الأسئلة الكبرى: ما هو الموت من وجهة نظر التكنولوجيا الحيوية؟

6 دقائق
الأسئلة الكبرى: ما هو الموت؟
مصدر الصورة: آرييل ديفيس
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تحدد وثيقة الوفاة لحظة خروجنا من العالم، تماماً كما تحدد وثيقة الولادة لحظة دخولنا إليه. وتعبّر هذه الممارسة عن تصورنا التقليدي حول الحياة والموت، بوصفهما ثنائية مؤلفة من عنصرين متمايزين تماماً؛ فنحن موجودون في هذا العالم، لكننا سنغادره على حين غرة، تماماً كما يحدث عند إطفاء مصباح بالمفتاح الكهربائي.

وعلى الرغم من أن هذه الفكرة حول الموت واسعة الانتشار، تشير الأدلة المتراكمة إلى أنها مجرد فكرة اجتماعية بائدة، ولا تعتمد على أي أساس في علم الأحياء. في الواقع، يُعد الموت عملية، ولا تتضمن هذه العملية أي عتبة محددة وواضحة تمثل نقطة اللاعودة.

وقد أصبحت هذه الفكرة مقبولة لدى الكثير من العلماء والأطباء. ومع بدء المجتمع بتقبل هذه الفكرة أيضاً، فقد تؤدي إلى تأثير كبير على الأحياء. يقول مدير أبحاث العناية الفائقة والإنعاش في مركز لانغون الطبي في نيويورك، سام بارنيا: "من المحتمل أن نتمكن من إعادة إحياء الكثير من الأشخاص".

احتمالات طبية واعدة في عكس عملية الموت

على سبيل المثال، بدأ علماء الأعصاب بإدراك قدرة الدماغ على تحمل الحرمان من الأوكسجين إلى درجات مفاجئة، وهذا يعني أن المهلة المتاحة أمام الأطباء لعكس اتجاه عملية الموت قد تصبح قابلة للتمديد يوماً ما. وعلى نحو مشابه، يبدو أن بعض الأعضاء الأخرى قابل للإنعاش بعد مرور فترات أطول من المتعارف عليه في الممارسات الطبية الحالية، ما يفتح المجال أمام العديد من الاحتمالات لتمديد صلاحية الأعضاء بعد التبرع بها.

لكن تحقيق هذه الأهداف يتطلب إعادة النظر في استيعابنا للحياة والموت ومقاربتنا لهما. فبدلاً من التفكير في الموت بوصفه حدثاً لا يمكن النجاة منه، وفقاً لبارنيا، يجب أن ننظر إليه بوصفه عملية عابرة من الحرمان من الأوكسجين، وهي عملية يمكن أن تصبح غير قابلة للعكس بعد مرور فترة طويلة أو فشل محاولات التدخل الطبية. إذا تبنينا هذه العقلية في التعامل مع الموت، كما يقول بارنيا، "فسوف يسعى الجميع إلى علاجه".

اقرأ أيضاً: هل سنفقد السيطرة على بياناتنا الدماغية بسبب تكنولوجيات قراءة الأفكار؟

تغيير الأهداف

عادة ما تشير التعاريف القانونية والبيولوجية إلى الموت بوصفه "نهاية لا رجعة عنها" للعمليات الداعمة للحياة التي يدعمها القلب والرئتان والدماغ. يمثّل القلب نقطة الضعف الأكثر شيوعاً، وعلى مرّ معظم التاريخ البشري، كان توقف القلب يعني نهاية الحياة على نحو قاطع، لكن هذا الأمر تغير عام 1960 تقريباً، وذلك مع اختراع عملية إنعاش القلب والرئتين.

وحتى ذلك الحين، كانت عودة القلب المتوقف إلى النبض أمراً أشبه بالمعجزات، أمّا الآن، فهي في متناول الطب الحديث. كانت عملية إنعاش القلب والرئتين أول حدث دفع الجميع إلى إعادة النظر في فكرة الموت على نحو جذري، ودخلت عبارة "توقف القلب" قاموس المصطلحات الطبية، محدثةً فصلاً دلالياً واضحاً بين التوقف المؤقت لعمل القلب، والتوقف النهائي للحياة.

وفي الفترة نفسها، أدّى ظهور أجهزة التنفس الميكانيكية ذات الضغط الإيجابي، التي تعمل من خلال ضخ أنفاس من الهواء إلى الرئتين، إلى إتاحة المجال لمواصلة التنفس أمام الأشخاص الذين تعرضوا لإصابة دماغية خطيرة، بسبب رصاصة في الرأس أو سكتة دماغية شديدة أو حادث سيارة. لكن عمليات التشريح التي أجراها الباحثون لهؤلاء الأشخاص بعد وفاتهم كشفت أن أدمغتهم تعرضت، في بعض الحالات، إلى تلفٍ شديدٍ لدرجة أن أنسجتها بدأت بالتميّع. وفي هذه الحالات، أدّت أجهزة التنفس عملياً إلى تحويل هؤلاء الأشخاص إلى "جثث ذات قلوب نابضة"، وفقاً لعالم الأعصاب في معهد آلن في سياتل، كريستوف كوش.

أدّت هذه الملاحظات إلى ظهور فكرة الموت الدماغي، وأطلقت جولة جديدة من الجدل الطبي والأخلاقي والقانوني حول إمكانية إعلان موت هؤلاء الأشخاص قبل توقف قلوبهم عن النبض. وفي نهاية المطاف، تبنّى الكثير من البلدان شكلاً من أشكال هذا التعريف الجديد، لكن تحديد التفاصيل العلمية لهذه العمليات لا يزال بعيد المنال، سواء تحدثنا عن الموت الدماغي أو الموت الحيوي. تقول عالمة الأعصاب في جامعة لياج في بلجيكا، شارلوت مارشال: "كلما أصبح توصيفنا للدماغ الميت أدق، سنواجه عدداً أكبر من التساؤلات. إنها ظاهرة فائقة التعقيد".

أدمغة على شفير الموت

من المتعارف عليه تقليدياً لدى الأطباء أن الدماغ يبدأ بالتلف بعد عدة دقائق من حرمانه من الأوكسجين. وعلى الرغم من أن هذه المعلومة مقبولة على نطاقٍ واسع، وفقاً لعالمة الأعصاب في جامعة ميشيغان، جيمو بورجيغين، "فلا بُدّ أن نتساءل: لماذا تتسم أدمغتنا بهذه الدرجة العالية من الهشاشة؟".

اقرأ أيضاً: اجتماع بقيمة مليار دولار لكبار الأثرياء الباحثين عن عمر طويل

يشير بعض الأبحاث الحديثة إلى أن هذا قد لا يكون صحيحاً في الواقع؛ ففي 2019، قال بعض العلماء في مجلة "نيتشر" (Nature) إنهم تمكنوا من إعادة تنشيط بعض الوظائف في أدمغة 32 خنزيراً بعد مرور أربع ساعات على قطع رؤوسها في المسلخ. في هذه التجربة، أعاد الباحثون النشاط الخلوي ونشاط الدورة الدموية إلى الأدمغة باستخدام دم اصطناعي غني بالأوكسجين وممزوج بخليط من المستحضرات الدوائية الواقية.

كما استخدم الباحثون أيضاً أدوية مخصصة لإيقاف إطلاق العصبونات لإشاراتها، وذلك لمنع أي احتمال لعودة دماغ الخنزير إلى الوعي. وقد حافظ الباحثون على الأدمغة حية لفترات وصلت إلى 36 ساعة قبل إنهاء التجربة. يقول مختص الأخلاقيات الحيوية في جامعة ييل وأحد مؤلفي الدراسة، ستيفن ليثام: "يرجّح عملنا وجود مجال أكبر بكثير مما كان معروفاً من قبل لعكس التلف الناجم عن نقص الأوكسجين".

في 2022، نشر ليثام وزملاؤه ورقة بحثية ثانية في مجلة نيتشر للإعلان عن نجاحهم في تنشيط الكثير من الوظائف في عدة أعضاء، بما فيها الدماغ والقلب، وذلك في خنازير كاملة الجسم، وبعد قتلها بساعة كاملة. دامت التجربة فترة ست ساعات، وأكد العلماء أن الحيوانات المخدَّرة، التي كانت ميتة من قبل، استعادت نشاط دورتها الدموية، والعديد من الوظائف الخلوية الأساسية.

يقول عالم الأعصاب في كلية الطب في جامعة ييل، والمؤلف الرئيسي لكلتا الدراستين اللتين أُجريتا على الخنازير، نيناد سيستان: "ما أظهرته هذه الدراسات هو أن الحد الفاصل بين الحياة والموت ليس بالوضوح الذي كنا نظنه". فالموت "يستغرق فترة أطول مما كنا نعتقد، ومن الممكن، على الأقل، إيقاف بعض العمليات وعكس تأثيرها".

تشير مجموعة من الدراسات التي أُجرِيت على البشر أيضاً إلى أن الدماغ أكثر قدرة مما كنا نعتقد على تحمل نقص الأوكسجين بعد توقف القلب عن الخفقان. يقول كوش: "عند حرمان الدماغ من الأوكسجين اللازم للحفاظ على الحياة، تشهد الإشارات الكهربائية فيه، على نحو يتناقض مع المتوقع، زيادة حادة في نشاطها. ويدخل الدماغ في حالة من النشاط الشديد لبضع دقائق على الأقل لأسباب نجهلها حتى الآن".

اقرأ أيضاً: تقرير جديد يربط بين ارتفاع نسبة الوفيات المبكرة والتغير المناخي

في دراسة نُشِرت في سبتمبر/أيلول في مجلة "ريساسيتيشن" (Resuscitation)، جمع بارنيا وزملاؤه بيانات الأوكسجين والنشاط الكهربائي من 85 مريضاً تعرضوا لتوقف القلب في أثناء وجودهم في المستشفى. في البداية، توقف النشاط الدماغي لدى معظم المرضى على شاشات أجهزة التخطيط الدماغي الكهربائي، لكن النشاط الكهربائي لدى 40% منهم تقريباً عاد إلى مستوى شبه طبيعي على نحو متقطع في أدمغتهم خلال فترة تصل إلى 60 دقيقة بعد الإنعاش.

وبالمثل، في دراسة منشورة في مجلة "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" (Proceedings of the National Academy of Sciences) في مايو/أيار، ذكرت بورجيغين وزملاؤها رصد لحظات من الارتفاع الحاد في النشاط الدماغي لدى مريضين في حالة من الغيبوبة بعد فصلهما عن جهاز التنفس الاصطناعي. وقد ظهرت إشارات النشاط الدماغي الكهربائي قبل موت المريضين مباشرة، وكانت تحمل دلائل الوعي جميعها، وفقاً لبورجيغين. وعلى حين لا يزال الكثير من الأسئلة دون إجابات، تُثير هذه النتائج أسئلة محيرة حول عملية الموت وآليات الوعي.

الحياة بعد الموت

تقول بورجيغين إن زيادة معلومات العلماء حول آليات عملية الموت تزيد من فرص تطوير "أساليب إنقاذ أكثر منهجية". وتُضيف أن هذا المجال من الدراسة يمكن أن يؤدي، في أفضل الحالات، إلى "احتمال إعادة صياغة الممارسات الطبية، وإنقاذ الكثير من الأرواح".

بطبيعة الحال، سينتهي المطاف بكل شخص إلى الموت، وسيصل إلى مرحلة يستحيل فيها إنقاذه. لكن وضع تصور أدق حول عملية الموت يمكن أن يسمح للأطباء بإنقاذ بعض الأشخاص الذين كانوا يتمتعون بصحة جيدة، والذين تعرضوا إلى حادث غير متوقع، وما زالت أجسامهم بحالة جيدة. ومن الأمثلة على هذه الحالات، الأشخاص المصابون بنوبات قلبية، أو الذين تعرضوا إلى فقدان مميت للدم، أو الاختناق أو الغرق. إن وفاة الكثير من هؤلاء الأشخاص دون إنقاذهم تعبّر ببساطة عن "عجز في توزيع الموارد على النحو المناسب، أو نقص في المعرفة الطبية، أو انعدام المبادرة الرامية إلى إنعاشهم".

وتأمل بورجيغين في أن تتمكن يوماً ما من فهم سير عملية الموت منذ بدايتها "ثانية تلو الأخرى". وتقول إن هذه الاكتشافات لن تمثّل مساهمة كبيرة في تقدم الطب وحسب، بل ستؤدي أيضاً إلى "إعادة النظر في فهمنا لوظائف الدماغ، وإحداث ثورة في هذا المجال".

يقول سيستان إنه وزملاءه يعملون، على نحو مماثل، على إجراء دراسات لاحقة سعياً إلى "تحسين واستكمال التكنولوجيا" التي استخدموها لتنشيط الوظائف الاستقلابية في أدمغة الخنازير وغيرها من الأعضاء. يمكن أن يؤدي هذا المجال البحثي في نهاية المطاف إلى تطوير تكنولوجيات قادرة على عكس التلف –إلى حد ما بطبيعة الحال- الناجم عن الحرمان من الأوكسجين في الدماغ وغيره من الأعضاء لدى الأشخاص الذين توقفت قلوبهم عن الخفقان. وإذا نجحت هذه الطريقة، فمن الممكن أن تؤدي أيضاً إلى توسيع مجموعة متبرعي الأعضاء، كما يُضيف سيستان، وذلك من خلال إطالة المهلة المتاحة أمام الأطباء لإزالة الأعضاء من الأشخاص المتوفين على نحو نهائي.

اقرأ أيضاً: الإنسان المعزز بالتكنولوجيا: مستقبل التطور البشري

يؤكد سيستان أن هذه التطورات، في حال أصبحت حقيقة واقعة، ستستغرق عدة سنوات من الأبحاث. ويقول: "من المهم ألّا نبالغ في وعودنا، لكن هذا لا يعني أنه ليست لدينا رؤية للمستقبل".

في هذه الأثناء، لا شك في أن الدراسات المتواصلة التي يجريها الباحثون على عملية الموت ستؤدي إلى نتائج لا تنطبق على تصورنا الحالي حول الموت، ما يؤدي إلى الكثير من التغيرات في العلم وغيره من مجالات المجتمع، بدءاً بالمجالات التكنولوجيا وصولاً إلى المجال القانوني. وكما يقول بارنيا: "لا يمكن حصر مسألة الموت بعلم الأعصاب. فهي تعنينا جميعاً".