ما هي العوامل التي يمكن أن تساهم في صعود السياحة الدائرية؟

6 دقائق
السياحة الدائرية
حقوق الصورة: شترستوك. تعديل إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في مرحلة ما قبل كوفيد، كانت السياحة ما تزال تحتل ركناً أساسياً ومهماً في تطور الاقتصاد الوطني. فقد كان قطاع السفر والسياحة يمثل 10.4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2019، وأسهم بشكل رئيسي في المشهد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. كما أن فوائد السياحة واضحة عندما نأخذ بعين الاعتبار قدرتها على توفير الوظائف، حيث كانت تمثل 10.6% من الوظائف وتساهم بوظيفة واحدة من كل أربع وظائف جديدة في العام 2019، إضافة إلى دورها في تعزيز الثقافة والمجتمعات المحلية. ولكن حجم هذا القطاع يجلب معه أيضاً بعض السلبيات التي لا يمكن أن ننكر وجودها، فهو مسؤول وحده عن حوالي 8% من الانبعاثات الكربونية على مستوى العالم. كما أنه يساهم في استنفاد الموارد الطبيعية، وإنتاج المخلفات، بل وحتى التسبب بتدمير الأنظمة البيئية الطبيعية في بعض الأحيان. 

كيف أثر نمط السياحة الاستهلاكية على تدمير الموارد؟

ومن أهم الأمثلة على ذلك إغلاق خليج مايا في تايلاند -الذي اشتُهر بفضل فيلم “الشاطئ” (The Beach) الذي تم إنتاجه في عام 2000- من 2018 إلى 2021 للسماح لنظامه البيئي بالتعافي والتجدد بعد الضرر الفادح الذي تعرضت له الشعاب المرجانية وبعض المناطق الشاطئية بسبب الفعاليات المستمرة للسياح. وكان من النتائج غير المقصودة لتلك الفعاليات في المواقع السياحية التي تتمتع بالشهرة، والتي صنفتها اليونيسكو كمناطق تراث عالمي على سبيل المثال التآكل الذي أصاب قلعة ماتشو بيتشو أو القلعة الضائعة في البيرو. إن إيجابيات هذا القطاع تسمح له بتعزيز الاقتصاد بشكل عام، غير أن سلبياته تدعو إلى إعادة النظر بصورة شاملة لتحسين أثره البيئي، مع الحفاظ على إيجابياته الاقتصادية، بل وحتى تعزيزها. 

ويهدف الاقتصاد الدائري إلى إعادة تعريف النمو عبر الابتعاد عن النموذج الخطي التقليدي القائم على أخذ الموارد ومن ثم استخدامها وتوليد المخلفات في النهاية. ويعتمد بدلاً من ذلك على منع الآثار البيئية السلبية، مثل الهدر والتلوث، وزيادة فائدة المنتجات والمواد، وتجديد الأنظمة الطبيعية. وإضافة إلى الفوائد البيئية، فإن الانتقال الاقتصادي إلى النموذج الدائري سيؤدي أيضاً إلى اقتصاد أكثر حيوية وأفضل قدرة على التكيف بشكل يشمل جميع من يقعون في نطاقه ويؤمّن لهم الحماية. وبالتالي، فإن إدماج العناصر الدائرية ضمن السفر والسياحة لن يسمح للقطاع بتغيير آثاره السلبية على المجتمعات والبيئة بشكل عام وحسب، بل سيتيح أيضاً تحسين الابتكار وتقوية سلاسل التوريد وزيادة المرونة وتحسين العائدات الإجمالية لجميع المنظمات التي تعمل ضمنه. 

وقد يكون من الأهمية القصوى بمكان أن نركز على القدرات الكامنة للنموذج الدائري نحو تحسين مرونة الاقتصاد، خصوصاً بعد الأثر المدمر لوباء كوفيد على القطاع. فقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي للقطاع بنسبة هائلة تبلغ 49.1% من 2019 إلى 2020، مقترناً بتراجع اقتصادي إجمالي بنسبة 3.7%، وخسارة حوالي 62 مليون وظيفة في كافة أنحاء العالم. وقد عانت شرائح القطاع السياحي الغنية بالأصول من خسائر فادحة على وجه الخصوص، فقد شهدت شركات النقل الجوي تراجعاً في حركة طيران الركاب على مستوى العالم بنسبة تقدر 60% في 2020، مع خسائر في الإيرادات الإجمالية بلغت 372 مليار دولار، ولم تستعد عافيتها حتى الآن. ويمكن للمنظمات ضمن هذا القطاع، سواء أكانت أصولها كثيرة أم قليلة، أن تستفيد من مبادئ الاقتصاد الدائري لتعزيز مرونتها. 

اقرأ أيضاً: كيف يمكن للحكومات أن تحرك الاقتصاد الدائري لتحسين مستقبل العمل؟ 

 كيف يمكن أن تنتقل المؤسسات إلى النموذج الدائري؟

ويمكن للمؤسسات التي تدرس الانتقال إلى النموذج الدائري أن تتفاءل ببدء تجريب واختبار بعض العناصر الدائرية ضمن هذا القطاع مع  تحقيق نتائج رائعة. ويتجلى هذا بوضوح في تراجع الأصول المملوكة، وزيادة مشاركة الأصول لتحسين الفائدة، خصوصاً بالنسبة للمنظمات التي تمتلك الكثير من الأصول. فبعض سلاسل الفنادق، مثل هيلتون، بدأت الانتقال نحو التخفيف من أصولها، وهو أمر لم يخفف من نفقات رأس المال وحسب، بل أتاح لها أيضاً مواجهة آثار كوفيد بشكل أفضل بالتخفيف من الحاجة إلى تخصيص جزء كبير من تكاليف رأس المال لضمان بقاء الشركة. 

وقد بدأ التركيز على هذه النواحي الداخلية والتشغيلية بتحفيز مساعٍ موازية نحو رقمنة القطاع السياحي. فقد ظهرت مقاربات وعمليات جديدة وشركات ناشئة جديدة وأصبحت معروفة جيداً ضمن هذا القطاع، مع مبادرات السياحة الذكية للاتحاد الأوروبي ومنظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، والتي تمثل قدوة في التقدم. لم تقدم عمليات التحول التكنولوجية العميقة في هذا القطاع أي فوائد ملموسة تستحق الذكر، فما زال الواقع الافتراضي والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي مجرد مصطلحات رنانة. ولكن قد يعود هذا إلى أن معظم فرص التحول بعيدة عن نطاق التفاعل المباشر مع تجربة المستهلك. لا يتعلق الأمر بالفنادق المؤتمتة والقائمة على الحلول الروبوتية، بل استخدام الذكاء الاصطناعي للمساعدة في جدولة المواعيد والتنظيم، ما يحسن قدرة النظام البيئي للأطراف المشاركة على تبادل المواد ومشاركتها، وتوقع عمليات الصيانة، وتحسين العمليات اللوجستية، وتحسين التفاوض مع الموردين، وغير ذلك من النواحي ذات الصلة. يعد جانب الاقتصادي التشاركي في التوجه نحو التحول الرقمي والذكي واحداً من أكثر المجالات الفريدة التي حققت توافقاً بين التحول الرقمي والنموذج الدائري في الماضي.

فمحاولة التخفيف من الأصول عن طريق مشاركة الأصول أو حتى المنتجات بوصفها خدمة على مستوى التعامل بين الشركات يمكن استكمالها أيضاً بالمزيد من المبادرات التشغيلية. فالتكنولوجيات مثل تنقيب العمليات والتعلم الآلي وأتمتة العمليات الروبوتية يمكن استخدامها لتحديد مكامن الخلل والهدر في العمليات لتحسينها بشكل أفضل. ولا تقتصر فوائدها على التخفيف من الوقت والجهد والتكاليف، بل تظهر جلية أيضاً في زيادة الدقة والتجاوب، إضافة إلى التخفيف من تكاليف الخوادم الحاسوبية والكهرباء والطباعة. وهو ما يسمح بتقديم الخدمة بشكل أقل تكلفة وأكثر سرعة ودقة، ما يؤدي إلى تحسين هوامش الأرباح لاحقاً. وقد قامت عدة شركات طيران بتنفيذ تحسينات مماثلة، مع القيام بمبادرات عديدة تتضمن استخدام التعلم الآلي لتحسين خدمة تقديم الأطعمة على متن الطائرة بناءً على تفضيلات المسافرين السابقة لتخفيف تكاليف الإنتاج وهدر الطعام. 

اقرأ أيضاً: الابتكار التكنولوجي وأهميته في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية

 أهمية التركيز على الأصول بدل السلع

ولتجنب الوقوع في مشكلة خليج مايا، فإن تحديد وجهات السفر يجب أن يتطور للانتقال من الارتكاز على “السلع” التي يمكن استهلاكها واستغلالها إلى التركيز على “الأصول” التي يتعين حمايتها وتحسينها لتوفير فائدة طويلة الأمد لجميع الأطراف. إضافة إلى ذلك، فقد ركز تقرير المجلس العالمي للسفر والسياحة (WTTC)  على أن 69% من المسافرين كانوا مهتمين بزيارة الأماكن الأقل شهرة، كما أن 72% منهم كانوا يرغبون بدعم المجتمعات المحلية. ولتحقيق هذا الهدف، فقد تغيرت عروض المنتجات لاستبعاد ما يسمى “السياحة المعلبة”، والتي تعتمد على جداول محددة تتضمن نفس الفنادق المعروفة ونفس المواقع السياحية وغير ذلك، وانتقلت إلى الترويج لبرامج الرحلات السياحية الشخصية التي تخفف من الضغط على المواقع السياحية المزدحمة وتبرز مواقع سياحية ثانوية يمكن أن تدعم المجتمعات المحلية وتحسن تجربة المستهلك. 

وللاستعداد للتحول نحو النموذج الدائري وفق صيغة أكثر عمقاً تتجاوز حالات الدراسة الموجودة مسبقاً، يمكن للمؤسسات أن تركز على ثلاث نواحٍ متداخلة: المشتريات وعمليات التشغيل وخدمة العملاء. وتفرض ممارسات المشتريات الدائرية دمج مبادئ الاستدامة ومؤشرات الأداء الأساسية في العقود، وتحديد الفرص للتشارك في الأصول، وذلك للاستفادة من عناصر “الاقتصاد التشاركي”. ويمكن بالاعتماد على الاقتصاد التشاركي إتاحة الاستفادة من المبادرات مثل مبادرة مشاركة المنازل أو تبادل المنازل (وتعتبر شركة “آير بي إن بي” (Airbnb) من أشهر مزودي الخدمة في هذا المجال) والسياحة التي تعتمد على المجتمعات المحلية (مثل الإقامة في المنازل الريفية أو تناول وجبات الطعام مع المواطنين)، والتي يمكن أيضاً كفائدة إضافية أن تساهم في تعزيز المجتمعات المحلية.

أما من الناحية التشغيلية، فيجب على المؤسسات أن تركز على تحسين العمليات للتخفيف من الهدر والعيوب والضعف في إجراءات العمل الداخلية بعد إجراء التحسينات على المشتريات، وذلك لتعزيز القدرة على تقديم الخدمة بشكل مباشر للعملاء. وهذا يتطلب تنسيقاً كاملاً بين الأشخاص والعمليات والتكنولوجيات لتحقيق تشغيل أكثر سلاسة، وتحسين الابتكار وزيادة تمكين الأشخاص، والتكامل الرقمي وصولاً إلى تقديم الخدمات المطلوبة بشكل أكثر فعالية. 

اقرأ أيضاً: مخاطر انتشار كورونا على الاقتصاد والأمن الغذائي

السياحة الدائرية: نحو المزيد من الاستدامة

وأخيراً، من شأن تقديم الخدمة وفق النموذج الدائري الاستفادة من العمليات المحسنة لتقديم عروض شخصية وصديقة للبيئة إلى العملاء. ويجب تهيئة الظروف للموظفين الذين يتعاملون بصورة مباشرة مع العملاء لاقتراح خدمات شخصية وبرامج رحلات سياحية مبتكرة للعملاء من أجل تحسين استخدام أصول الشركة، والتخفيف من الضغط على الأنظمة البيئية الطبيعية، وتحسين جودة خدمة العملاء. إضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي تخصيص الخدمات حسب الطلبات الشخصية للعملاء إلى بناء سلسلة من الخدمات الجانبية الجاهزة عند الطلب. فعلى سبيل المثال، يمكن لمزودي خدمات السفر أن يقدموا للعملاء عدة خيارات، تتضمن استئجار وسائل نقل خاصة، أو تشاركية، أو استخدام وسائل النقل العام (ويمكن للمزود أن يساهم هنا في التنظيم) بدلاً من توفير خدمة النقل الخاص المعتادة التي قد لا يحتاج إليها العميل، والتي يمكن أن تزيد الضغط اللوجستي على المؤسسة وتزيد من تكاليف العمليات، والتي يمكن أيضاً أن تزيد من الأثر البيئي السلبي للشركة.  

يمكن لقطاع السياحة الذكي وقطاع السياحة الدائري أن يحققا الانسجام والتكامل. ومع سعي البلدان لتطوير مزايا اقتصادية جديدة في حقبة ما بعد كوفيد، فإن العمل على الاستراتيجيات التي تجمع بين النموذج الذكي والنموذج الدائري ما زال أحد أهم المجالات الواعدة للتجربة. وقد بدأت المؤسسات بالعمل منذ الآن، ويجب على شبكات الصناعة والجهات الفاعلة الكبيرة أن تساعد على صياغة البيئة التنظيمية والنموذج الاقتصادي العام لدفع الاستثمارات نحو إحداث التحول في قطاع السياحة حتى يصبح قوة فاعلة في النمو المستدام والأخضر.