ما هي صوتنة البيانات؟ وكيف يمكن أن تساعد من يعانون صعوبات بصرية؟

14 دقيقة
ما هي صوتنة البيانات؟ وكيف يمكن أن تساعد من يعانون صعوبات بصرية؟
حقوق الصورة: ستيوارت برادفورد
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

وقفت سارة كين أمام شاشة كمبيوتر كبيرة الحجم في قاعة الاحتفالات الكبيرة الغائرة في مركز سياتل للمؤتمرات، وعرضت تاريخ مجرة درب التبانة منهجياً. لخّصت كين وهي تلوح بشعرها الأبيض الطويل (وقالت مازحة: “من السهل رؤيتي من بعيد”) مشروع البحث عن الأحافير المجرية، وهو مشروع بحثي طموح بدأت بقيادته مؤخراً بصفتها طالبة في جامعة بنسلفانيا. تمكنت كين من انتقاء 689 نجماً مميزاً من أصل عدد هائل من النجوم من خلال قياس التركيب الكيميائي لها ودرجة حرارتها وجاذبيتها السطحية. يبدو أن هذه النجوم المميزة تشكّلت في وقتٍ مبكر جداً من عمر الكون، عندما كانت الظروف مختلفة كثيراً عن الظروف السائدة حالياً. شرحت كين أن اكتشاف أقدم النجوم في الكون سيساعدنا على فهم تطور مجرتنا ككل. 

أجرت كين عرضها التقديمي في اجتماع الجمعية الفلكية الأميركية في يناير/ كانون الثاني 2023 بسلاسة، وقاطعها حدثان قصيران فقط. كان الأول عندما تحققت من أن كلب الإرشاد الخاص بها لا يتعرض للإزعاج. بينما وقع الثاني عندما طلبت من أحد المتفرجين مساعدتها على تحديد الرسم البياني الصحيح على شاشة الكمبيوتر، “بما أنني لا أستطيع رؤية المؤشر”، حسب تعبيرها. 

اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن تساعد الرسوم اللمسية المكفوفين على فهم الصور؟

تكنولوجيا الصوتنة: تحويل المعلومات إلى صوت

من حيث المبدأ، يجب أن يكون علم الفلك مجالاً مفتوحاً بالنسبة لباحثة كفيفة قانونياً مثل كين. تجاوزنا بكثير الزمن الذي يتجمّع فيه الراصدون أمام عدسة تلسكوب عملاق لمراقبة الكون. واليوم، يبدأ معظم الدراسات الفلكية بجمع قراءات للضوء مقسمة حسب الشدة والطول الموجيّ، ومرقمنة ومصنّفة بالطريقة الأكفأ مهما كانت. لكن إمكانية العمل في مجال علم الفلك تظل نظرية إلى حدٍ كبير؛ إذ إن العلم يعتمد في مجالاته جميعها على المخططات والرسوم البيانية وقواعد البيانات والصور المصممة خصيصاً لتُرى. لذلك، شعرت كين بسعادة غامرة منذ 3 سنوات عندما تعرّفت على تكنولوجيا تحمل اسم الصوتنة، المصممة لتحويل المعلومات إلى صوت. عملت كين منذ ذلك الحين في مشروع يحمل اسم أسترونيفاي (Astronify)، يقدّم المعلومات الفلكية على شكل تسجيلات صوتية. تقول كين: “يجعل هذا المشروع البيانات التي لا يمكن أن تتوفر بطريقة أخرى متوفرة صوتياً. يمكنني الاستماع إلى صوت منحنى الضوء وفهم الظواهر الفيزيائية”.

كانت كلٌّ من تكنولوجيا الصوتنة وتوفر البيانات من الموضوعات المتكررة في اجتماع علم الفلك في مدينة سياتل؛ إذ شغّلت عالمة الفيزياء الفلكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إيرين كارا، تمثيلات صوتية للضوء المرتد عن الغاز الساخن حول ثقب أسود. وقدّمت الباحثة في مركز هارفارد سميثسونيان للفيزياء الفلكية، أليسون بيريلا، بيانات مصوتنة مصممة لجعل الظواهر مثل كسوف الشمس مفهومة بالنسبة لمجتمع المكفوفين وضعاف البصر. وشرحت الباحثة في جامعة لينكولن، كريستين لِم، اقتراحاً لدمج الصوتنة في البيانات الفلكية التي جمعها مرصد روبن (Rubin Observatory) في تشيلي الذي تبلغ تكلفته 600 مليون دولار، المقرر افتتاحه عام 2024. كان الاجتماع مجرد صورة مصغرة لتوجّه أكبر في مجال توفّر العلم. تقول كين: “علم الفلك هو مجال رائد في تكنولوجيا الصوتنة، ولكن ليس هنالك ما يمنع تطبيق ما نفعله في المجالات الأخرى”. 

اقرأ أيضاً: ما هو برنامج جوجل ويز وكيف تستخدمه لتجربة قيادة أفضل؟

مجالات أخرى لتطبيق الصوتنة

بالفعل، تجرى التجارب على تطبيق الصوتنة في مجالات مثل الكيمياء والجيولوجيا وعلم المناخ. تستكشف إدارات المدارس الثانوية والجامعات كفاءة عروض البيانات السمعية في تدريس الرياضيات. ويمكن أن تساعد الأنواع الأخرى من الصوتنة الموظفين الذين يعملون في الوظائف الخطيرة وتلك التي تنطوي على درجات مرتفعة من الإجهاد، كما يمكن أن تجعل التنقّل في المناطق المدنية أسهل. ستمثّل هذه الابتكارات إضافات يمكن أن تحسّن جودة حياة نسبة كبيرة من عوام الناس. ولكن يوجد في الولايات المتحدة وحدها ما يقدر بنحو مليون مكفوف و6 ملايين من الذين يعانون من ضعف البصر. يمكن أن تُحدث الصوتنة تغييراً شاملاً في حياة هؤلاء الأشخاص؛ إذ إنها يمكنها أن تجعل التعليم أكثر توفراً، وكذلك الأمر بالنسبة لمسارات مهنية لم يكن من الممكن تصورها في السابق، حتى إنها تفتح أمامهم مجال كشف أسرار الكون. 

تتمتع التمثيلات المرئية للبيانات الإحصائية بتاريخ عميق يعود إلى عام 1644 على الأقل، عندما أنشأ عالم الفلك الهولندي، مايكل فلورنت فان لانغرِن (Michael Florent van Langren)، رسماً بيانياً يوضح تقديرات مختلفة للمسافة في خط الطول بين مدينة روما ومدينة طليطلة في إسبانيا. طوّر الرياضيون والعلماء على مر القرون معايير رسومية مألوفة للغاية لدرجة أنه ليس هناك الآن من يفكّر في طريقة لتفسير العناصر مثل خطوط النزعة أو المخططات الدائرية. من ناحيةٍ أخرى، لم تبدأ الصوتنة الفعلية للبيانات حتى القرن العشرين، وكان أول مثال هادف هو عداد غايغر (Geiger counter)، الذي أُتقن تصميمه في عشرينيات القرن الماضي، الذي تشير نقراته ذات الصوت الغريب إلى وجود إشعاع مؤيِّن خطير.

اقرأ أيضاً: إطار عمل جديد يبشّر بذكاء اصطناعي موزع أكثر اخضراراً

اعتمد الأطباء مؤخراً الطرق الصوتية للإشارة إلى قراءات طبية محددة، وربما يكون صوت الصفير الذي يصدره مخطط كهربية القلب هو الأكثر شهرة (ما لم نأخذ في الاعتبار الجهاز الطبي في مسلسل مونتي بايثون، Monty Python، الذي يصدر صوت رنين). لا تزال التطبيقات الحالية للعرض الصوتي متخصصة في الغالب أو محدودة النطاق أو كليهما. على سبيل المثال، يستخدم علماء الفيزياء والرياضيون أحياناً التحليل الصوتي، ولكن يقتصر ذلك على العمليات الفنية مثل خوارزميات الترتيب غالباً. أما من ناحية المنتجات الاستهلاكية، تصدر العديد من السيارات الحديثة أصواتاً للإشارة إلى وجود سيارة أخرى في المنطقة العمياء للسائق، ولكن هذه الأصوات تكون خاصة بمشكلة أو موقف محددين. 

 

“علم الفلك هو مجال رائد في تكنولوجيا الصوتنة، ولكن ليس هناك ما يمنع تطبيق ما نفعله في المجالات الأخرى”.

سارة كين

غياب المعايير الموحدة حول معنى الأصوات وتحديات أخرى أمام الصوتنة

أمضى خبير الصوتنة في جامعة لنشوبينغ في السويد، نيكلاس رونبيرغ (Niklas Rönnberg)، سنوات في محاولة التوصل إلى طريقة لاعتماد استخدام البيانات الصوتية على نطاق واسع، سواء في المنزل أو في مكان العمل. يجادل رونبيرغ بأن العقبة الرئيسية تتمثل في غياب المعايير الموحّدة حول معنى الأصوات؛ إذ يقول آسفاً: “يميلُ الأشخاص لأن يقولوا إن الصوتنة ليست حدسية. يفهم الجميع الرسم البياني الخطي، ولكننا نعاني في إيصال الأفكار باستخدام الصوت”. على سبيل المثال، هل يجب الإشارة إلى الأعداد الكبيرة بأصوات حادّة أو أصوات جهير عميقة؟ يحب الناس اختيار نغمات مخصصة لأشياء بسيطة مثل المنبّه أو إشعارات الرسائل النصية، ويعد الاتفاق على معنى الأصوات المرتبطة بمعلومات مكثّفة، مثل توقعات الطقس للأيام العشرة القادمة، صعباً. 

يشير مدير مختبر سونيفيكيشن لاب في جامعة جورجيا للتكنولوجيا، بروس ووكر، إلى مشكلة أخرى تعوق اعتماد البيانات الصوتية قائلاً: “الأدوات المستخدمة ليست مناسبة للأوساط”. على سبيل المثال، ليس من المنطقي استخدام العروض الصوتية في المكاتب المكتظة أو المعامل الصاخبة. تكون الأدوات التعليمية المعتمدة على الصوت غير قابلة للتطبيق في المدارس؛ إذا تطلب من المعلمين إضافة مكبرات الصوت وبطاقات الصوت إلى أجهزة الكمبيوتر، أو تحميل البرامج المملوكة التي قد لا تكون متوافقة مع أجهزتهم أو قد تُحذف بعد تحديث النظام. يُحمّل ووكر الباحثين مثله جزءاً من المسؤولية؛ إذ يقول: “الأكاديميون ليسوا ماهرين للغاية في مجال نقل التكنولوجيا؛ إذ إنهم يحضّرون المشاريع الرائعة التي تُهمل في أغلب الحالات وينتهي بها المطاف على رفوف المختبرات”.

مع ذلك، فهو يعتقد أن الوقت حان لانتشار الصوتنة على نطاق أوسع، ويُضيف قائلاً: “يمكن لأي شيء حالياً أن يصدر الأصوات، لذلك فنحن ندخل عصراً جديداً. ويمكننا أن نفعل ذلك بطريقة مفيدة”. 

اقرأ أيضاً: ما هي تقنية الهولوجرام وكيف تعمل؟

فرصة واعدة 

سيتطلب اغتنام هذه الفرصة التفكير ملياً في المجالات التي تكون فيها الصوتنة مفيدة وتلك التي ستؤدي فيها إلى نتائج عكسية. على سبيل المثال، يعارض ووكر إضافة الأصوات التحذيرية للسيارات الكهربائية حتى يسهل سماعها وهي تقترب. وهو يجادل بأن التحدي يكمن في ضمان أن تكون المركبات الكهربائية آمنة بالنسبة للمشاة دون زيادة نسب التلوث الضوضائي، ويقول: “هدوء السيارات الكهربائية ميزة وليس عيباً”.

هناك طريقة واحدة على الأقل أثبتت فاعليتها في إثارة حماسة عامة الناس بشأن صوتنة البيانات. قبل عقود من إطلاق مشروع أسترونيفاي، أدرك بعض علماء الفلك أن الصوت هو وسيلة فعّالة لتعليم جمهور واسع عن عجائب الكون. 

كان عالم فيزياء الفضاء في جامعة آيوا، بيل كورث، من أوائل المؤيدين لصوتنة البيانات في مجال علوم الفضاء. عمل كورث ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي على البيانات التي جمعها مسبارا فوياجر 1 وفوياجر 2 التابعان لوكالة ناسا في أثناء تحليقهما بجوار كواكب المجموعة الشمسية الخارجية. درس كورث البيانات التي جمعتها أدوات البلازما في هذين المسبارين (التي رصدت الرياح الشمسية التي تصطدم بالأغلفة الجوية للكواكب وبحقولها المغناطيسية) وبدأ بتحويل الإشارات المعقدة والمجرّدة إلى صوت ليفهمها على نحو أعمق. رقمن كورث مكتبة كاملة من “الصافرات“، التي كشف أنها إشارات راديوية ناجمة عن تشكّل البرق في كوكب المشتري، وكانت هذه الإشارات أول الأدلة على تشكّل البرق على كوكب غير الأرض. 

“سمعت الاصطدامات في اللحظات التي كانت فبها الأصوات في التسجيلات متناغمة. وسمعت أصواتاً إفرادية من الأطوال الموجية المختلفة للضوء”.

كيمبرلي أركاند

أصوات حملت لنا أخبار كواكب أخرى

بدأ كورث في أواخر التسعينيات بتجربة طرق لتحويل أصوات الفضاء هذه إلى تسجيلات يفهمها المستمعون من غير الخبراء. أثارت أصوات الصفير والفرقعة في الكواكب البعيدة اهتمام الجمهور وحماسهم وأصبحت عنصراً أساسياً في مؤتمرات وكالة ناسا الصحفية. 

ومنذ ذلك الحين، تبنّت الوكالة على نحو متزايد تكنولوجيا الصوتنة لإيصال الأفكار وراء الاكتشافات الكونية التي أجريت في مشاريع موّلها القطاع العام (التي كانت غالباً مكلفة) إلى الجماهير. كانت الباحثة في مركز هارفارد سميثسونيان للفيزياء الفلكية، كيمبرلي أركاند، واحدة من رواد هذه الجهود. عملت أركاند على مدى السنوات الخمس الماضية مع وكالة ناسا لإنشاء نسخ صوتية لنتائج مرصد تشاندرا للأشعة السينية، وهو تلسكوب فضائي يشبه تلسكوب هابل يرصد الأجرام السماوية والأحداث النشطة، مثل النجوم المفترسة وانفجارات المستعرات الأعظمية. 

تعمل المقاطع الصوتية التي تنشئها أركاند على مستويين؛ إذ إنها تعبّر عن بيانات مُعرّفة بدقة تتعلق بالضيائية والكثافة والحركة بالنسبة لعلماء الفلك المتمرسين، وتبيّن بالنسبة لعوام الناس التعقيد الديناميكي للأحداث الفضائية، الذي يصعب إدراك قيمته باستخدام المرئيات وحدها. التقطت البرامج الإذاعية والأخبار التلفزيونية هذه اللوحات الصوتية الفضائية وشاركتها على نطاق واسع. أصبحت هذه الأصوات مؤخراً من العناصر الرئيسية على مواقع مثل يوتيوب وساوند كلاود؛ إذا بلغ عدد مرات الاستماع إليها مئات الملايين على الأقل. في ربيع عام 2023، أُطلقت مجموعة أهم التسجيلات الصوتية المستمدة من بيانات مرصد تشاندرا على أسطوانة بتسجيلات طويلة، وأجريت حفلة خاصة بإطلاق الأسطوانة أيضاً. 

تقول أركاند: “تفاعلت مع البيانات بطريقة مختلفة تماماً في المرة الأولى التي سمعت فيها تسجيلات صوت مركز مجرة درب التبانة التي أنشأناها. سمعت الاصطدامات في اللحظات التي كانت الأصوات في التسجيلات متناغمة. وسمعت أصواتاً إفرادية من الأطوال الموجية المختلفة للضوء”. يتبنى الباحثون في مجالات أخرى النهج الذي اتبعته أركاند على نحو متزايد. على سبيل المثال، حوّل باحثون من جامعة ستانفورد البيانات المناخية التي تغطي 1,200 عام إلى أصوات لمساعدة عوام الناس على فهم شدّة الاحتباس الحراري وسرعته. 

اقرأ أيضاً: الإنسان المعزز بالتكنولوجيا: مستقبل التطور البشري

صوتنة البيانات ومساعدة الذين يعانون صعوبات بصرية

كانت التسجيلات الصوتية الفلكية القصيرة والمتوفرة للعوام التي أنشأتها أركاند فعّالة للغاية في إيصال الأفكار إلى عامة الناس، لكن أركاند تشعر بالقلق من أنها لم تجعل المعلومات العلمية أكثر توفراً للمكفوفين وضعاف البصر. (تعترف كين قائلة: “لم أسمع هذه التسجيلات قبل الدخول إلى الجامعة”). أجرت أركاند مؤخراً دراسة حول كيفية استجابة المكفوفين وضعاف البصر من جهة والأشخاص الذين لا يعانون من المشكلات البصرية من جهة أخرى لصوتنة البيانات بهدف تقييم مدى فائدة عملها على نطاق أوسع. وتبيّن النتائج غير النهائية لهذه الدراسة أن مستويات الاهتمام والمشاركة لدى الأفراد من كلتا المجموعتين متقاربة. تعتبر أركاند أن هذه النتائج تُبيّن أن صوتنة البيانات طريقة واعدة للغاية لم يُستفد منها بما يكفي لجذب مجموعات أكثر تنوعاً من البشر إلى مجال العلوم.  

مع ذلك، يكمن التحدي الأكبر في الخطوة التالية؛ إذ إن الأصوات الجميلة، مثل الصور الجميلة، ليست مفيدة للغاية بالنسبة لضعاف البصر الذين أثارت اهتمامهم هذه الأصوات ولكنهم يريدون التعمق أكثر وإجراء الأبحاث بأنفسهم. من ناحية المبدأ، يحب أن يكون علم الفلك من المجالات التي يعد الدخول فيها سهلاً لأنه يعتمد كثيراً على البيانات الخام. لا تتطلب دراسة النجوم العمل في المخابر أو السفر بالضرورة. مع ذلك، لم يتمكن سوى عدد قليل من علماء الفلك المكفوفين أو الذين يعانون من ضعف البصر من التغلب على التحديات في هذا المجال. يمثّل الباحث، إنريكي بيريز مونتيرو، الذي يدرس تشكّل المجرات ويجري حملات التوعية المجتمعية في معهد الأندلس لعلم الفلك في إسبانيا، إحدى قصص النجاح القليلة. ويمثّل الباحث في جامعة بورتسموث في المملكة المتحدة، نيكولاس بون، قصة أخرى، وهو يعمل حالياً على تطوير كلٍّ من التقنيات الصوتية واللمسية لمشاركة عمله في علم الفلك مع الجمهور. 

اقرأ أيضاً: كيفية استخدام البيانات الضخمة في فهم سلوك المستخدمين

من المرجّح أن تكون واندا دياز-ميرسيد هي أشهر فلكية تنتمي إلى مجتمع المكفوفين وضعاف البصر في العالم. ولكن مسيرتها المهنية تُبيّن صعوبة التحديات التي يواجهها ضعاف البصر في هذا المجال. فقدت دياز-ميرسيد بصرها تدريجياً خلال مراهقتها وأوائل فترة البلوغ. على الرغم من أنها شكّت في البداية بقدرتها على مواصلة دراستها، فإنها صمدت في وجه الصعوبات وحصلت على فرصة تدريب في مركز غودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة ناسا عام 2005، حيث تعاونت لاحقاً مع عالم الكمبيوتر، روبرت كاندي، لتطوير أدوات لصوتنة البيانات. منذ ذلك الحين، واصلت دياز-ميرسيد عملها في وكالة ناسا وجامعة غلاسكو ومركز هارفارد سميثسونيان للفيزياء الفلكية ومرصد الجاذبية الأوروبي ومختبر الجسيمات الفلكية وعلم الكون في باريس وجامعة القلب المقدّس في بورتوريكو. اضطرت دياز-ميرسيد إلى شق طريقها بنفسها في كل مرحلة. وتقول: “لاحظت أن الصوتنة مفيدة في جميع مجموعات البيانات التي تمكّنت من تحليلها، من تلك المتعلقة بالرياح الشمسية إلى الأشعة الكونية وعلم الفلك الراديوي وبيانات الأشعة السينية، لكن قابلية استخدام قواعد البيانات منخفضة. لم تحصل مقترحات ترويج الصوتنة على الموافقة قط، على الأقل تلك التي قدّمتها”.

أصبحت مصممة تجربة المستخدم في معهد مراصد علوم الفضاء، جين كوتلر، مهووسة بهذه المشكلة بعد حضور محاضرة ألقاها الكيميائي الكفيف، غاري فوران، الذي نقل اختصاصه إلى علم الفلك باستخدام أدوات تكنولوجيا الصوتنة الأولى. تساءلت كوتلر عما إذا كان يمكنها أداء عملها بطريقة أفضل، وتقدّمت بالتعاون مع زميليها بطلب للحصول على منحة من معهد مراصد علوم الفضاء لتصميم عُدّة مخصصة لتحويل البيانات الفلكية إلى أصوات. حصل الباحثون على التمويل، وبدؤوا عام 2020، مع بداية جائحة كوفيد، بتأسيس ما تحول لاحقاً إلى مشروع أسترونيفاي. 

اقرأ أيضاً: بناء قدرات البيانات: طموحات جريئة وآفاق واسعة أمام الشركات في الشرق الأوسط

مشروع أسترونيفاي

تقول كوتلر: “كان الهدف من مشروع أسترونيفاي هو تطوير أداة تُتيح للأشخاص كتابة النصوص وجمع البيانات التي تهمّهم وصوتنتها وفقاً لمعاييرهم الخاصة”. قد يكون أحد أبسط التطبيقات هو صوتنة البيانات التي تشير إلى التغيير في سطوع جسم ما، مثل عندما يمر كوكب أمام نجم بعيد؛ إذ يمكن التعبير عن انخفاض السطوع بدرجة صوت منخفضة. عملت كوتلر مع لجنة من المستخدمين التجريبيين المكفوفين وضعاف البصر بعد سماع مخاوف بشأن غياب المعايير حول ما يجب أن تشير إليه الأصوات المختلفة. وتقول: “أردنا إشراك هذه الفئة بمجرد بدء مشروع أسترونيفاي”. ما كان يفتقر إليه معظم البيانات المصوتنة المبكّرة الموجهة للجمهور هو إسهام المجتمع؛ إذ إن الباحثين المبصرين هم من صممها، كما أنها كانت موجهة للمستخدمين المبصرين بشكل أساسي. 

أصبح أسترونيفاي الآن حزمة برمجية مكتملة ومجانية ومفتوحة المصدر. لا تزال قاعدة مستخدمي هذه الحزمة حتى الآن صغيرة (أقل من 50 شخصاً، وفقاً لكوتلر)، لكن كوتلر تعتقد أن هذا المشروع هو خطوة بالغة الأهمية تجاه جعل العلوم متوفرة على مجال أوسع. وتقول: “لا يزال مجال الصوتنة في مراحله الأولى، ولم يجرَ ما يكفي من الدراسات حول الطرق الأفضل لاستخدام هذه التكنولوجيا”.

 

من ناحية المبدأ، يحب أن يكون علم الفلك من المجالات التي يعد الدخول فيها سهلاً لأنه يعتمد كثيراً على البيانات الخام. مع ذلك، لم يتمكن سوى عدد قليل من علماء الفلك المكفوفين أو الذين يعانون من ضعف البصر من التغلب على التحديات في هذا المجال.

يتمثل أحد أهداف كوتلر في توسيع نطاق عملها في مجال الصوتنة وإنشاء “موجزات” سمعية لجميع الأنواع المختلفة من البيانات المخزنة في أرشيف مِكالسكي للتلسكوبات الفضائية (Mikulski Archive for Space Telescopes)، وهو مخزن كبير يتضمن أرشيفات البيانات ونتائج أرصاد التلسكوبات مثل تلسكوب هابل الفضائي وتلسكوب جيمس ويب بالإضافة إلى العديد من البعثات الأخرى. تقول كوتلر إن فتح المجال للبحث صوتياً في هذه المجموعة سيعزز قابلية الوصول إلى واحد من مخازن البيانات العلمية الرائدة، وسيمثّل نموذجاً يمكن تكراره في مجالات أخرى.

تشارك كوتلر أيضاً الأفكار مع الباحثين وعلماء البيانات الذين تشترك معهم في القناعات، مثل جيمس تريفورد في جامعة بروستموث، الذي عمل مع بون على إنشاء حزمة صوتنة تحمل اسم شتراوس (STRAUSS) في منظمة دولية عمرها 3 سنوات تحمل اسم سونيفيكيشن وورلد تشات (Sonification World Chat). تشارك أركاند أيضاً في هذه الجهود، وتبحث عن طرق للاستفادة من الطبيعة الحدسية للتسجيلات الصوتية الفلكية التي أنشأتها في إنجاز المهمة الأصعب المتمثلة في توفير بيانات الأبحاث لمجتمع المكفوفين وضعاف البصر. تشير أركاند إلى أن الصوتنة مفيدة بصورة خاصة في تأويل القياسات التي تتغير بمرور الوقت، وهو نوع من البيانات يستخدم في الأغلبية الساحقة من المجالات البحثية. تقول أركاند: “علماء الفلك هم المجموعة الأساسية التي تعمل في مجال الصوتنة، ولكن العلماء في مجالات مثل الجيولوجيا وعلوم المحيطات والتغيّر المناخي يشاركون أيضاً”. 

حوّل الباحثون في وكالة ناسا البيانات المأخوذة من سديم السرطان إلى أصوات. يقابل كل طول موجي للضوء عبر الصورة مجموعة مختلفة من الآلات الموسيقية. درجة صوت الضوء في أعلى الصورة أعلى، بينما يكون مستوى صوت الضوء الأكثر سطوعاً أعلى.


يتمثل الهدف الأشمل للمجموعات مثل سونيفيكيشن وورلد تشات في الدمج بين الأدوات مثل أسترونيفاي، التي تعد فعّالة ولكنها مفيدة فقط لمجتمع متخصص، والبيانات المصوتنة المتعددة الأغراض، مثل معلومات نظام تحديد المواقع (GPS) المنطوقة على الهواتف، التي تفيد مجموعة واسعة من الناس ولكن بطرق محدودة للغاية فقط. 

الاستخدام المزدوج

يركّز رونبيرغ جزءاً كبيراً من اهتمامه على مشاريع “الاستخدام المزدوج”، التي تكون فيها صوتنة البيانات مفيدة عموماً في ظروف أو مهنة معينة ولكن يمكن أن تكون لها تطبيقات تساعد على تعزيز قابلية الوصول في الوقت نفسه. درس رونبيرغ في أحد المشاريع إمكانية استخدام البيانات المصوتنة في مراقبة الحركة الجوية بالتعاون مع وكالة خدمات الملاحة الجوية السويديّة. أجرى فريقه التجارب على استخدام الأصوات للإشارة إلى دخول الطائرات إلى قطاع أحد المتخصصين في مراقبة الحركة الجوية أو لتوفير إدراك بـ 360 درجة يصعب توفيره بصرياً. بعد التفكير في مسألة نقل أكثر شيوعاً، بدأ رونبيرغ بالعمل على مشروع تجريبي للحافلات المصوتنة التي تعرّف عن نفسها وتصرّح بمسارها عندما تصل إلى الموقف. يمكن لشاشات العرض الصوتية المضافة تحديد مواقع الأبواب المختلفة والإشارة إلى الأبواب التي يمكن الوصول إليها، وهي ميزة مفيدة للركاب سواءً كانوا يعانون من ضعف البصر أم لا. 

الاستخدام المزدوج هو مجال أساسي بالنسبة لمديرة مختبر ساوند باد (SoundPAD) في جامعة فلوريدا، كايلا ماكمالِن. يرمز اختصار “PAD” في الاسم إلى “perception, application, and development”، أي الإدراك والتطبيق والتطوير. تعمل ماكمالن مع إدارة إطفاء مدينة غينسفيل في ولاية فلوريدا الأميركية على اختبار نظام يستخدم الصوت لمساعدة رجال الإطفاء على توجيه أنفسهم عبر المباني المليئة بالدخان. في هذه المباني، يكون الجميع ضعاف البصر. تعتقد مكمالن، مثل رونبيرغ، أن صوتنة البيانات قد تكون مفيدة للغاية في جعل التنقل في الأوساط المدنية أسهل. يعتمد مشروع آخر تشارك فيه مكمالن على إضافة الأصوات الثلاثية الأبعاد إلى نظام تحديد المواقع العالمي، وهي إشارات يبدو أنها تُصدر من اتجاه معين. هدف هذا المشروع هو إنشاء مؤشرات صوتية لتوجيه الأشخاص حدسياً عبر موقع أو حيّ غير مألوف بالنسبة لهم. تقول مكمالن: “التنقل هو مجال يمكن إحراز التقدّم فيه بصورة خاصة، وهو أولويتي الأولى”.  

يحاول ووكر، الذي عمل على صوتنة البيانات لأكثر من 3 عقود، تحقيق أقصى استفادة من تغيير التكنولوجيا؛ إذ يقول: “ما نلاحظه هو أن الابتكارات التي نطوّرها وتصبح أكثر آلية أو أسهل في الاستخدام تسهّل الحياة على الأشخاص ذوي الإعاقة بالنتيجة”. عمل ووكر مع شركة بلومبرغ لعرض البيانات المالية السمعية على محطاتها، ومع وكالة ناسا لوضع معايير لمحطة عمل مصوتنة. وهو يستكشف أيضاً طرقاً لجعل التكنولوجيا اليومية أكثر توفّراً. على سبيل المثال، يقول ووكر إن برامج قراءة الشاشة المتوفرة حالياً في الهواتف المحمولة لا تعكس العديد من نواحي تجربة وسائل التواصل الاجتماعي. لذلك، فهو يعمل حالياً مع أحد طلابه لتصميم رموز تعبيرية صوتية “توصل المشاعر الفعلية وراء الرسائل”. اختبر الباحثان الأداة التي طوّراها مع 75 شخصاً من المبصرين والمكفوفين أو الذين يعانون من ضعف البصر عام 2022، وقدّم المشاركون ملاحظات إيجابية في الغالب.

اقرأ أيضاً: دبي الذكية تعلن نتائج منتصف مبادرة «تحدي البيانات أولاً»

التعليم: الحلقة المفقودة الأهم في صوتنة البيانات

قد يكون التعليم أهم حلقة مفقودة بين الأصوات المساعدة المتعددة الأغراض والصوتنة المستخدمة في المجال الأكاديمي. يعترف ووكر بأن استخدام الأصوات في التعليم لم يكن سهلاً، لكنه يعتقد أن الوضع يتحسن في هذا المجال أيضاً. ويقول: “شهدنا إطلاق المزيد من أدوات الإنترنت، مثل سونيفيكيشن ستوديو (Sonification Studio) الخاص بنا، التي لا يتطلب استخدامها عمليات تركيب خاصة أو درجة عالية من الدعم الفني. ما عليك سوى البدء باستخدامها. والتغيير بدأ بالفعل”. 

تُنشئ أداة سونيفيكشن ستوديو نسخاً صوتية من المخططات والرسوم البيانية لأغراض التدريس والتحليل. تستخدم مشاريع التعليم الأوليّة الأخرى الصوتنة لمساعدة الطلاب على فهم بنى البروتينات وتشريح البشر. قدّم أعضاء منظّمة سونيفيكيشن وورلد تشات في أحدث اجتماع افتراضي للمنظمة أدوات متعددة الأغراض لصوتنة البيانات العلمية والصياغات الرياضية ولتعليم الأطفال المكفوفين أو ضعاف البصر المهارات الأساسية في مجال تفسير البيانات. تدير مشرفة مجموعة التعليم في منظّمة سونيفيكيشن وورلد تشات، فيا دامشما، شركة برمجيات تعليمية أسترالية تركز على الصوتنة ومساعدة الطلاب المكفوفين أو ضعاف البصر. زاد عدد هذه المشاريع كثيراً خلال العقد الماضي؛ وعرضت الباحثة في المعهد الدولي للفيزياء الفلكية في إيطاليا، أنيتا زانيلا، وزملاؤها في ورقة بحثية نُشرت مؤخراً في مجلة نيتشر (Nature) أكثر من 100 مشروع بحثي وتعليمي قائم على الصوتنة في مجال علم الفلك وحده.

تُجرَّب أحدث تطبيقات الصوتنة في العالم الحقيقي بسرعة، ويدعمها انتشار البرامج السحابية وأجهزة الكمبيوتر والهواتف والأجهزة الأخرى المصدرة للأصوات التي أصبحت واسعة الانتشار. تلاحظ دياز-ميرسيد، التي عانت لعقود من الزمن في تطوير أدوات الصوتنة الخاصة ومشاركتها، أخيراً علامات تبين إحراز تقدّم حقيقي يساعد العلماء المكفوفين والذين يعانون من ضعف البصر. وتقول: “لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يجب إنجازه. ولكن شيئاً فشيئاً، مع التركيز على الإنسان في الأبحاث العلمية حول الإدراك المتعدد الحواس، سنبدأ بإنجاز هذا العمل”.

اقرأ أيضاً: إيمتيك مينا: ما يجب أن تعرفه عن دخول التقنية إلى قطاع التعليم وعن الحكومات الإلكترونية

استخدمت كين أداة أسترونيفاي بصفتها مستخدمِة تدريبية بشكلٍ أساسي، لكن نبهها ذلك بأن البيانات الفلكية المصوتنة التي تولدها هذه الأداة مرتبطة مباشرة بدراستها للمجرات، وأنها منسّقة في حزمة برامج علمية معيارية، ما يمنحها نوعاً من الوصول لم يكن موجوداً قبل فترة لا تتجاوز 3 سنين فقط. بحلول الوقت الذي ستحصل فيه على شهادة الدكتوراة، من المحتمل أنها ستتمكن من إجراء التجارب والأبحاث باستخدام أدوات الصوتنة المدمجة مباشرة في قواعد بيانات الأبحاث الأساسية في مجالها. تقول كين: “أشعر بالأمل في أن الظروف تحسنت كثيراً خلال حياتي القصيرة نسبياً. أنا متحمسة للغاية لمراقبة ما سيحدث تالياً”.