المراقبة في المطارات تكاد تصل إلى مستوى جديد كلياً من السخافة

7 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إذا كنت تظن أن خلع حذائك من أجل التفتيش في المطار هو أمر سيئ، فانتظر ما هو آت.

يبدو القيام برحلة جوية على متن طائرة وكأنه أخطر شيء يمكنك فعله في هذه الأيام. إذ تمضي ساعات مقيداً في أنبوب معدني مع مئات الغرباء القادمين من جميع أنحاء العالم، من دون أي وسيلة لمعرفة أين كانوا أو مع من. وفي ظل هذه الظروف، يمكنك أن تتوقع بعض إجراءات السلامة الإضافية. لا أحد يرغب في الإصابة بالمرض، فأين المشكلة في خسارة شيء من خصوصيتك طالما أنها ستقيك من العدوى؟ تكمن المشكلة في أن المراقبة في المطارات تكاد تصل إلى مستوى جديد كلياً من السخافة.

هذا على الأقل يمثل المنطق الذي بنيت عليه مجموعة إجراءات جديدة بدأ تنفيذها بالفعل في مطارات العالم، أو لا تزال قيد الدراسة. ففي الولايات المتحدة، استعدت إدارة أمن النقل للبدء بالتحقق من حالة المسافرين العامة قبل صعودهم إلى الطائرة. وبدءاً من 8 يونيو/حزيران، طُلب من الواصلين إلى المملكة المتحدة الإفصاح عن العنوان الذي سيخضعون فيه للعزل الذاتي لمدة 14 يوماً، حيث تقوم الشرطة بزيارات مفاجئة للتأكد من التزامهم به. وأطلقت أكثر من 45 دولة برامج ذكية لتعقب أجهزة توضع حول الكاحل قد يُفرض على المسافرين ارتداؤها، أو يُنصحون بها. في حين تكثف المطارات، من ميونيخ إلى سيدني، تجاربها لفحص السمات البيولوجية للمسافرين عند تفقد هوياتهم.

الموازنة بين حقوق المواطنين والصحة العامة

منذ 11 سبتمبر/أيلول، اعتدنا المساومة على خصوصياتنا عند السفر بالطائرة. إنها عملية مفاضلة، فلا أحد يحب أن يتم تصويره بالأشعة السينية أو أن يتحسس عنصر الشرطة جسده أو أن يفتشه، لكن هذا ثمن تعلمنا دفعه مقابل ضمان سلامتنا. وقد يعارض البعض توسيع هذه الإجراءات في سبيل وقايتنا من المرض، على فرض أنها تفي بهذا الغرض فعلاً. لكن خبراء الخصوصية والأوبئة على حد سواء يشككون بفائدة بعض الخطط المقترحة، ويشككون بالجهات التي تتحمل مسؤولية تنفيذها أيضاً. هل الأفضل أن تحتفظ الحكومة ببياناتك إلى الأبد، أم شركة الطيران؟ وإذا لم تكن هذه التدابير مجدية، فلم تتبع إذاً؟

هل الأفضل أن تحتفظ الحكومة ببياناتك إلى الأبد، أم شركة الطيران؟ وإذا لم تكن هذه التدابير مجدية، فلم تتبع إذاً؟

إليك الأمر: ما بين أجهزة تنقية الهواء المماثلة التي تستخدم في المستشفيات، والهواء شديد الجفاف في الطائرة، ستكون البيئة داخل الطائرة التي تحلق في السماء غير مناسبة لاحتضان الفيروس، على الأقل إذا قارناها بتناول العشاء في المطعم أو حضور حفل تعارف أو حتى حضور جلسة تدريب الجوقة مثلاً. لا بد من وجود نسبة خطورة، وخصوصاً في نقطة تجمع المسافرين عند بوابة الصعود إلى الطائرة، لكنها تبدو مماثلة لنسبة الخطورة في الحافلة أو القطار أو أي بيئة مزدحمة أخرى، ولا يبدو أن أياً من هذه البيئات تخضع لتدابير أمنية أشد.

مثلاً، نشرت “مجلة الجمعية الطبية الكندية” (Canadian Medical Association Journal) دراسة جديدة أجريت منذ فترة قريبة جداً، ورد فيها أنه على متن طائرة تحلق في رحلة مدتها 15 ساعة ما بين مدينتي غوانزو الصينية وتورنتو الكندية، كان أكثر من 25 مسافراً يجلسون على مسافة لا تزيد عن مترين من مسافر تظهر عليه أعراض المرض، ولم تثبت إصابة أي منهم بمرض “كوفيد-19” لاحقاً. وعند تعقب 1,100 مسافر ممن كانوا على متن الطائرة مع مصابين بالفيروس، والذين خالط بعضهم نحو 100 ألف شخص آخر، تبين عدم انتقال العدوى إلى أي منهم، وذلك وفقاً لتصريح صدر عن جمعية النقل الجوي الدولي. (من المحتمل أن يكون اثنان من طاقم الطائرة قد أصيبا بالعدوى من أحد هؤلاء المسافرين).

طالما أن نسبة الخطورة في البداية ضئيلة، فقد نتوقع أن تكون التدابير المتبعة فعّالة حقاً، وخصوصاً أنها تنتهك خصوصياتنا. لكن كثيراً من المبادرات المقترحة لا تبدو مجدية في الواقع، ما يثير المخاوف بأنها قد لا تكون سوى استعراض لإمكانات الأمن الصحي التي صممت لتشجيع الناس على العودة للسفر مجدداً. يقول جيف برايس، خبير في أمن الطيران: “يرغب الناس في ذاك الحل البسيط ليشعروا بالاطمئنان بأن كل شيء سيكون على خير ما يرام. حتى وإن كان الحل لا يفيد فعلاً في معالجة المشكلة، وإنما يعطي صورة ظاهرية فحسب”. 

خذ مثلاً فحص الحالة العامة، ففي أوائل شهر مايو/أيار، عارض علماء مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها طلب وزارة الأمن الداخلي بتوفير أجهزة فحص حراري في مطارات البلاد. حيث أرسل مارتن سيترون، مدير الهجرة والحجر الصحي في مراكز مكافحة الأمراض، رسالة إلكترونية لمسؤولي وزارة الأمن الداخلي حصلت عليها صحيفة “يو إس أيه توداي، وصف فيها العملية بأنها “ذات تصميم رديء” ولا تتمتع بأي “احتمال للنجاح في تأدية مهمتها”، وختم الرسالة بقوله: “يرجى التفضل بشطب مراكز مكافحة الأمراض من هذا الدور”.

وفيما يتعلق بتعقب الإصابات بمرض “كوفيد-19″، يقول خبراء الصحة إن أجهزة فحص الحالة العامة وحدها لا تتمتع بالحساسية الكافية لتفي بالغرض، وخصوصاً أن كثيراً من المسافرين المصابين لا تظهر عليهم أي أعراض. كما يمكن أن ينتج ارتفاع حرارة الجسم نتيجة لأخذ علاج السرطان، أو بسبب التهاب في المسالك البولية، أو غير ذلك من العوامل غير المرتبطة بمرض “كوفيد-19” والتي قد يصعب تبرير كثير منها لعنصر الأمن. (كما أنه من الممكن جداً خداع هذه الأجهزة، وإحدى الطرق هي بتناول دواء إيبوبروفين لتخفيض الحرارة الناجمة عن الحمى).

ومع انسحاب مراكز مكافحة الأمراض، لجأت الحكومة الأميركية إلى إدارة أمن النقل كي تؤدي هذه المهمة. وهذه مشكلة بحسب برايس، إذ يقول: “إن وظيفة إدارة أمن النقل الأساسية هي الحفاظ على الأمان في وسائل النقل، وليس الصحة العامة. فهم مدربون على البحث عن الأشياء التي قد تؤذي الطائرة أو التي يمكن استخدامها لإلحاق الضرر بالطائرة أو اختطافها، ولم يتلقوا تدريباً كخبراء صحيين”.

ترافيس لوبلان هو واحد من العضوين الديمقراطيين في مجلس مراقبة الخصوصية والحريات المدنية، وهي وكالة مستقلة ضمن الحكومة الأميركية تعمل على الموازنة بين حقوق المواطنين في الخصوصية والقوانين المصممة لمكافحة الإرهاب. وهو يقول إن المجلس يجري تحقيقاً رقابياً حول استخدام المقاييس الحيوية في أمان الطيران منذ العام الماضي، يركز بصورة أساسية على استخدام تقنيات التعرف على الوجه. كما يقول إنه نظراً لعملهم الحالي، صُدم لمعرفة خبر يقول إن إدارة أمن النقل تفكر بفرض فحص الحالة العامة للمسافرين عن طريق وسائل الإعلام وليس عن طريق الحكومة نفسها. يقول: “نعمل على تطبيق برنامج رقابي ولم يخبرنا أحد بهذا الأمر، تفاجأت بامتلاك إدارة أمن النقل الصلاحيات للقيام به”.

كما يقول ترافيس لوبلان إن هذه قضية حقوق مدنية في كثير من النواحي: “نعلم أن أعمال الرقابة عادة تؤثر على ذوي البشرة الملونة بصورة كبيرة”. أضف إلى ذلك أنه يخشى من أن منع المصابين بمرض “كوفيد-19” من السفر في الطائرة، سواء كانوا ناقلين للعدوى أم لا، سيؤثر بدرجة كبيرة على ذوي البشرة الملونة الذين تزداد احتمالات إصابتهم بالفيروس. وفيما يتعلق بالسفر العادي، قد لا يكون هناك مشكلة في تأخير الرحلة لأسبوع أو نحوه، لكنه سيصبح خطيراً إذا كان عدم السماح للشخص بالسفر سيكلفه فقدان وظيفته. 

يفضل لوبلان أن تتحمل شركات الطيران مسؤولية تنفيذ هذه الإجراءات وغيرها، فذلك قد يسهل على شركات الطيران تشجيع المسافرين للحجز في رحلاتها المختلفة وتقليص احتمالات حرمان المسافرين الأكثر عرضة للخطر من السفر. وأخيراً، يقول: “ليس من المرجح أن تجمع شركات الطيران المعلومات في قاعدة بيانات حكومية ضخمة يمكن لكثير من الوكالات الحكومية الدخول إليها ويتم الاحتفاظ بها إلى الأبد”.

تدابير أخرى للحماية

في حين تعمل بعض شركات الطيران الأميركية على تنفيذ تدابير فحص الحالة العامة للمسافرين بنفسها، كانت شركات أخرى صريحة في التعبير عن رغبتها في أن تتولى الحكومة مسؤولية تنفيذ هذه الإجراءات. ففي اجتماع مع الرئيس دونالد ترامب في شهر مايو/أيار 2020، شجع غاري كيلي، الرئيس التنفيذي لشركة “ساوث ويست أيرلاينز” (Southwest Airlines) على أن يصبح فحص الحالة الصحية جزءاً من أعمال إدارة أمن النقل، حيث قال: “سيكون فحص الحالة العامة، كالذي خضعنا له عند دخولنا إلى البيت الأبيض اليوم، إجراء صائباً إلى جانب تقديم تصريح صحي”. (رفضت شركة ساوث ويست التعليق عندما سُئلت عن وجهة نظر مراكز مكافحة الأمراض التي تقول إن إجراءات فحص الحالة العامة ليست فعّالة).

يقول برايس إنه ليس مفاجئاً أن تسعى شركات الطيران لتحميل كلفة شعور المسافرين بالأمان على جهة أخرى: “عادة، لا ترغب شركات الطيران في تحمل أي مسؤولية تشكل نفقة لا تؤدي إلى جني المال. لكنها مسؤولة بالفعل عن ضمان ألا يصعد أي شخص يشكل خطورة على السلامة أو الأمن أو الصحة على متن الطائرة”.

ثمة تدابير أخرى صممت لحماية الكوادر الأساسية من العاملين بالمطارات من التماس المباشر مع المسافرين. ويمكن لأجهزة فحص السمات البيولوجية كالتي تستخدم في مطارات أستراليا السماح للمسافرين بالتحرك بسهولة عبر بوابة الصعود إلى الطائرة من دون الاقتراب من أي شخص آخر. لكن ثمة مخاوف كبيرة هنا أيضاً، وذلك وفقاً لجاستن بروكمان، مدير خصوصية المستهلك وسياسة التقنيات في الشركة غير الربحية “كونسيومر ريبورتس” (Consumer Reports)، إذ يقول: “يمكن إساءة استخدام معلومات السمات البيولوجية بكثير من الطرق، كما يمكن استخدامها في مجالات أخرى. أشعر بخيبة الأمل بسبب تبني هذه التدابير بسرعة، ولا أعتقد أن الراحة المتزايدة تبرر جمع هذه البيانات شديدة الحساسية”.

وعلى الرغم من تزايد احتمالات أن تصبح إجراءات فحص السمات البيولوجية أمراً لا مفر منه في هذه المرحلة، فقد قاوم المسافرون التعامل مع البرامج الذكية لتعقب السمات الحيوية. وحتى في الدول حيث أصبحت الرقابة هي القاعدة مثل سنغافورة، فإن معدلات الامتثال متدنية بسبب حذر المواطنين في تقديم هذا القدر من المعلومات. لكن فيما يخص الرحلات الدولية التي تكاد تعاود نشاطها، قد تلجأ الدول التي لا تزال خاضعة لإجراءات الحظر الصحي إلى مطالبة المسافرين القادمين إليها بتحميل أحد هذه البرامج إذا كانوا يرغبون في دخول أراضيها.

في الهند مثلاً، يجب أن يُظهر المسافرون للمسؤولين أنهم حاصلين على علامة “آمن” على البرنامج الذكي الوطني لتعقب المخالطة المسمى “آروغيا سيتو” (Aarogya Setu) (ويعني الجسر إلى الصحة باللغة السنسكريتية). وعلى الرغم من أن هذا الإجراء ليس إلزامياً تماماً، فإن المسافر الذي لا يلتزم به قد يخضع إلى إجراءات حظر إضافية إلى جانب مطالبته بتبرير عدم التزامه لمسؤولي المطار. يقول بروكمان إن هذا أمر مقلق، ويضيف: “لا أرغب في أن يكون السفر مرهوناً بمشاركة تنقلاتك الماضية والمتوقعة مع الحكومة. أعتقد أن ذلك لا يمكن تبريره عن بعد في ظل هذه الظروف“.

هذه الإجراءات والتي منها إجراءات المراقبة في المطارات، تثير المخاوف وهي على وضعها الحالي، لكن ما يثير القلق أكثر هو أنها قد تدوم كما دام كثير من إجراءات الأمان التي اتخذت بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، أو على الأقل قد تبقى لفترة طويلة بعد انتهاء صلاحية مبرراتها الأولية.

يقول جاي ستانلي، أحد كبار محللي الشرطة يعمل مع مشروع الاتحاد الأميركي للحريات المدنية في الخطاب والخصوصية والتقنية: “هذا تذكير بسبب عدم رغبتنا في بناء هذه البنى التحتية الأمنية، لأنها بمجرد إعدادها سيصبح توسيعها سهلاً. وسبب عدم رغبتنا ببنية تحتية مخصصة لتعقب الإصابات بمرض “كوفيد-19″ تدوم حتى بعد انتهاء الجائحة، هو أنه سيصبح من السهل اتخاذها ذريعة لتطبيق جميع أنواع وظائف المراقبة والتفتيش”.