منظومة المراقبة الخاصة في جنوب إفريقيا تعزز نظام فصل عنصري رقمي

7 دقائق
منظومة المراقبة الخاصة في جنوب إفريقيا تعزز نظام فصل عنصري رقمي
حقوق الصورة: مفهوم المراقبة/ إيدل رودريغز.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هذا المقال مترجم بتصرف.

لم تكن الكاميرات قد رُكبت بعد. ولكن كابلات الألياف الضوئية كانت قد أصبحت في مكانها.

أشار ثامي نكوسي إلى الصندوق الأسود الذي تم تركيبه على عمود توصيلات الخدمات، والذي يكشف عما يحدث في هذا الشارع الذي كان موطناً فيما مضى لفائزين بجائزة نوبل للسلام: أول رئيس أسمر البشرة لجنوب إفريقيا، نيلسون مانديلا، والعالم اللاهوتي والناشط المناهض للفصل العنصري ديسموند توتو.

وقال نكوسي إن الأمر يحدث دائماً بنفس الطريقة، حيث تظهر الألياف الضوئية أولاً، متبوعة بكاميرات المراقبة. ولا فائدة تُرجى من الكاميرات ما لم تكن هناك شبكة اتصال موثوقة لإرسال إشارات الفيديو إلى غرفة التحكم، حيث يمكن مراقبتها من قبل البشر والخوارزميات.

نظام مراقبة جديد يدعم فصلاً عنصريّاً رقميّاً

هذا شارع فيلاكازي في سويتو، وهي من الضواحي التاريخية لمدينة جوهانسبورغ، والتي تحولت إلى مدينة عملاقة مترامية الأطراف تشهد ولادة نظام مراقبة جديد وخاص بجنوب إفريقيا، ويحمل تأثيرات صناعة المراقبة العالمية، ويوشك على التأثير فيها في نفس الوقت. يقول ناشطو الحقوق المدنية إن هذا النظام بدأ منذ الآن بدعم نظام فصل عنصري رقمي، وبدأ بزعزعة الحريات الديمقراطية للناس.

نظام مراقبة جديد يدعم فصلاً عنصريّاً رقميّاً
حقوق الصورة: مادلين كرونجي.

لم يكن هذا ممكناً منذ خمس سنوات، إذ لم تكن البنى التحتية للمدينة أو الإمكانات الموجودة فيها لتحليل الفيديو قادرة على دعم إرسال الصور ومعالجتها على النطاق المطلوب. ولكن، وبعد تحسن التغطية بالألياف الضوئية، وتطور قدرات الذكاء الاصطناعي، رأت الشركات في الخارج أن الفرصة أصبحت سانحة، فبدأت بوضع أحدث ما لديها من تكنولوجيات المراقبة في البلاد. وتحت ضغط تفاقم الجرائم في البيئة المحلية، وجدت صناعة الأمن المحلية ملاذاً في مجموعة الخيارات التي قدمتها لها تلك الشركات.

وهكذا، وبسرعة عالية، تم تأسيس عملية مراقبة شاملة ومركزية ومنسقة ومخصخصة بالكامل. وقد قامت شركة “فوماكام” (Vumacam)، وهي الشركة التي تبني شبكة المراقبة على مستوى البلاد، بتركيب أكثر من 6,600 كاميرا، وما زال العد مستمراً، بما في ذلك 5,000 كاميرا تتركز جميعها في منطقة العاصمة. تتصل هذه الكاميرات بغرف مراقبة في جميع أنحاء البلاد، حيث يتم استخدام جميع أنواع أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل أنظمة التعرف على لوحات السيارات، لتتبع الأفراد ومراقبة السكان.

اقرأ أيضاً: توزع كاميرات المراقبة في مدينة أميركية يثير مخاوف الخصوصية والتمييز

استعمار جديد: بالذكاء الاصطناعي هذه المرة

وعلى مدى السنوات، ظهرت مجموعة متزايدة من الخبراء الذين يقولون إن تأثيرات الذكاء الاصطناعي تكرر أنماط التاريخ الاستعماري. فهنا في جنوب إفريقيا، والتي تعج بشواهد الإرث الاستعماري، يمثل التطبيق المتفلت للمراقبة باستخدام الذكاء الاصطناعي حالة دراسة للتكنولوجيا التي تسحب المجتمعات إلى الماضي بدلاً من الوفاء بوعدها بإرسال المجتمعات إلى المستقبل. 

استعمار جديد: بالذكاء الاصطناعي هذه المرة
منصة بروف 360 لشركة فوماكام تعتمد على نظام التعرف على لوحات السيارات لكشف السيارات المطلوبة. حقوق الصورة: فوماكام.

اقرأ أيضًا: بماذا تشبه صناعة الذكاء الاصطناعي الاستعمار القديم؟

يرغب روب نيكول بأن نرى غرفة المراقبة أولاً. وبعد عبور مساحة مشتركة للمكاتب، فتح الرئيس التنفيذي لشركة الأمن بالذكاء الصناعي “أيه آي سورفيلانس” (AI Surveillance) باب غرفة ضخمة أشبه بالكهف مع جدران مغطاة بالشاشات.

وكانت الشاشات تعرض بث الفيديو من الكاميرات المنتشرة في المدينة، والتي تم تكليف الشركة بمراقبتها. وهي مستخدمة أيضاً بشكل أساسي للعرض. أما العمل الحقيقي فيجري في الأسفل على صفين من الحواسيب، حيث يعمل الموظفون على مراقبة منصة بروف 360 البرمجية لشركة فوماكام.

وبدلاً من عرض العشرات من إشارات بث الفيديو في نفس الوقت، تعتمد بروف 360 على الذكاء الاصطناعي وعمليات تحليلية أخرى لعرض إشارات بث الفيديو التي تحمل دلائل تستوجب التنبيه الأمني. وتتضمن هذه الأدوات أنظمة للتعرف على لوحات السيارات وتحديد النشاط “غير المعتاد”.

وقد قدمت شركة “آي سينتري” (iSentry) النظام الثاني، والذي صممته في المقام الأول للجيش الأسترالي. وتم تدريب البرنامج على نحو 100 ساعة من مقاطع الفيديو حتى تستطيع كل كاميرا تمييز السلوك “الطبيعي”، ووضع علامة على أي شيء يبدو لها خارجاً عن المألوف. ويمكن أيضاً ضبط عمل كل كاميرا بمجموعة من القواعد المحددة برمجياً. على سبيل المثال، يمكن برمجتها بحدود يجب ألا يتجاوزها أي شخص، أو مناطق يجب ألا تتوقف السيارات ضمنها.

على إحدى محطات المراقبة في الصف الأول، تظهر التنبيهات واحداً واحداً على شاشة مختص الأمن. ففي أحد هذه التنبيهات، تم وضع علامة على رجل بسبب الركض، وفي تنبيه آخر، تم وضع علامة على امرأة بسبب وقوفها في الردهة أثناء إرسال رسالة نصية، وفي تنبيه ثالث، تم وضع علامة على امرأة بسبب مشيها قرب سيارة على مسافة قريبة للغاية. قام المختص بتفحص كل حالة، وضغط على زر “استبعاد” على الجميع. وكان هناك مربع للتعليق، وزر يحمل اسم “تصعيد”.

وعند تصعيد أحد التنبيهات، يتم إرساله إلى الصف الثاني، حيث يقوم فريق اتصال بتنسيق الاستجابة بناء على نوع التنبيه وتعليمات العميل. ويعني هذا في بعض الأحيان توجيه رسالة نصية إلى أحد الحراس في المكان لطرد المتسكعين. وفي أحيان أخرى، يعني الاتصال بالشرطة لاعتقال شخص يُشتبه بأنه مجرم.

اقرأ أيضاً: هل يمكننا التنبؤ بالزمان والمكان الذي ستحدث فيه جريمة ما؟

تعاون بين الحكومة ومؤسسات تدير هذه التكنولوجيات لمراقبة الأفراد بالمحصلة

تعتمد فوماكام على نموذج الاشتراك، حيث يمكن للمؤسسات التي سجلت اشتراكها لدى المؤسسة المنظمة لصناعة الأمن الخاصة، إضافة إلى خدمة الشرطة في جنوب إفريقيا ودوائر الشرطة في المدن، استئجار الوصول إلى أي مجموعة من إشارات بث الكاميرات على منصة “بروف 360” (Proof 360). وفي 2019، كانت الشركة تتقاضى 730 راند جنوب إفريقي (نحو 50 دولار) شهرياً عن كل كاميرا. ولكنها رفضت الإفصاح عن أحدث أسعارها.

وحتى الآن، تتألف مجموعة المشتركين لدى فوماكام بشكل أساسي من شركات الأمن الخاصة، مثل أيه آي سورفيلانس، والتي تقوم بتزويد جميع المستلزمات، بدءاً من الحراس المسلحين وصولاً إلى المراقبة، لنطاق واسع من العملاء، بما في ذلك المدارس والشركات والأحياء السكنية. وكانت هذه هي الخطة على الدوام: فقد قام ريكي كروك، وهو الرئيس التنفيذي لفوماكام، بإطلاق أيه آي سورفيلانس مع نيكول قبل تأسيس فوماكام بفترة قصيرة، ومن ثم تنحى عن منصبه لتفادي الصدام مع عملاء فوماكام الآخرين.

تسيطر هذه الشركات الأمنية الخاصة على واجبات تُسند عادة إلى الشرطة، على الرغم من أنها لا تتمتع بنفس السلطات القانونية. وعلى حين يوجد في جنوب إفريقيا ما يربو على 1,100 مخفر شرطة بطواقم تزيد قليلاً على 180,000 شخصاً، يوجد 11,372 شركة أمنية مسجلة توظف 564,540 حارس حماية مسجل، أي ما يفوق تعداد الشرطة والجيش مجتمعين. 

تعاون بين الحكومة ومؤسسات تدير هذه التكنولوجيات لمراقبة الأفراد بالمحصلة
حقوق الصورة: مادلين كرونجي.

تكنولوجيات تكرس عدم المساواة

يمثل هذا الاختلال أثراً من آثار نظام الفصل العنصري. ففي أواخر السبعينيات، كان الحزب الوطني الحاكم يستخدم الشرطة لحماية مصالحه السياسية، والسيطرة على الاضطرابات المعارضة للحكومة، والمنتشرة في كل مكان. واحتلت هذه المهام الأولوية مقابل تراجع عمل الشرطة الفعلي، ما أدى إلى فتح المجال أمام المصالح الخاصة.

وشجعت السياسات الحكومية التجمعات السكانية والشرطة على التعاون مع هذه الوكالات الخاصة. ولكن هذا أدى إلى تطور قطاع الأمن بشكل اتخذ طابعاً عسكرياً أكثر وضوحاً مع مرور الوقت. وتكفي جولة واحدة في جوهانسبورغ لرؤية هذه الوحدات شبه العسكرية في كل مكان، والمؤلفة من رجال يرتدون الزي العسكري في سيارات عسكرية، مدججين بأسلحة كبيرة. وهم أكثر انتشاراً من رجال الشرطة الحقيقيين. ويكمن الفرق في أنهم لا يخدمون المصلحة العامة، بل يخدمون عملاءهم الذين يدفعون التكاليف.

اقرأ أيضاً: مشروع قانون أميركي جديد يحظر استخدام الشرطة لتكنولوجيا التعرف على الوجوه

تعمل فوماكام حالياً على بناء المزيد من التطبيقات على “بروف 360″، بما فيها نظام لكشف استنساخ لوحات السيارات. وعلى التوازي، تقوم بتوسيع بناها التحتية الفعلية على الأرض لتشمل باقي أنحاء البلاد. وفي وقت لاحق في هذه السنة، كما يقول كروك، ستنتقل الشركة إلى نموذج عمل جديد، حيث يدفع العملاء رسماً ثابتاً للوصول إلى كامل شبكة الكاميرات بدلاً من مجموعة مختارة وحسب. وستبقى الوكالات قادرة على فلترة التنبيهات إلى نطاق عملها، ولكنها ستتمكن أيضاً من استعراض صورة أي كاميرا في البلاد.

تكنولوجيات تكرس عدم المساواة
حراس الأمن الخاصون يراقبون شوارع جوهانسبورغ باستخدام شبكة فوماكام للمراقبة. حقوق الصورة: أيه آي سورفيلانس

ولكن العنصر الغائب عن الحوار هو سبب وجود الجرائم في المقام الأول. وقد بين باحثو المجتمعات الصناعية، مراراً وتكراراً، كيف يؤدي عدم المساواة إلى زيادة الجرائم. ولا تتسم دولة جنوب إفريقيا بأعلى نسبة من عدم المساواة في العالم وحسب، بل إن هذه الفجوة تحمل طابعاً عنصرياً عميقاً، يمثل جزءاً من إرث نظام الفصل العنصري. وتبين أحدث التقارير الحكومية أن نصف البلاد كان يعيش في حالة من الفقر في 2015، وكان 93% من هؤلاء من ذوي البشرة السمراء.

ولهذا، فإن الإمكانات الضرورية للدفع لقاء خدمات المراقبة موجودة في معظمها لدى أشخاص بيض البشرة، ما يجعل أغلبية ذوي البشرة السمراء عرضة للمراقبة دون أي رأي في المسألة.

وإضافة إلى كل هذا، فإن أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل أنظمة التعرف على الوجوه وأنظمة تحديد النشاط غير الطبيعي، لا تعمل بشكل جيد على الدوام، كما أن عواقب أخطائها غير موزعة على الجميع بصورة متجانسة. حيث يزداد احتمال ارتكاب برنامج التعرف على الوجوه للخطأ أثناء تحديد الهوية عند تسجيل الفيديو في الخارج، أو ضمن ظروف لا يمكن السيطرة عليها، كما أن المخاطرة أعظم بكثير بالنسبة لذوي البشرة السمراء. 

لقد أدت الكاميرات، وبوسائل عديدة، إلى ظهور مكافئ رقمي لسجلات العبور، أو جوازات السفر الداخلية، وهو نظام يعود إلى عصر نظام الفصل العنصري بهدف الحد من الحركة الفيزيائية لذوي البشرة السمراء ضمن مناطق ذوي البشرة البيضاء، كما يقول مايكل كويت، وهو زميل زائر في مدرسة جامعة يال للقانون، ويدرس صناعة المراقبة في جنوب إفريقيا. وقد كان حمل هذه السجلات مقتصراً على ذوي البشرة السمراء، على حين كان ذوو البشرة البيضاء قادرين على التحرك بحرية. وتقول كاثرين بيرمان، وهي ناطقة باسم فوماكام، إن هذه المزاعم “محاولة متعمدة لتضليل العامة ونشر المخاوف بدلاً من الأمل بنجاح التكنولوجيا في مكافحة الجريمة”.

اقرأ أيضاً: الولايات المتحدة تعاني من أزمة بسبب استخدام تكنولوجيا التعرف على الوجوه في العمل الشرطي

سوق سريعة النمو وميدان جيد للتجربة

تقوم نفس الشركات ببناء أنظمة مراقبة في كافة أنحاء العالم. وليست جنوب إفريقيا سوقاً سريعة النمو وحسب، بل هي أيضاً مكان مثالي لتحسين هذه التكنولوجيات. يقول كايل ديكس، وهو مهندس مبيعات في جوهانسبورغ لشركة “أكسيس كوميونيكيشنز” (Axis Communications)، إن أنظمة الذكاء الاصطناعي “التي تم تطويرها في أوروبا وأميركا وغيرها من الأماكن كانت تخضع للتجربة في جنوب إفريقيا في أغلب الأحيان”.

سوق سريعة النمو وميدان جيد للتجربة
حقوق الصورة: مادلين كرونجي.

ويشعر نكوسي بالقلق مما قد يحدث لاحقاً. فقد شهد اعتناق الحكومات لهذه التطورات بذريعة حماية العامة قبل أن تتوسع حتمياً نحو المراقبة الشاملة للناشطين والمدنيين، مع العديد من الجهات والمجموعات المستهدفة، مثل حركة “بلاك لايفز ماتر” (Black Lives Matter) في الولايات المتحدة وأقلية الأويغور في الصين.

ويقول: “في نهاية المطاف، ستتآمر الحكومة مع الشركات الخاصة، لأن الدول ليست قادرة على إدارة شبكات فائقة الضخامة والتعقيد من كاميرات المراقبة“. ويضيف: “هذا هو أكبر خطر بالنسبة لي”.  

وبالفعل، فقد بدأت جنوب إفريقيا ببناء قاعدة بيانات وطنية تعريفية تعتمد على القياسات الحيوية وتحمل اسم “أبيس” (ABIS) وتتضمن وجه كل شخص من السكان والزوار الأجانب. وبوجود تحديثات الكاميرات في شبكة فوماكام للمراقبة في جميع أنحاء البلاد، وتوسيع استخدام أنظمة التعرف على الوجوه، فقد تسمح أبيس بمراقبة تحركات كل شخص في كافة أنحاء البلاد.

اقرأ أيضاً: كيف غيّر الوباء أساليب المجرمين في تخبئة أموالهم؟ وكيف تحاول أدوات الذكاء الاصطناعي كشفها؟

تقول بيرمان: “لا نستطيع طبعاً التقليل من مستوى الخطر الذي يتعرض له الناشطون والصحفيون ورجال الأعمال الذين يتم تعقبهم بصورة غير شرعية من قبل أشخاص خطرين (وبنتائج قاتلة في بعض الأحيان)”. “ولكن، لا يمكن مراقبة الناس باستخدام تكنولوجياتنا أو أنظمتنا، والتي لم يتم تصميمها لمراقبة الأفراد”.