مرة أخرى: تم تحطيم الرقم القياسي للناقلية الفائقة في الحرارة المرتفعة

4 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تُعتبر الناقلية الفائقة من الظواهر الفيزيائية الغريبة، وهي التي تتمثل في انعدام المقاومة الكهربائية في بعض المواد عند تبريدها إلى ما تحت حرارة معينة. ويجب تبريد أفضل النواقل الفائقة باستخدام الهيليوم السائل أو النيتروجين السائل للوصول إلى برودة كافية (في أغلب الأحيان بحرارة 250 درجة مئوية تحت الصفر) حتى تعمل. وتمثل الفكرة القائلة بأنه يمكن تحويل مادة ما إلى ناقل فائق في درجة الصفر المئوية -أي ما يسمى بالناقلية الفائقة في حرارة الغرفة (اختصاراً RTSC)- كنزاً ثميناً يحلم الباحثون جميعاً بالتوصل إليه. وإذا اكتُشف شيء كهذا، فسوف يؤدي إلى إطلاق مجموعة متنوعة من التقنيات الجديدة، مثل تحقيق سرعة خارقة في عمل الحواسيب ونقل البيانات.

ويعج تاريخ الناقلية الفائقة بادِّعاءات كاذبة عن التوصل إلى ناقلية فائقة في حرارة مرتفعة في تجارب كان يتبين لاحقاً أن تكرارها مستحيل، وقد وصل الأمر بالعلماء إلى تشبيه هذه الظواهر الكاذبة بالأطباق الطائرة عن طريق إطلاق اسم ساخر عليها، وهو: الأجسام فائقة الناقلية غير المحدَّدة، أو اختصاراً USO.

ولهذا يجب التعامل بالكثير من الحذر مع أي ادعاء بتحقيق الناقلية الفائقة في حرارة مرتفعة، غير أن الأخبار الحديثة التي تشير إلى تحطيم الرقم القياسي في الناقلية الفائقة في حرارة مرتفعة تستحق النظر إليها بمزيد من التفصيل.

تم إجراء هذا البحث في مختبر ميخائيل إيريميتس وزملائه في معهد ماكس بلانك للكيمياء في ماينز بألمانيا، ويقول إيريميتس وزملاؤه إنهم تمكنوا من رصد الناقلية الفائقة في هيدريد اللانثانوم (LaH10) في حرارة هائلة تساوي 250 كلفن (23 درجة مئوية تحت الصفر).

هذه الحرارة أعلى من الحرارة الحالية في القطب الشمالي. يقول الباحثون: “تعتبر دراستنا قفزة كبيرة نحو الأمام على طريق الحصول على الناقلية الفائقة في حرارة الغرفة”. وطبعاً لم يحصل الباحثون على هذه الناقلية الفائقة من دون ثمن، حيث يجب أن تكون العينة تحت ضغط هائل يساوي 170 جيجا باسكال، أي ما يساوي تقريباً نصف الضغط في مركز الكرة الأرضية.

ويتمتع إيريميتس بسجل مشرق في هذا المجال؛ حيث تمكن من تحطيم الرقم القياسي السابق للناقلية الفائقة في الحرارة المرتفعة في 2014. وفي ذلك العمل، قام فريقه برصد نشاط فائق الناقلية في كبريت الهيدروجين عند 80 درجة مئوية تحت الصفر (أي أعلى تقريباً بعشر درجات من أية مادة أخرى)، وقد تمكن لاحقاً من رفع هذه الحرارة إلى 70 درجة تحت الصفر، ونشر عمله في مجلة Nature حائزاً على الكثير من الثناء والتقدير.

غير أن المفاجأة التي صعقت الفيزيائيين فعلياً كانت طبيعة المادة الناقلة.

يعرف الباحثون جيداً سبب الناقلية الفائقة في النواقل الفائقة التقليدية، التي تتألف من شبكات صلبة من الأيونات الموجبة التي يغمرها بحر من الإلكترونات. وتتجسد المقاومة الكهربائية بإبطاء حركة الإلكترونات عبر هذه الشبكات بسبب اصطدامها بها، في حين تنشأ الناقلية الفائقة عندما تتبرد الشبكة إلى مرحلة تصبح فيها صلبة بما يكفي للسماح بانتشار الأمواج الصوتية الميكانيكية -أو الفونونات- عبرها، وهذه الأمواج تقوم بتشويه الشبكة أثناء انتشارها، وتستطيع الإلكترونات أن “تركب” على هذا التشوه.

وفي الواقع فإن الإلكترونات ترتبط ببعضها عند انخفاض الحرارة لتشكيل ما يسمى بأزواج كوبر، وتنشأ الناقلية الفائقة من انتقال أزواج كوبر هذه عبر الشبكة. ومع ارتفاع الحرارة، تتفكك هذه الأزواج وتتوقف الناقلية الفائقة، ويحدث هذا التغير عند ما نسميه “الحرارة الحرجة”.

قبل 2014، كانت أعلى حرارة حرجة معروفة بالنسبة لهذا النوع من الناقلية الفائقة تساوي حوالي 40 كلفن (حوالي -230 درجة مئوية تحت الصفر). وبالفعل، كان الكثير من الفيزيائيين يعتقدون أنه يستحيل تحقيق هذا النوع من الناقلية الفائقة عند حرارة أعلى.

وهذا هو السبب الذي أضفى كل هذه الإثارة على إعلان إيريميتس؛ حيث إن كبريت الهيدروجين هو ناقل فائق تقليدي يسلك سلوكاً كان الكثيرون يعتقدون أنه مستحيل. ومن الجدير بالذكر أن الفيزيائيين اكتشفوا في 1986 نمطاً مختلفاً تماماً من الناقلية الفائقة في المواد السيراميكية عند 180 كلفن (90 درجة مئوية تحت الصفر). غير أنها ما زالت غامضة، ولم يتوصل العلماء إلى نتائج تذكر في زيادة هذه الحرارة.

وقد أطلق اكتشاف إيميريتس سباقاً نظرياً محموماً لتفسير كيفية حدوث الناقلية الفائقة، كما أجمع أغلب العلماء في نهاية المطاف على أنه في حالة كبريت الهيدروجين، تقوم أيونات الهيدروجين بتشكيل شبكة تنقل أزواج كوبر دون مقاومة عندما تنخفض الحرارة تحت الحد الحرج.

ويمكن أن يحدث هذا عند حرارة مرتفعة بسبب الخفة الفائقة للهيدروجين، وهو ما يعني إمكانية اهتزاز الشبكة بسرعة عالية، وبالتالي عند حرارة مرتفعة. ولكن يجب أن تبقى الشبكة ثابتة في مكانها أيضاً، وذلك لمنع الاهتزازات من تمزيقها، ولهذا لا تنجح الناقلية الفائقة إلا تحت ضغط مرتفع.

ومنذ ذلك الحين، أُجريت الكثير من الأعمال النظرية والحاسوبية في محاولة لتوقع المواد الأخرى التي يمكن أن تنشأ فيها الناقلية الفائقة بنفس الطريقة عند حرارة مرتفعة. وكان هيدريد اللانثانوم من أبرز المواد المرشحة، وهو المادة التي كان إيريميتس وفريقه يعملون عليها.

ويعتبر اكتشاف الناقلية الفائقة في هذه المادة عند 250 كلفن (-23 درجة مئوية) نصراً كبيراً، ليس لإيريميتس وزملائه وحسب، بل أيضاً للطرائق النظرية التي توقعت هذا الأمر. يقول الباحثون: “لقد حققنا قفزة كبيرة من 203 كلفن إلى 50 كلفن (من -70 إلى -230 درجة مئوية)، وهو ما يشير إلى إمكانية حقيقية لتحقيق الناقلية الفائقة في حرارة الغرفة (أي 273 كلفن أو صفر درجة مئوية) تحت ضغوط مرتفعة في المستقبل القريب”.

غير أن العمل لم ينتهِ بعد، حيث يتطلب إثبات الناقلية الفائقة لدى الفيزيائيين ثلاثة أدلة مختلفة، الدليل الأول هو الانخفاض المميز في المقاومة الكهربائية مع انخفاض درجة الحرارة، وقد حصل إيريميتس على هذا الدليل.

ويتضمن الدليل الثاني استبدال العناصر في العينة بنظائر أثقل، مما يجعل الشبكة تهتز بوتيرة مختلفة ويغير من الحرارة الحرجة. وقد حصل إيريميتس وزملاؤه على هذا الدليل أيضاً، حيث استبدلوا الهيدروجين في العينات بالديوتيريوم، ورأوا ان الحرارة الحرجة انخفضت إلى 168 كلفن، كما هو متوقع.

أما الدليل الثالث فهو يسمى بأثر ميسنر، الذي يقول إن الناقل الفائق يجب أن يطرد أي حقل مغناطيسي. وهنا واجه إيريميتس وزملاؤه بعض المشاكل؛ حيث إن العينات كانت صغيرة جداً، ولا يتجاوز عرضها بضعة ميكرو مترات، كما أنها موجودة داخل ملزمة عالية الضغط من الخلايا الماسية، ولهذا لم يتمكن الباحثون حتى الآن من قياس هذه الميزة بشكل مباشر، على الرغم من وجود بعض الأدلة المغناطيسية الأخرى. وبدون هذا الدليل الأخير، لن ينال هذا البحث البركة الكاملة من الأوساط الفيزيائية، غير أن الفريق يعمل بجد على هذه المسألة.

وأثناء هذا الوقت، يفتح هذا العمل الطريق أمام بعض النواحي الأخرى التي تستحق البحث؛ حيث إن النماذج الحاسوبية تشير إلى أن فوق هيدريدات الإيتريوم قد تنشأ فيها الناقلية الفائقة عند حرارة أعلى من 300 كلفن، وهي حرارة تستحق اسم حرارة الغرفة عن جدارة، وإن كان هذا يتطلب ضغوطاً بقِيَم موجودة في مركز الأرض. وفي المحصلة، يبدو أن النواقل الفائقة في حرارة الغرفة -مهما كان نوعها- أقرب إلى متناولنا مما كنا نعتقد سابقاً. ويبقى أن نجد أفضل طريقة للاستفادة منها.

مرجع: arxiv.org/abs/1812.01561:
الناقلية الفائقة عند 250 كلفن في هيدريد اللانثانوم تحت مستويات عالية من الضغط.