التنبؤ المبكر بالكوارث الطبيعية، أو التدريس المخصص بأسعار معقولة، قد تتراجع لصالح التركيز على المشاريع الرامية إلى خفض تكاليف العمالة في مجال التجارة بالتجزئة، ومجال الضيافة (المطاعم والفنادق والمنتجعات وما شابه)، والنقل. سنحتاج إلى مشاريع موَجَّهة وواسعة النطاق تطلقها الحكومات ومصارف التنمية والمؤسسات الخيرية لضمان استخدام الذكاء الاصطناعي للمساعدة على تلبية احتياجات البلدان الأقل ثراء، لا البلدان الثرية وحسب. إن الميزانيات الحالية المخصصة لهذه المشاريع صغيرة للغاية، ما أدى إلى ترك الذكاء الاصطناعي يتطور وفق مساره الافتراضي دون توجيه، الذي هو أبعد ما يكون عن الشمولية وتحقيق مصالح الجميع.

اقرأ أيضاً: أصبحت متاحة عبر الإنترنت: قاعدة بيانات عامة جديدة تتضمن الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها الذكاء الاصطناعي

لكن هذا المسار ليس قدراً لا مفر منه. فمن الممكن أن نختار توجيه المزيد من مشاريع البحث والتطوير العامة نحو معالجة التحديات العالمية الملحّة، مثل تسريع التحول الأخضر (الانتقال إلى الطاقة النظيفة)، وتحسين النتائج التعليمية. ومن الممكن أن نستثمر المزيد من الأموال في إنشاء مراكز تطوير الذكاء الاصطناعي ودعمها في البلدان الأقل دخلاً. إن خيارات السياسات التي تسمح بتعزيز المرونة في توزيع العمالة قد تساعد على زيادة التوازن في توزيع الأشخاص الذين ما زالوا في سن العمل بين البلدان، وتخفيف الضغوط الاقتصادية التي قد تدفع بالذكاء الاصطناعي التجاري إلى الحلول محل البشر في وظائفهم. إذا لم نتخذ أياً من هذه الإجراءات، فستستمر الحوافز المشوهة التي لا تتوخى عوامل التوازن في تحديد ملامح هذه التكنولوجيا ذات القدرات الهائلة، ما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة لن تبقى محصورة بالبلدان المنخفضة الدخل، بل ستمتد حتى تصل إلى الجميع.