ابتكار جديد لعلاج فقر الدم المنجلي باستخدام تقنية كريسبر

7 دقيقة
ابتكار جديد لعلاج فقر الدم المنجلي باستخدام تقنية كريسبر
مصدر الصورة: ستيفاني آرنيت. إم آي تي تي آر. إنفاتو
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

حصلت الشركة مؤخراً على الموافقات اللازمة لبيع أول علاج يعتمد على التعديل الجيني في التاريخ لعلاج مرض فقر الدم المنجلي، وقد بدأت منذ الآن البحث عن دواء عادي يمكن أن يحل محل هذا العلاج.

شكّلت شركة فيرتيكس فارماسوتيكالز (Vertex Pharmaceuticals) فريقاً يضم 50 شخصاً للعمل على “صنع حبة دواء لا تعتمد على التعديل الجيني على الإطلاق”، على حد تعبير مدير البحوث في شركة الأدوية التي تعمل في مدينة بوسطن، ديفيد ألتشولر.

ويُضيف قائلاً: “نحن نحاول التفوق على أنفسنا على صعيد الابتكارات”.

عيوب تتكشف في العلاجات التي تعتمد على كريسبر

حصلت فيرتيكس على الموافقات الرسمية في الولايات المتحدة لبيع أول علاج يعتمد على تقنية كريسبر لتعديل الجينات في 8 ديسمبر/كانون الأول. تطلب تطوير العلاج ثماني سنوات، وبتكلفة هائلة، وقد تجاوز حجم الوثائق الرسمية التي قدمتها الشركة إلى الحكومة خلال عملية الموافقة، المليون صفحة.

مع ذلك، وبعد أن بدأ عصر كريسبر في الطب، بدأت عدة قيود تعيب هذه التقنية تتجلى منذ الآن.

فالعلاج الذي أطلقت الشركة عليه اسم كاسغيفي (Casgevy) يتسبب بالكثير من المعاناة للمرضى، كما أنه مكلف للغاية، حيث يتعين على المرضى قضاء عدة أسابيع في المستشفى حتى يتمكن الأطباء من إزالة الخلايا الجذعية من نخاع العظم (وهي التي تصنع الدم)، وتعديلها جينياً، ثم إعادتها بعد ذلك إلى الجسم. وتقول الشركة إن العلاج سيكلف 2.2 مليون دولار، إضافة إلى تكاليف المستشفى.

أثبتت الشركة أن العلاج الجيني يمكن أن يكون حلاً دائماً بالنسبة للأشخاص الذين يعانون أسوأ أعراض فقر الدم المنجلي. يبلغ عدد هؤلاء الأشخاص في الولايات المتحدة 16,000 شخص تقريباً، ويعانون نوبات أوجاع متكررة عندما تتسبب خلايا الدم الحمراء ذات الشكل المشوه بسدّ الأوعية الدموية في أجسادهم.

لكن ليس من الواضح ما عدد الأميركيين الذين سيلجؤون إلى التعديل الجيني. وفي مقال رأي في مجلة “إم آي تي تكنولوجي ريفيو”، قال أحد المرضى الذين حصلوا على العلاج، جيمي أولاغير، إن عملية استبدال نخاع العظم كانت “رحلة عصيبة دامت شهراً كاملاً”، وهي تمثّل عائقاً يقف في طريق الراغبين في الحصول على العلاج.

واجهت عدة علاجات جينية سابقة الإخفاق في الأسواق بسبب ارتفاع الأسعار وقلة عدد المرضى.

اقرأ أيضاً: الطرح المرحلي للأطفال المعدّلين جينياً قد يبدأ بمرض فقر الدم المنجلي

يقول أحد الشركاء في شركة فلاغشيب بايونيرينغ (Flagship Pioneering) الذي يقود مشاريع التكنولوجيا الحيوية، لكنه لم يشارك في تطوير علاج فقر الدم المنجلي، جيفري فون مالتزان: “يمثّل هذا العلاج معجزة، لكنه في الوقت نفسه يحمل سلبية تمنع استخدامه على نطاقٍ واسع. إنها ثنائية شائعة”.

علاجات معجزة لكن بتكاليف باهظة

تمثّل هذه السلبيات السبب الذي يُتيح لحبة دواء قادرة على تخفيف أعراض فقر الدم المنجلي اكتساح علاج كريسبر، في حال تطويرها. إضافة إلى هذا، يمكن لهذه الحبة العلاجية أن تحل معضلة أخلاقية توشك على الظهور. فلم تعلن فيرتيكس حتى الآن أي خطط لتقديم علاجها الذي يعتمد على التعديل الجيني في البلدان التي تشهد أعلى انتشار لفقر الدم المنجلي.

تمثّل مجموعة واسعة من الدول ذات الدخل المنخفض في وسط إفريقيا، بما في ذلك نيجيريا وغانا، 80% من حالات فقر الدم المنجلي، لكن هذه البلدان، وفقاً لباحثين أميركيين، تفتقر إلى المستشفيات والخبرات الطبية والأموال اللازمة لتطبيق هذا العلاج المعقد.

“من أكثر الأسئلة التي أسمعها السؤال التالي: كيف سنقدّم هذا العلاج إلى بقية أنحاء العالم؟”، كما يقول ألتشولر. ويُضيف قائلاً: “أعتقد أن الإجابة تكمن في التخلي عن محاولة استبدال نخاع العظام في بقية أنحاء العالم. فهذه العملية تتطلب الكثير من الموارد، كما أن البنى التحتية غير متوفرة. أعتقد أنه يمكن تحقيق الهدف في وقتٍ أقرب من خلال إيجاد حلٍ آخر، مثل حبة يمكن توزيعها بفاعلية أعلى بكثير”.

اقرأ أيضاً: هل تساعدنا تقنية كريسبر على علاج مرض فقر الدم المنجلي؟

ثلاث استراتيجيات

في مقابلة مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو، أوضح ألتشولر ثلاث أفكار تدرسها فيرتيكس لتحسين علاجها الثوري الذي يعتمد على تقنية كريسبر.

تتلخص إحدى هذه الأفكار بالتوصل إلى بديل للعلاج الكيماوي القاسي المستخدم لقتل نخاع العظم وإفساح المجال للخلايا المعدّلة جينياً حتى تحل محله. تقول فيرتيكس وبعض الشركات الأخرى المختصة بالتعديل الجيني، مثل شركة بيم ثيرابيوتيكس (Beam Therapeutics)، إنها تبحث عن أساليب أقل قسوة حتى تصبح العملية أسهل بالنسبة للمرضى.

وتحمل الاستراتيجية الثانية التي تدرسها فيرتيكس وشركات أخرى اسم التعديل الجيني “داخل الجسم”. في هذا العلاج، يُدخل الأطباء جزيئات التعديل الجيني مباشرة إلى الجسم بالتقطير الوريدي، أو حتى بالحقن مثل اللقاح، دون الحاجة إلى استبدال نخاع العظم.

ولتحقيق التعديل الجيني داخل الجسم في حالة أمراض الدم، تحاول مجموعات الباحثين تطوير أنظمة نقل -مثل الفيروسات أو الجسيمات النانوية- لحمل كريسبر مباشرة إلى الخلايا الجذعية التي تصنع الدم.

حصلت هذه الأفكار لتعديل الجينات من خلال “حقنة واحدة” على دعم كبير من مؤسسة بيل وميليندا غيتس، التي تعتقد أن هذه الطريقة يمكن أن تساعد على مواجهة مرض فقر الدم المنجلي ومرض نقص المناعة البشرية (HIV) في إفريقيا. لكنها لا تزال في المرحلة التجريبية، ويشكك البعض في إمكانية نجاحها على الإطلاق.

أمّا الفكرة الأخيرة فهي الدواء التقليدي، أي النوع الذي يبتلعه المريض، وسيكون هذا الدواء الأسهل للتوزيع وفق الحاجة. تقول مختصة الكيمياء الحيوية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)، أنجيلا كولر، إن الأدوية “المتاحة على نطاقٍ واسع” التي “يمكن الوصول إليها دون معوقات كبيرة” ستكون الأكثر تأثيراً في مرض فقر الدم المنجلي على مستوى العالم. وتقول: “هذا لا يخفف من حماستي إزاء الطرق التي تعتمد على كريسبر، لكنه يفسّر جزئياً سعي الشركات إلى تطوير أدوية تقليدية”.

اقرأ أيضاً: ما هو الميكروبيوم المعدل جينياً؟ وكيف يساعد في تحسين صحة البشر؟

الابتكار دون توقف

ينجم فقر الدم المنجلي عن عيوب في الهيموغلوبين، وهو الجزيء الذي يحمل الأوكسجين في خلايا الدم الحمراء، ويعمل علاج كريسبر على إيقاف أسوأ أعراض المرض من خلال عمليات تعديل موجهة للحمض النووي لتفعيل “الهيموغلوبين الجنيني”، وهو نسخة ثانية موجودة لدينا جميعاً، لكنها تبقى غير فعّالة عموماً بعد الولادة.

يقول ألتشولر إنه بدأ بحلول أوائل عام 2019 يرى النتائج لدى أوائل المرضى الذين خضعوا للتعديل الجيني بعد التطوع للمشاركة في تجربة الشركة. وكان واضحاً في ذلك الحين أن النظرية كانت صحيحة، ما يعني أن تفعيل الهيموغلوبين الجنيني كان علاجاً للمرض.

يقول ألتشولر إنه أطلق عملية البحث عن دواء تقليدي يمكنه تحقيق النتيجة نفسها خلال عدة أسابيع بعد ظهور هذه النتائج، حتى مع اكتساب برنامج كريسبر مزيداً من الزخم. ويقول: “نسعى إلى تحقيق النتائج نفسها باستخدام الدواء بدلاً من التعديل الجيني”.

لقد كان نشر العلاج في أنحاء العالم كافة أحد الدوافع للبدء بهذا العمل، لكنه لم يكن الدافع الوحيد. ويُعزى جزء من سعي فيرتيكس إلى درس مؤلم تعلمته بعد إطلاق أحد أدويتها الثورية لعلاج التهاب الكبد C، الذي يحمل اسم إنسيفيك (Incivek)، في 2011. حقق الدواء في ذلك الحين أسرع زيادة في المبيعات لأي منتج على الإطلاق، حيث وصل إلى 1.5 مليارات دولار سنوياً.

غير أنه خلال ثلاث سنوات، اضطرت فيرتيكس إلى التوقف عن بيع إنسيفيك بعد أن توصلت الشركة المنافسة، غيلياد ساينسز (Gilead Sciences)، إلى بديل أكثر فاعلية مع أعراض جانبية أقل. وتعلمت الشركة درساً قاسياً، وهو أنها يجب أن تواصل الابتكار دون توقف.

اقرأ أيضاً: هل تكون الخطوة التالية لتقنية كريسبر هي تعديل الجينات للعموم؟

يقول ألتشولر: “ثمة ظاهرة لم أتمكن من فهمها يوماً في مجال الأدوية، فالشركة التي تحقق الأسبقية في اكتشاف دواء لعلاج مرض ما تسمح للشركات الأخرى بالاستفادة من النتائج على حسابها؛ وذلك لأنها تتوقف عن العمل والبحث، وتكتفي بالانتظار”.

البحث عن الدواء

لا تزال الأبحاث الرامية إلى ابتكار حبة الدواء محاطة بالغموض، فألتشولر يرفض الإفصاح عن أي تفاصيل، ويقول إن قلة المعلومات المتاحة للعامة تمثّل جزءاً من جاذبية المشروع.

لكن، من المرجحّ أن بحث فيرتيكس يركّز على “الهدف” البيولوجي ذاته الذي تستهدفه تقنية كريسبر. وهذا الهدف هو الجين BCL11A، الذي يمثّل المفتاح الذي يتحكم بالهيموغلوبين الجنيني. ففي عملية التعديل الجيني، يُثبَّط هذا الجين، ما يُتيح تفعيل الهيموغلوبين الجيني.

ليس من السهل تصميم دواء عادي لتقليد هذا التأثير، وتكمن الصعوبة في أن الجين BCL11A يصنع عامل نسخ، وهو بروتين رخو وليس له شكل محدد ويفتقر إلى البنية والزوايا المحددة التي يستطيع الكيميائيون استهدافها بالأدوية. وبالفعل، فإن هذه الجزيئات تتسم بسمعة سيئة من حيث كونها “غير قابلة للعلاج بالأدوية”.

ووفقاً لألتشولر، لا يوجد في السوق حالياً أي دواء يعمل عن طريق الارتباط بعامل نسخ.

وعلى الرغم من أن عملية البحث عن دواء جديد كانت حتى الآن خفية وبعيدة عن التداول، فإن المؤشرات بدأت تظهر، بما فيها مؤشرات من شركات أخرى تسعى إلى تحقيق الهدف نفسه. فقد قالت شركة الأدوية نوفارتيس (Novartis)، في لقاء كبير عُقِد مؤخراً حول أمراض الدم، إنها درست عدة آلاف من الجزيئات، ووجدت بعض الجزيئات التي تمكنت من تفعيل الهيموغلوبين الجنيني.

اقرأ أيضاً: برنامج الجينوم الإماراتي: استراتيجية شاملة نحو الحدّ من الأمراض الجينية والوراثية في الإمارات

وفي سياق منفصل، قال فريقٌ في مستشفى الأطفال بمدينة بوسطن في اللقاء ذاته، إنه توصل إلى بعض الاكتشافات حول كيفية تطوّي بروتين BCL11A، ما قد يُتيح التوصل إلى بعض الطرق المحتملة لتفاعل الدواء معه.

يعمل فريق ذلك المختبر بقيادة ستيوارت أوركين، وهو عالم تحدثت إم آي تي تكنولوجي ريفيو مؤخراً عن اكتشافاته حول تفعيل الهيموغلوبين الجنيني. يقول أوركين: “يسعى البعض إلى اكتشاف أهداف جديدة، لكنني لا أظن أنه يوجد شيء آخر يستحق الدراسة، وأعتقد أن هذا الهدف هو الطريقة الوحيدة التي ستوصلنا إلى حل المشكلة”.

يقول أوركين إنه كان يبحث عن دواء أيضاً، لكن هذه المحاولات، التي تعاون في بعضها مع كولر، لم تفض إلى نتيجة بعد. ويقول: “يمكنني أن أؤكد أننا أجرينا الكثير من التجارب الفاشلة”.

يعتقد أوركين أيضاً أن التعديل الجيني سيكون علاجاً أفضل، إذا أمكن الحصول عليه. ويقول: “إذا كان لدي طفل مريض، وكان أمامي خيار شفائه أو إعطائه حبوب الدواء مدى الحياة، فسوف أختار التعديل الجيني. إذا أمكن إصلاح المشكلة جذرياً، فهذا الخيار المفضل لدي. لكن ثمة الكثير من المرضى ممن ليسوا مستعدين لمواجهة مشاق عملية استبدال نخاع العظم، والكثير منهم ليسوا في أماكن صالحة لتطبيق هذا الإجراء. لا يوجد ما يكفي من المستشفيات أو الأطباء”،

وهنا تكمن سخرية القدر في علاج كريسبر الأول. فهذا العلاج قادر على شفاء الأمراض، لكنه لا يستطيع قهر المرض بعد. يظهر لنا واقع الحال أن مشكلة فقر الدم المنجلي تزداد انتشاراً، ويُعزى هذا إلى أن البلدان التي تتضمن أكبر معدل من الإصابات بهذا المرض الوراثي تشهد أيضاً زيادة كبيرة في عدد السكان.

اقرأ أيضاً:هل يمكن أن ينجح التعديل الجيني في علاج أكثر الأمراض فتكاً في العالم؟

وهذا يعني أن عدد المصابين بهذا المرض يزداد ولا ينقص كل عام. لم تتمكن كريسبر حتى الآن من عكس هذا التوجه، لكن حبة الدواء قد تتمكن من ذلك.

يقول أوركين: “لقد تمكنا من حل المشكلة من الناحية المَرَضيّة، لكن ليس من ناحية انتشار المرض، هذه المرحلة التالية. يمثّل فقر الدم المنجلي مشكلة كبيرة، وهذه المشكلة لا تتراجع، بل تتفاقم”.