غاري كاسباروف الذي لا نعرفه: أول شخص تتعرض وظيفته لتهديد الذكاء الاصطناعي

4 دقائق
ما مدى دقة اختبار الحمل المنزلي؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/ Karolis Kavolelis, Zapp2Photo,Gorodenkoff. تعديل الصورة: إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في نهاية الشهر الماضي، هزّت فضيحة غش كبرى عالم الشطرنج. فقد اتهم بطل العالم خمس مرات ماغنوس كارلسن، منافسه هانز نيمان بالغش في بطولة كأس سينكوفيلد التي أقيمت في الولايات المتحدة. اتهامات الغش قديمة في عالم الشطرنج قدم اللعبة نفسها، لكن البيان المطول الذي نشره كارلسن (31 عاماً) على موقع تويتر، موجهاً فيه اتهامات مباشرة لمنافسه البالغ من العمر 19 عاماً كانت مزلزلة لدرجة أنها دفعت المئات من “الأساتذة الكبار” في اللعبة وخبراء كشف الغش إلى تحليل أدق تفاصيل المباراة التي أدت لانسحاب كارلسن من البطولة. بحث المحللون في العديد من وسائل الغش التي قد يكون نيمان استخدمها -لا سيما مع سجله السابق في الغش- لكن في النهاية اتجهت أصابع الاتهام بشكل عام إلى متهم واحد رئيسي: الذكاء الاصطناعي.

كاسباروف “المدافع عن البشرية”

أعادت هذه الحادثة إلى الأذهان تاريخ الذكاء الاصطناعي الطويل في الشطرنج، والذي شهد أحداثاً مهمة مثّلت علامات على مدى التطور الذي شهده هذا المجال، لدرجة اعتبار الشطرنج في وقت من الأوقات وسيلة لقياس مستوى الذكاء الذي تتمتع به الآلات. ولعل أولى هذه اللحظات التاريخية قيام عالم الحاسوب البريطاني آلان تورينج، بكتابة برنامج للعب الشطرنج حتى قبل وجود جهاز حاسوب لتشغيله. ففي عام 1951، نشر تورينج برنامجه -المكتوب على الورق- والذي كان قادراً على لعب مباراة شطرنج كاملة.

لكن اللحظة الفاصلة في التاريخ المشترك الذي يجمع الذكاء الاصطناعي بالشطرنج جاءت في صيف عام 1997، عندما تمكّن الحاسوب العملاق ديب بلو (Deep Blue) الذي طوّرته شركة آي بي إم (IBM) من الفوز على بطل العالم آنذاك غاري كاسباروف، في الجولة الأخيرة من سلسلة مباريات مثيرة اعتبرتها الصحف “المعركة الأخيرة للدماغ البشري”، واعتبرت كاسباروف “مدافعاً عن البشرية” في وجه الذكاء الاصطناعي.

في أحدث حلقات سلسلة “كنت هناك عندما”، وهو مشروع تاريخ شفوي يُذاع ضمن بودكاست بالآلات نثق (In Machines We Trust)، الذي يبثه موقع إم آي تي تكنولوجي ريفيو، يتحدث كاسباروف عن هذه اللحظة وعن شعوره في هذا الوقت وكيف أثرت هذه الواقعة على تفكيره خلال السنوات التالية.

اقرأ أيضاً: نظام ذكاء اصطناعي يتقن لعبة الشطرنج بالقراءة عنها بدلاً من التدرب عليها

تجريد كاسباروف من أسلحته

يقول كاسباروف إن الموقف الذي كان مؤلماً بالنسبة إليه كان سهلاً على آلة الشطرنج. ففي نهاية المطاف، لن تهتم هذه الآلات سواء فازت أو خسرت، بل إنها لا تعرف حتى إنها تلعب الشطرنج. في المقابل، كان كاسباروف غارقاً في أفكاره الخاصة أثناء المباراة، خاصة لأنه فقد بعض أسلحته المهمة، حيث كان معتاداً على قراءة لغة جسد خصومه، لكن لغة الجسد هنا لم تكن مفيدة، فهو يجلس أمام مهندس حاسوب يقوم بحركات لم يفهمها للآلة التي صنعها.

فيما بعد، قال كاسباروف في كتابه المعنون “التفكير العميق: عندما ينتهي ذكاء الآلة ويبدأ الإبداع البشري“، الصادر عام 2017: “إذا قمت ببرمجة آلة، فأنت تعرف ما هي قادرة عليه. أما إذا كانت الآلة تبرمج نفسها، فمن يدري ما الذي قد تفعله؟”.

يضيف اللاعب الروسي أنه كان معتاداً أيضاً على الاستعداد بقوة لخصمه بناءً على مبارياته السابقة وميوله. لكنه خسر هذا السلاح أيضاً ضد “ديب بلو”، حيث أبقت الشركة مبارياته التدريبية سرية. كما أنها كانت تتمتع بالقدرة على زيادة قوته وتغيير شخصيته في اللعب بعدة ضربات على مفاتيح الحاسوب.

ويرى كاسباروف أنه كان من الصعب شرح تجربته، لأنه كان “أول عامل معرفة تتعرض وظيفته للخطر بواسطة آلة”.

وحول شعوره أثناء هذه المباراة، يقول إن الاختلافات كانت بسيطة من الناحية الفنية، لكن الأمر بشكل عام كان مختلفاً تماماً، مضيفاً أنه “نفس الشعور الذي سيختبره معظم الناس في المرة الأولى التي يركبون فيها سيارة ذاتية القيادة أو يقوم طبيب ذكاء اصطناعي بتشخيص حالتهم”.

اقرأ أيضاً: بعد إتقانه ألعاب “غزاة الفضاء” والشطرنج و”جو”: الذكاء الاصطناعي يلعب كرة القدم الافتراضية

الآلات ستنافس البشر لفترة وجيزة فقط

يرى كاسباروف أن مستوى ذكاء الحاسوب “ديب بلو” لا يزيد على مستوى ذكاء المنبه الخاص بك في الوقت الحالي -تخيل منبهاً بقيمة 10 ملايين دولار- ومع ذلك فإنه لم يكن يشبه أي شيء تخيلته الأجيال السابقة. تواضع ذكاء “ديب بلو” لم يمنعه من هزيمة بطل العالم، ببساطة لأنه لم يتوجب عليه أن يفهم لعبة الشطرنج نفسها، إنما كان عليه فقط أن يُحسّن طريقة لعبه بمرور الوقت أثناء مباريات العودة الست التي تنافس فيها مع كاسباروف عام 1997 (والتي انتهت بنتيجة 3:5 مقابل 2.5 لصالح الحاسوب). وقد اتضح أن تحليل كل الاحتمالات الممكنة باتباع نهج القوة الغاشمة (Brute Force Analysis) بسرعات عالية كان كافياً.

يقول “أعظم لاعب في التاريخ” -بحسب رأي العديد من الخبراء- إن الأمر استغرق منه بعض الوقت لاستيعاب أهم دروس هذه الخسارة، وهي دروس ليست لها علاقة برياضة الشطرنج نفسها، وإنما بمستقبل العلاقة بين الإنسان والآلة.

اقرأ أيضاً: هل يشكل الذكاء الاصطناعي تهديداً لوجود البشر؟

يعتقد كاسباروف أن الفترة التي نتنافس فيها مع الآلات الذكية هي فترة صغيرة للغاية، تكاد لا تذكر، لكننا نوليها أهمية كبيرة بدلاً من التركيز على مرحلة “تفوق الآلة” التي تلي هذه الفترة، وهي المرحلة المهمة فعلاً. ويستطرد قائلاً إن “أتمتة الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال تحل الآن محل الوظائف البشرية، لكن تساويها مع البشر في الأداء لن يستمر سوى للحظة وجيزة من الزمن. ثم ستعمل الآلات بعد ذلك وإلى الأبد بشكل أفضل وأقل تكلفة وأكثر أماناً. وهذا هو التقدم البشري، وهو ما يجعل حياتنا أفضل”، مشيراً إلى أن الدراسات تُظهر أن القطاعات التي تتزايد فيها الأتمتة والذكاء الاصطناعي ترتفع فيها أعداد الوظائف والرواتب.

في النهاية، يرى كاسباروف أنه لم يعد هناك مجال للتنافس مع آلات الشطرنج، ومن الأفضل أن نعتبرها أدواتنا وليست منافسينا. وعلى عكس ما توقعه الكثيرون بأن يشعر بالغضب أو يصبح معارضاً لهذه التكنولوجيا بسبب خسارته، يقول كاسباروف إنه ابتكر عام 1998 ما أطلق عليه اسم الشطرنج المتقدم (Advanced Chess)، الذي يلعب فيه البشر مع شركاء آليين (وفقاً لمبدأ إذا لم تتمكن من هزيمتهم، انضم إليهم)، وهو نموذج لأنواع كثيرة من “الذكاء الاصطناعي التعاوني” الذي نراه اليوم.