تعرف إلى العظماء الذين وقفوا وراء صناعة الرقاقات الإلكترونية

11 دقيقة
تعرف إلى العظماء الذين وقفوا وراء صناعة الرقاقات الإلكترونية
رقاقة من السيليكون تحت شُبيكة، وهي نوع خاص من الأقنعة الضوئية التي تحمل أنماطاً من الخطوط والتصاميم المستخدمة في تصنيع الدارات المتكاملة. حقوق الصورة: أيه إس إم إل
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عندما نتحدث عن الحوسبة في الوقت الحالي، فإننا نميلُ إلى الحديث عن البرمجيات والمهندسين الذين يكتبونها. ولكن، من المحال تحقيق التقدُّم دون المكونات المادية والعلوم الفيزيائية التي أتاحت تصميمها، باختصاصات مثل البصريات وعلوم المواد والهندسة الميكانيكية. وبفضل التطورات في هذه المجالات، تمكنّا من تصنيع الرقاقات التي تكمن داخلها واحدات وأصفار العالم الرقمي جميعها. لولا هذه الرقاقات، لكانت الحوسبة العصرية مستحيلة.

تعود جذور عملية طباعة أنصاف النواقل طباعة حجرية، وهي عملية التصنيع المستخدمة في إنتاج الرقاقات الحاسوبية، إلى سبعين عاماً من الزمن. وفي الواقع، فإن قصة نشوء هذه التكنولوجيا بسيطة بدرجة تضاهي درجة تعقيدها اليوم؛ فقد ظهرت في منتصف خمسينيات القرن الماضي، عندما قَلَب الفيزيائي جاي لاثروب عدسة مجهره رأساً على عقب.

لاثروب وابتكاره الطباعة الحجرية

فارق لاثروب الحياة في العام الماضي عن 95 عاماً، ولا يذكره أحد حالياً إلّا فيما ندر، لكن عملية الطباعة الحجرية التي ابتكرها مع شريكه في المختبر، ونالت براءة اختراع في 1957، أدّت إلى تغيير العالم بأسره. أدّت التحسينات المستمرة في الطرق الطباعية الحجرية إلى إنتاج دارات أصغر على نحو متواصل، وقدرات حاسوبية بمستويات لم يكن أحد ليتخيلها من قبل، ما أحدث تحولات جذرية في صناعات كاملة، إضافة إلى حياتنا اليومية.

لاثروب واقفاً في حقل بجانب حصان
أمضى جاي لاثروب فصول الصيف على مدار عقدي السبعينيات والثمانينيات وهو يعمل مع صديقه جاك كيلبي على التكنولوجيات الشمسية. مصدر الصورة: مكتبات جامعة ساوثرن ميثوديست

أصبحت عملية الطباعة الحجرية اليوم مجالاً ضخماً، ولكن بهامش صغير للخطأ. الشركة الهولندية أيه إس إم إل لطباعة مواد أنصاف النواقل (ASML) الرائدة على مستوى العالم، هي أيضاً أكبر شركة تكنولوجية في أوروبا من حيث القيمة السوقية. تعتمد أدوات الطباعة الحجرية التي تنتجها هذه الشركة على مرايا تتميز بسطوح مستوية ذات استواء لا يضاهى على مستوى العالم، وأحد أقوى أجهزة الليزر التجارية، وانفجار أكثر سخونة بكثير من سطح الشمس، وذلك لطباعة أشكال صغيرة للغاية على السيليكون بمقاسات لا تتجاوز بضعة نانومترات. وتُتيح هذه الدقة على مستوى النانومتر بدورها إنتاج رقاقات تحتوي على العشرات من المليارات من الترانزستورات. من المرجح أنك تعتمد على رقاقات مصنوعة باستخدام أدوات الطباعة الحجرية الفائقة التطور هذه، فهذه الرقاقات موجودة في الهواتف والحواسيب ومراكز البيانات التي تعالج بياناتك تخزنها.

اقرأ أيضاً: ما مصير حوسبة الحمض النووي اليوم وغيرها من بدائل السيليكون؟

من بين جميع الآلات المذهلة المستخدمة في تصنيع الرقاقات، تحتل أدوات الطباعة الحجرية موقع الصدارة من حيث الأهمية، والتعقيد أيضاً؛ فهي تتضمن مئات الآلاف من العناصر والمكونات، وتتطلب استثمارات بقيمة مليارات الدولارات. لكن هذه الأدوات ليست مجرد محطّ للتنافس التجاري والإعجاب العلمي، فهي تشغل مركز التنافس الجيوسياسي للسيطرة على مستقبل قدرات الحوسبة. يعتمد مسار الحوسبة في المستقبل على تطور صناعة الطباعة الحجرية، والكفاح من أجل إنتاج أدوات طباعة حجرية أكثر دقة من ذي قبل. يشير تاريخ تطور التكنولوجيا إلى أن أي تطورات مستقبلية ستعتمد على زيادة تعقيد الآلات وزيادة دقتها، وحتى توسيع انتشار سلاسل التوريد وزيادة امتدادها، لإنتاج العناصر المتخصصة المطلوبة. ستؤثّر سرعة تطوير الأنظمة والمكونات الجديدة للطباعة الحجرية -وهوية الشركات والبلدان التي ستتمكن من تصنيعها- في تطور الحوسبة، بل وأيضاً على توازن النفوذ والأرباح ضمن صناعة التكنولوجيا.

قد تبدو فكرة الأصل المتواضع للصناعات على مستوى النانومتر في عدسة مجهر لاثروب المقلوبة غير قابلة للتصديق، ولكن صناعة الطباعة الحجرية حققت تقدماً سريعاً؛ فقد أتاحت للرقاقات اتباع قانون مور -أي فكرة تضاعُف عدد الترانزستورات في الدارات المتكاملة كل سنتين تقريباً- وتحديد وتيرة هذا القانون.

ابتكر لاثروب العملية في الخمسينيات، عندما كانت الحواسيب تعتمد على الأنابيب المفرغة، أو على ترانزستورات ضخمة للغاية لدرجة أنها كانت مرئية للعين المجردة، ما أتاح تصنيعها بسهولة دون الحاجة إلى بناء صنف جديد بالكامل من الأدوات.

لم يكن لاثروب يحاول إحداث ثورة في الحوسبة، ويستذكر لاحقاً أنه لم يكن لديه “أي فكرة عن الحواسيب”. وبما أنه كان يعمل مهندساً في مختبر دايموند لصمامات إشعال الذخائر (Army’s Diamond Ordnance Fuze Lab) التابع للجيش الأميركي في منتصف الخمسينيات، كان مكلفاً بتصميم صمام إشعال مستشعر للمسافة يمكن تركيبه ضمن قذيفة هاون بقطر عدة سنتيمترات وحسب. كانت إحدى القطع في صمام الإشعال بحاجة إلى ترانزستور، ولكن القذيفة كانت صغيرة للغاية لدرجة تجعل وضع الترانزستورات الحالية داخلها أمراً صعباً للغاية.

في ذلك الوقت، كان تصنيع الترانزستورات في مراحله الأولية. وكانت الترانزستورات مستخدمة للتضخيم في أجهزة الراديو، على حين بدأ استخدام الترانزستورات الإفرادية في أجهزة الحواسيب التي يبلغ حجمها حجم غرف بأكملها. كان مختبر صمامات الإشعال يحتوي على بعض التجهيزات لصنع الترانزستورات، مثل أجهزة إنماء البلورات وأفران الانتشار، إلّا أنه حتى في مختبر متطور لتصميم الأسلحة، كان من الضروري تطوير الكثير من المواد والأدوات المطلوبة لتصنيعها من نقطة الصفر.

اقرأ أيضاً: مكون آخر “مفقود” قد يحدث ثورة في عالم الإلكترونيات

كانت أولى تلك الترانزستورات مصنوعة من كتلة من عنصر الجرمانيوم الكيميائي تعلوها طبقات من مواد مختلفة، بشكلٍ يشبه صخرة صحراوية مسطحة. كانت عملية صنع تلك الكتل المسطحة من المواد تبدأ بتغطية جزء من الجرمانيوم بقطرة من الشمع. وبعد ذلك، كانت توضع مادة كيميائية تزيل الجرمانيوم الذي لم يكن مغطى بالشمع. وعند إزالة الشمع، كان يظهر الجرمانيوم الموجود أسفله فقط، مرتكزاً على صفيحة معدنية. كان هذا النظام ناجحاً بما يكفي للترانزستورات الكبيرة، ولكن تصغيرها كان شبه مستحيل. فقد كان الشمع ينتشر ويسيل على نحو لا يمكن توقعه، ما يقلل من دقة عملية إزالة الجرمانيوم. اكتشف لاثروب وزميله في المختبر، جيم نول، أن مواصلة عملية تصميم صمام إشعال مستشعر للمسافة كانت مستحيلة بسبب مشكلات الشمع السائل.

أمضى لاثروب عدة سنوات وهو ينظر في المجاهر التي تجعل الأشياء الصغيرة تبدو كبيرة. وفي خضم حيرته حول كيفية تصغير الترانزستورات، تساءل مع نول بشأن إمكانية استخدام العناصر البصرية للمجهر، بعد قلبها، لتصغير شيء كبير، مثل مخطط الترانزستور. ولاكتشاف الإجابة، جلبا من شركة الكاميرات إيستمان كوداك (Eastman Kodak) مادة كيميائية تُسمّى “المقاوم الضوئي” (photoresist)، وذلك لتغطية قطعة من الجرمانيوم. يتفاعل الضوء مع المقاوم الضوئي، فيزيد من صلابته أو يزيد من ضعفه. استفاد لاثروب من هذه الميزة وصمم “قناعاً” على شكل صخرة مسطحة، ووضعه على مجهر بعدسات مقلوبة. كان الضوء المار من فتحات القناع يتقلص بسبب عدسة المجهر، ويسلَّط على مواد المقاومة الضوئية الكيميائية. وكانت تلك المواد الكيميائية تتصلب في المواضع التي يصيبها الضوء. أمّا المواضع المحجوبة بالقناع، فقد كانت قابلة للإزالة بالغسل، ما يترك شكلاً دقيقاً ومصغراً لصخرة مسطحة من الجرمانيوم. وهكذا، ابتُكِرت طريقة لتصنيع الترانزستورات المصغرة.

أطلق لاثروب على العملية اسم الطباعة الحجرية الضوئية -أو الطباعة بالضوء- وقدّم مع نول طلباً للحصول على براءة اختراع لهذه الطريقة. قدّم لاثروب مع نول ورقة بحثية حول الموضوع في اللقاء السنوي الدولي حول الأجهزة الإلكترونية في 1957، وقدّم له الجيش مبلغ 25,000 دولار مكافأة لقاء اختراعه هذا. اشترى لاثروب لعائلته سيارة جديدة بهذا المال.

في خضم الحرب الباردة، كانت سوق صمامات إشعال الهاون في حالة نمو، ولكن عملية الطباعة الحجرية التي ابتكرها لاثروب بدأت بالانتشار، لأن الشركات التي تنتج الترانزستورات للإلكترونيات المدنية أدركت التحول الكبير الذي يمكن أن تحدثه هذه الطريقة. لم تسمح طريقة الطباعة الحجرية بإنتاج ترانزستورات بدقة غير مسبوقة وحسب، بل فتحت المجال أيضاً أمام مواصلة عملية التصغير. أدركت الشركتان اللتان كانتا تحتلان صدارة سباق الترانزستورات التجارية؛ شركة فيرتشايلد سيميكوندكتور (Fairchild Semiconductor) وتكساس إنسترومنتس (Texas Instruments)- النتائج المحتملة منذ البداية. لقد كانت الطباعة الحجرية الأداة المطلوبة لتصنيع الترانزستورات بالملايين، وتحويلها إلى سلعة صالحة للأسواق الكبرى.

اقرأ أيضاً: أكبر شريحة إلكترونية في العالم: أكبر من الآيباد ويمكنها المساعدة في تدريب الذكاء الاصطناعي

الرسم بالضوء

كان أحد مؤسسي فيرتشايلد، روبرت نويس، يدرس مع لاثروب عندما كانا طالبي دكتوراة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وكان كلاهما يمضي عطلات نهاية الأسبوع في مرحلة الدراسات العليا في رحلات المشي الطويل في جبال ولاية نيوهامبشير، كما بقيا على تواصل بعد التخرج. وفي فيرتشايلد، سعى نويس بسرعة لتوظيف نول، زميل لاثروب في المختبر، وقاد عمل الشركة في مجال الطباعة الحجرية إلى تزويد جهازه الخاص بمجموعة من عدسات الكاميرا التي اشتراها من متجر تصوير في منطقة خليج سان فرانسيسكو بمقاس 20 مم.

وفي هذه الأثناء، استلم لاثروب عملاً في الشركة المنافسة لفيرتشايلد، تكساس إنسترومنتس، حيث كان يقود سيارته الجديدة باتجاه مدينة دالاس. وبدأ عمله في الشركة في الوقت نفسه الذي كان فيه زميله الجديد وصديقه لاحقاً مدى الحياة، جاك كيلبي، على وشك صنع قطعة من مادة نصف ناقلة مع عدة عناصر إلكترونية مبنية عليها أو مدمجة فيها. أصبح من الواضح بعد فترة قصيرة أن إنتاج هذه الدارات المتكاملة على نحو فعّال ممكن فقط باستخدام طريقة الطباعة الحجرية التي ابتكرها لاثروب. مع سعي شركات الرقاقات لتقليص الترانزستورات بهدف حشر المزيد منها على الرقاقات، فقد وفّرت طريقة الطباعة الحجرية الضوئية الدقة المطلوبة للتصنيع على هذا المستوى من الصغر.

اقرأ أيضاً: رحلة تطور الحواسيب منذ ظهورها حتى يومنا هذا

صنعت كل من فيرتشايلد وتكساس إنسترومنتس أولى أدواتها للطباعة الحجرية بنفسها، ولكن تزايد تعقيد هذه الآلات اجتذب أطرافاً أخرى بسرعة. فمع تراجع مقياس الترانزستورات من رتبة السنتيمترات إلى رتبة المليمترات، تزايدت أهمية مجال البصريات الدقيقة. كانت شركة بيركن إلمر (Perkin-Elmer) تعمل في ولاية كونيكتيكت على إنتاج بصريات متخصصة للجيش الأميركي، بدءاً من أجهزة تصويب القنابل وصولاً إلى الأقمار الاصطناعية التجسسية. وفي أواخر الستينيات، أدركت أن الاستفادة من خبراتها في مجال الطباعة الحجرية أمر ممكن أيضاً. طوّرت الشركة جهاز مسح يمكن أن يسلّط شكل القناع على رقاقة السيليكون بتراصف فائق الدقة. ويستطيع الماسح بعد ذلك أن يتحرك على رقاقة السيليكون بصورة مماثلة لآلة النسخ، ويرسم عليها بخطوط من الضوء. أثبتت هذه الأداة قدرتها على تصنيع ترانزستورات بحجم لا يتجاوز الميكرون الواحد، أي واحد على مليون من المتر.

 

روبرت نويس في مكتبه في فيرتشايلد سيميكوندكتور، حاملاً مخططات توضيحية لأنصاف النواقل.
أطلق روبرت نويس -الذي أسهم لاحقاً في تأسيس شركة إنتل (Intel)- برنامج الطباعة الحجرية في فيرتشايلد سيميكوندكتور باستخدام عدسات اشتراها من متجر كاميرات في منطقة خليج سان فرانسيسكو. مصدر الصورة: تيد ستريشينكسي. غيتي إيميدجيز

احتدام المنافسة في مجال صناعة الرقاقات

ولكن هذه الطريقة أصبحت غير عملية مع استمرار تقلص تصاميم الرقاقات. بحلول أواخر السبعينيات، بدأت القفازات الخطوية تحل محل الماسحات، وهي آلات تعمل على تحريك الضوء بخطوات متقطعة على شريحة نصف الناقل. كان التحدي الأساسي في القفاز الخطوي يتمثل في تحريك الضوء بدقة من رتبة الميكرون، بحيث تتراصف كل ومضة مع الرقاقة بصورة مثالية. صممت شركة جي سي أيه (GCA) التي تعمل في بوسطن، والتي بدأت عملها في مجال مناطيد التجسس، أول قفاز خطوي، ويُقال إنها قامت بذلك بناءً على نصيحة أحد المسؤولين التنفيذيين في تكساس إنسترومنتس، موريس تشانغ، الذي شارك لاحقاً في تأسيس شركة تي إس إم سي (TSMC)، وهي حالياً إحدى أكبر شركات صناعة الرقاقات في العالم.

سرعان ما دخلت هذه الشركة المختصة بالطباعة الحجرية في منطقة نيو إنغلاند في منافسة شديدة مع شركات أخرى. مع اقتطاع شركات تصنيع الرقاقات اليابانية حصصاً سوقية كبيرة في مجال إنتاج رقاقات الذاكرة في الثمانينيات، بدأت هذه الشركات تشتري آلات الطباعة الحجرية من شركتي نيكون (Nikon) وكانون (Canon)، وهما اثنتان من الشركات المحلية المنتجة لأدوات الطباعة الحجرية. وفي الفترة نفسها تقريباً، أسست شركة تصنيع الرقاقات الهولندية فيليبس (Philips) وحدة خاصة لتصنيع أدوات الطباعة الحجرية، وأطلقت على الشركة الجديدة اسم أيه إس إم إل.

وعلى الرغم من أن جي سي أيه بقيت في صدارة شركات الطباعة الحجرية الأميركية، فقد واجهت صعوبة كبيرة في التكيُّف مع المنافسة. فقد حققت تكنولوجيا الطباعة الحجرية الخاصة بها اعترافاً واسع النطاق بتفوقها، ولكن الآلات نفسها لم تكن موثوقة بقدر مثيلاتها من الشركات المنافسة اليابانية والهولندية الجديدة. إضافة إلى ذلك، لم تتمكن جي سي أيه من توقع حدوث سلسلة من الدورات التجارية في صناعة الرقاقات في عقد الثمانينيات. وسرعان ما وجدت الشركة نفسها في حالة من العجز المالي. وبحلول نهاية العقد، كانت على شفير الإفلاس. حاول بوب نويس إنقاذ الشركة، وبوصفه مدير سيماتك (Sematech) -وهو معهد مدعوم حكومياً لأبحاث أنصاف النواقل ويهدف إلى إنعاش صناعة الرقاقات في الولايات المتحدة- ضخ الملايين من الدولارات في جي سي أيه. ولكن هذا لم يكن كافياً لإنقاذ الشركة من الاندفاع نحو الانهيار. وهكذا، دخلت صناعة الطباعة الحجرية فترة التسعينيات مُمَثّلة بثلاث شركات: شركتان يابانيتان وشركة هولندية.

اقرأ أيضاً: إليك تفاصيل تكنولوجيا الوشم الإلكتروني التي يتوقع بيل جيتس أن تحل محل الهواتف الذكية

تراجع الصناعة

ترافق تراجع صناعة الطباعة الحجرية في أميركا مع قفزة كبيرة في تعقيد تكنولوجيات هذا المجال. فبحلول الثمانينيات، أصبح الضوء المرئي -الذي يبلغ طول موجته بضع مئات من النانومتر- أقرب ما يكون إلى فرشاة عريضة للغاية ولا تصلح لرسم الترانزستورات الأصغر. ولهذا، انتقلت هذه الصناعة إلى استخدام مواد كيميائية جديدة مثل فلورايد الكريبتون وفلورايد الأرغون للحصول على ضوء عميق فوق البنفسجي، بأطوال موجية صغيرة للغاية قد تصل إلى 193 نانومتراً. وبحلول بداية القرن الجديد، وبعد أن أصبح هذا الضوء فوق البنفسجي نفسه أداة بليدة لا تصلح للاستخدام، صُممت آلات طباعة حجرية قادرة على إطلاق الضوء عبر الماء، ما يزيد حدة زاوية الانكسار، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة الدقة.

وبعد أن أصبحت هذه الطباعة الحجرية “المغمورة” غير كافية لرسم التصاميم الدقيقة على الشريحة، بدأ مختصو الطباعة الحجرية باستخدام الرسم المتعدد، وذلك بوضع عدة طبقات من الطباعة الحجرية فوق بعضها بعضاً لإنتاج تصاميم أكثر دقة على السيليكون، إلّا أنه منذ بداية التسعينيات، كان واضحاً أن تصنيع الترانزستورات التي يتقلص حجمها باستمرار سيتطلب استخدام مصدر ضوئي جديد بطول موجي أصغر. وهكذا، بادرت شركة إنتل، وهي أكبر شركة أميركية لتصنيع الرقاقات، إلى قيادة أول الاستثمارات في الطباعة الحجرية باستخدام الأشعة فوق البنفسجية المتطرفة (EUV)، التي يبلغ طول موجتها 13.5 نانومتراً. وحقق هذا الطول الموجي دقة كافية لرسم تصاميم بأبعاد من المقاس نفسه تقريباً، إلّا أنه من بين جميع شركات الطباعة الحجرية المتبقية في العالم، كانت شركة أيه إس إم إل الوحيدة التي تجرأت ورهنت مستقبلها بهذه التكنولوجيا، التي سيتطلب تطويرها ثلاثة عقود من الزمن والمليارات من الدولارات. كان الكثير من خبراء الصناعة يعتقدون لوقت طويل أن هذه التكنولوجيا لن تنجح على الإطلاق. 

فإنتاج الضوء من النطاق الأقصى فوق البنفسجي على مستوى كافٍ يمثّل أحد أعقد التحديات الهندسية في التاريخ البشري. كانت طريقة أيه إس إم إل تعتمد على ضرب كرة من القصدير يبلغ عرضها 30 نانومتراً مرتين بليزر ثنائي أوكسيد الكربون فائق الاستطاعة. يؤدي هذا إلى تفجير الكرة وتحويلها إلى بلازما بدرجة حرارة تبلغ عدة مئات من الآلاف من الدرجات المئوية. تصدر هذه البلازما الضوء من النطاق الأقصى فوق البنفسجي، الذي يجب تجميعه بعد ذلك بمجموعة من المرايا التي صُنِعت كل منها من العشرات من الطبقات المتناوبة من السيليكون والموليبدينوم بسماكات من رتبة النانومتر، التي تتميز بسطوح مستوية إلى درجة غير مسبوقة. تُثبّت هذه المرايا في وضعيتها على نحو مثالي باستخدام مجموعة من المشغلات الميكانيكية والمستشعرات التي يقول مصنّعوها إنها دقيقة بما يكفي لتوجيه ليزر ليصيب كرة غولف على بُعدٍ يعادل المسافة الفاصلة بين الأرض والقمر.

اقرأ أيضاً: كيف أثّرت أزمة الرقائق الإلكترونية على صناعة السيارات؟

تعقيدات سلاسل التوريد

يتطلب إنتاج هذه العناصر المتخصصة في نظام الضوء من النطاق الأقصى فوق البنفسجي تأسيس سلسلة توريد معقدة على مستوى العالم. فالليزر الفائق الاستطاعة هو من إنتاج شركة ترومف (Trupmf) الألمانية المتخصصة بأدوات القطع الدقيقة. أمّا المرايا فهي من إنتاج شركة زايس (Zeiss)، وهي شركة ألمانية أخرى تتمتع بتاريخ عريق من الخبرة في مجال البصريات. وقد صممت شركة سايمر (Cymer) الحجيرة المخصصة لتفجير كرات القصدير، وهي شركة مقرها في مدينة سان دييغو وقد اشترتها أيه إس إم إل لاحقاً على نحو مباشر. يمكن إنتاج آلة مكونة من مئات الآلاف من القطع فقط بمشاركة عدة شركات موزعة على عدة قارات، حتى لو كان تجميعها حكراً على شركة واحدة.

حالياً، تُستخدم أدوات الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرفة لإنتاج الكثير من الرقاقات الأساسية في الهواتف والحواسيب الشخصية ومراكز البيانات. يتضمن المعالج النموذجي للهاتف الذكي أكثر من 10 مليارات من الترانزستور المجهرية، وكل منها مطبوع بعملية الطباعة الحجرية التي ابتكرها لاثروب. تُستخدم الطباعة الحجرية في صناعة الترانزستورات بأعداد هائلة، ما يجعلها السلعة التصنيعية الأكثر إنتاجاً على نطاق واسع في تاريخ البشرية.

""
حققت آلة القفز الخطوي “مان 4800” من إنتاج جي سي أيه قفزة كبيرة من حيث الدقة في آلات الطباعة الحجرية. لكن الشركة التي كانت تعمل في بوسطن خسرت موقعها في سوق الرقاقات في نهاية المطاف لصالح الشركات المنافسة اليابانية والهولندية. مصدر الصورة: شركة جي سي أيه

ولكن من المرجح أن الأكثر أهمية هو دور تكنولوجيا الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرفة في إنتاج الرقاقات التي تحتاج إليها مراكز البيانات المتطورة. عادة ما تُدَرّب أنظمة الذكاء الاصطناعي الكبيرة على أحدث الرقاقات، ما يعني أنها تعتمد على الترانزستورات الفائقة التطور التي يمكن تصنيعها بفاعلية فقط باستخدام الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرفة. هذا ما جعل الطباعة الحجرية مسألة للتجاذبات الجيوسياسية. ففي إطار محاولات الولايات المتحدة لمنع قطاع الرقاقات في الصين من إنتاج رقاقات فائقة التطور لأغراض الذكاء الاصطناعي، فرضت قيوداً قاسية تعوق حصول بكين على الأدوات الضرورية. تمثّل أنظمة الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرفة أسوأ نقطة ضعف تعاني منها صناعة الرقاقات الصينية. 

دور الطباعة الحجرية في القطاع التكنولوجي العالمي

وتبرز محورية دور الطباعة الحجرية في القطاع التكنولوجي العالمي على نحو جلي في اعتماد قدرات الحوسبة لثاني أكبر اقتصاد في العالم على سبل الحصول على أداة واحدة تنتجها شركة واحدة.

تتسم هذه الصناعة بتعقيد فائق، فهي نتيجة جهود بحثية مكثّفة لشبكة عالمية من الخبراء في البصريات وعلم المواد، إضافة إلى استثمارات بقيمة مليارات الدولارات. ما زالت أدوات الطباعة الحجرية المحلية الصينية متخلفة عن مثيلاتها الأحدث بعدة أجيال، وهي تفتقر إلى عدة مكونات أساسية -مثل المرايا الفائقة الاستواء- إضافة إلى الخبرة في دمج الأنظمة ومكاملتها.

لقد قطعت هذه الصناعة شوطاً طويلاً منذ أن بدأ لاثروب عمله على صمامات الإشعال. ترك لاثروب شركة تكساس إنسترومنتس في 1968 بعد أن عمل هناك عقداً من الزمن، وبدأ يعمل أستاذاً في جامعة كليمسون حيث درس والده من قبل، في مكان لا يبعد كثيراً عن المنطقة التي قطنها والداه لاحقاً. أمضى لاثروب بقية حياته المهنية في التدريس، على الرغم من أنه كان يعود إلى تكساس إنسترومنتس في فصول الصيف خلال السبعينيات والثمانينيات للعمل مع صديقه القديم جاك كيلبي على مشروع غير ناجح لتطوير تكنولوجيا الخلايا الضوئية للحصول على الطاقة الشمسية. تقاعد لاثروب لاحقاً من كليمسون في 1988، بعد أن ترك أثره على الآلاف من طلاب الهندسة الكهربائية.

وفي تلك الأثناء، واصلت عملية الطباعة الحجرية التي ابتكرها تقدمها دون توقف. وخلال بضع سنوات، ستُطلق أيه إس إم إل إصداراً جديداً من تكنولوجيتها للطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرفة، باسم “الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرفة بفتحة عددية واسعة، التي ستُتيح الفحص بدقة أعلى من ذي قبل. وقد بدأ العمل على أبحاث جديدة لتصميم أداة مستقبلية بدقة أعلى من ذلك حتى، على الرغم من أنه ليس من الواضح حتى الآن ما إذا كانت ستصبح يوماً ما آلة عملية أو ملاءمة للتطبيقات التجارية. علينا أن نتفاءل بهذا الأمر، لأن مستقبل قانون مور –والحوسبة المتطورة الممكنة بفضله- يعتمد على ذلك.