لماذا لم تقضِ الإنترنت على قطاع صناعة الورق؟ وما مستقبلها؟

5 دقائق
لماذا لم تقضِ الإنترنت على قطاع صناع الورق؟ وما مستقبلها؟
حقوق الصورة: غيتي إيميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في خريف عام 2022، أغلقت شركة صناعة الورق المتخصصة، دَن بيبر، مصنعها في مدينة بورت هيورون في ولاية ميشيغان الأميركية، حيث صنعت لنحو قرن من الزمن الورق الذي يُستخدم في مختلف المجالات، من قطاع المواد الغذائية إلى المؤسسات الطبية. وأعلنت شركة سونوكو لتصنيع ورق التغليف في مارس/ آذار 2023 أنها ستغلق مصنعها في مدينة هتشينسون الذي أصبح عمره 100 عام منذ أكثر من عقد من الزمن، وأنها ستسرّح العشرات من العمال.

أغلقت شركة تصنيع الورق، باكتيف إيفرغرين، مصنعاً في بلدة كانتون في ولاية كارولينا الشمالية يضم قُرابة 1,000 عامل، على الرغم من أن حاكم الولاية ناشدها ألّا تفعل ذلك. أدّت هذه الشركة دوراً مهماً للغاية في اقتصاد المنطقة لدرجة أن طلاب المدارس الثانوية كانوا ينهون دروس تجارة الورق وعجينة الورق التي تهدف إلى إعدادهم للعمل في المصنع عند إغلاقه.

إغلاق مصانع الورق: نتائج متوقعة للرقمنة

قد يبدو إغلاق مصانع الورق الأميركية منطقياً للوهلة الأولى؛ فاليوم، ترسل لنا منصات الدفع الإيصالات إلكترونياً، ويُعلَن عن قرارات القبول بالجامعات أولاً عبر المواقع الإلكترونية، وتتقاضى البنوك رسوماً مقابل البيانات الشهرية التي ترسلها عبر البريد العادي، ولا يقول أحد “فكّر قبل أن تطبع” لأنه لا حاجة إلى ذلك.

كان ذلك من النتائج المتوقَّعة للرقمنة. كان من المفترض أن تساعدنا أجهزة الكمبيوتر الشخصية والإنترنت على تجنّب استخدام كميات كبيرة من الورق، وقد نجحت في ذلك من عدة نواحٍ. حلّت رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية محل مجموعة كبيرة من طرائق التواصل غير الرقمية المعتمدة على الكتابة، وتؤدي السحابة الإلكترونية دور بديل من النسخ الورقيّة. بالنتيجة؛ انخفض الإنتاج العالمي السنوي لأوراق الطباعة والكتابة بنحو 30% منذ وصوله إلى أعلى مستوياته في عام 2007.

اقرأ أيضاً: حيلة مبتكرة تتبعها تويوتا لرفع مبيعات سياراتها الكهربائية

قطاع الورق لم ينتهِ

ولكن هذا ليس السبب الرئيس لإغلاق مصانع الورق الأميركية. لا يصنع العديد من المصانع التي تتوقف عن العمل في الولايات المتحدة أوراق الطباعة والكتابة، ناهيك بأن تراجع أهمية ورق الطباعة لا يعني نهاية قطاع الورق  العملاق على أي حالووفقاً لإحصاءات جمعتها منظّمة الأمم المتحدة؛ نما الإنتاج السنوي للورق والورق المقوى بنحو 60% منذ عام 1993. ويسعى قطاع الورق في خضم السباق لمكافحة التغير المناخي إلى التنافس مع المنتجات التي تُصنع تقليدياً من البلاستيك؛ مثل المصاصات والزجاجات. هناك سبب واحد بسيط يفسّر استمرار رواج الورق؛

 يؤدي ازدياد عدد سكان العالم إلى ازدياد حاجة البشر إلى استخدام المنتجات الورقية التي احتاجوا إليها دائماً مثل المناديل الورقية وأكياس الشاي ولوازم المائدة التي تُستخدم لمرة واحدة. ويقول الأستاذ الباحث الذي يدرس تكنولوجيات صناعة الورق الجديدة في مركز تطوير منتجات الغابات في جامعة أوبرن، بوراك أكسوي: “ينمو قطاع ورق التنظيف (بما يشمل المناديل الورقية والصحية ومناديل الوجه والمناشف الورقية) على نحو مستمر”.

اقرأ أيضاً: كيف تعوق البرمجيات مفتوحة المصدر هيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى على الذكاء الاصطناعي؟

كيف أدت الرقمنة إلى ازدياد الطلب على الورق؟

لكن يمكن ربط نسبة كبيرة من الزيادة في الطلب على الورق بأحد أهم المنتجات الثانوية للرقمنة؛ وهو التسوّق عبر الإنترنت. تعتمد التجارة الإلكترونية التي تمثّل اليوم نحو 15% من إجمالي المبيعات في الولايات المتحدة، على مجموعة واسعة من المنتجات الورقية مثل الصناديق الكرتونية وملصقات الشحن وورق التغليف. وعلى الرغم من أن العصر الرقمي قضى بطريقة غير مباشرة على جزء كبير من قطاع الورق، تمثّل استخدامات الشركات مثل أمازون وعلي بابا للورق فرصة ثمينة لهذا القطاع.

تقول مديرة متحف روبرت سي. ويليامز لصناعة الورق في معهد جورجيا للتكنولوجيا، فيرجينيا هاوِل: “استخدم البشر الورق منذ أكثر من ألفَيّ عام، ولم تتغير أساسيات صناعته كثيراً خلال تلك الفترة. هل الورق الذي يُستخدم لصناعة صناديق الكرتون هو النوع نفسه الذي يُطبع عليه في الكتب؟ في الواقع، الجواب هو نعم ولكن طرائق معالجة الألياف تختلف”.

اقرأ أيضاً: كيف تتمكن الشركات المشبوهة من تخمين معلوماتك الشخصية الخاصة؟

تاريخياً، كانت التنبؤات التي تنص على نهاية الورق مبالغاً فيها. في مطلع الألفية الحالية، تفاخرت جمعية منتجات الغابات الكندية بأن الأشخاص يشترون مئات الملايين من الطابعات الشخصية مع تزايد الطلب على أجهزة الكمبيوتر الشخصية. وبعد بضع سنوات فقط، قال مالكولم غلادويل في مجلة ذا نيويوركر إن “الدول الغربية جميعها” استهلكت كمية من الورق لكل شخص أكبر من التي استهلكتها قبل عقد من الزمن.

أفادت الجمعية الأميركية للغابات والورق، وهي مؤسسة تجارية تمثل قطاع منتجات الورق والخشب، بأن الطلب على الورق المستخدَم في الطباعة والكتابة انخفض في الولايات المتحدة بنسبة 50% تقريباً، وانخفض الطلب على ورق الصحف بشدة أكبر، بنحو 90%، منذ عام 1990. ولكن الطلب على أنواع الورق المتعلق بالتعبئة والتغليف، جميعها، ازداد بنسبة 33% تقريباً خلال الفترة نفسها. انخفض إجمالي الطلب على الورق والورق المقوى في الولايات المتحدة بنسبة تقل عن 20% فقط منذ عام 1990،

ويبدو هذا التوجّه منطقياً إذا أخذنا في الاعتبار كمية العبوات المتطلبة لشحن المنتجات مباشرة إلى المنازل بدلاً من شرائها من المتاجر المحلية. للسبب نفسه؛ أدى الارتفاع الكبير في الإنفاق على التجارة الإلكترونية في فترة جائحة كوفيد-19 إلى زيادة غير مسبوقة في إنتاج كرتون الحاويات الذي يُستخدم في صناعة صناديق الكرتون. وعلى الرغم من أن هذا الطلب ينخفض مع تكيّف الناس مع تراجع الاقتصاد وأنماط الإنفاق الأكثر انتظاماً، فمن المتوقّع أن ينمو قطاع الورق أكثر مع استمرار نمو التجارة الإلكترونية.

اقرأ أيضاً: ما التبعات السياسية والاقتصادية لاكتشاف منجم ضخم لليثيوم في الهند؟

التسوق عبر الإنترنت وصناعة الورق

في الواقع، حفّز انتشار التسوّق عبر الإنترنت بعضاً من أحدث الاستثمارات التي أُجريت في قطاع الورق الأميركي. يركّز أول مصنع ورق جديد يُبنى منذ أكثر من 3 عقود في ولاية ويسكونسن، وهو منشأة بقيمة 500 مليون دولار بنتها شركة تحمل اسم “غرين باي باكيجينغ” افتُتحت في عام 2021، على المواد الخارجية والمكونات الداخلية المستخدَمة في صناديق الكرتون. تعمل شركة صناعة الورق العملاقة التي مقرها مدينة سكاوهيغان في ولاية مين، سابي، على تعديل آلات صناعة ورق بطريقة تجعلها قادرة على إنتاج ألواح الكبريتات المبيّضة؛ وهو نوع من مواد التغليف المستدامة بيئياً يُستخدم عادة لتغليف أكواب القهوة ومنتجات مستحضرات التجميل.

وفقاً للجمعية الأميركية للغابات والورق؛ حوّل نحو 12 مصنعاً الإنتاج من ورق التواصل إلى ورق التغليف بين عامَيّ 2018 و2023.

تقول هاول: “ثمة شركات تصنع الأوراق قد تفاجئك، وتصنع الشركات الكثير من ورق الترشيح. ثمة أيضاً أوراق السجائر والأوراق المستخدمة في تغليف ألواح الحلوى”.

بطبيعة الحال، تغيير التكنولوجيات ليس العامل الوحيد الذي يدفع قطاع الورق إلى تغيير مساره؛ إذ واجه قطاع الورق إلى جانب انتشار الأتمتة وازدياد المنافسة من الدول الخارجية، التأثير المتزايد لوول ستريت. ووفقاً لأستاذ الاقتصاد في جامعة جنوب مين، مايكل هيلارد الذي كتب عن تاريخ قطاع الورق في الولاية؛ مارست الشركات الكبيرة على مدى العقود العديدة الماضية ضغوطاً متزايدة لزيادة الأرباح وخفض تكاليف العمالة. أسهم ذلك في إغلاق المصانع وانخفاض معدلات التوظيف في الولايات المتحدة، وذلك بالترافق مع نمو القطاع خارج البلاد.

اقرأ أيضاً: مهندسون جدد لشبكة الويب العالمية: هل انتهى عصر شريط البحث؟

يقول هيلارد: “هناك الكثير من العوامل المؤثرة؛ مثل الأتمتة والتوسّع المالي. ومثّل دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001 التغيير الثوري الأهم”.

الأزمة المناخية تؤثر أيضاً. في النهاية، يصنع البشر الورق من خلال تقطيع الأشجار التي تعزل الكربون، وتتطلب عملية تحويل عجينة الورق إلى ورق، بحد ذاتها، كمية كبيرة من الطاقة.

ومع ذلك، ليس هناك ما يشير إلى أن الحاجة إلى الورق ستزول في أي وقت قريب، حتى مع استمرار شركات التكنولوجيا الكبرى في الترويج للابتكارات الثورية الجديدة. لا تزال الملصقات ودفاتر الملاحظات موجودة على مكاتبنا المملوءة بالأجهزة، ولا تزال أكوام صناديق التوصيل مطوية إلى جوار أبواب منازلنا الأمامية. الوضع الحالي لقطاع هو تذكير بأن التكنولوجيا قادرة على زعزعة قطاع ما من دون أن تلغي الحاجة إليه تماماً.