تمثال نفرتيتي يعاصر القرن الحادي والعشرين

4 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تبدو القصة التي سأرويها كأنها قصة سطو رقمي على عمل فني شهير، والعمل الفني هذا ما هو إلا تمثال نفرتيتي الذي نُحت عام 1345 قبل الميلاد، ويعد من أشهر الأعمال الفنية في مجموعة الأعمال المعروضة في “متحف برلين الجديد” (Berlin’s Neues Museum).

تحظر إدارة المتحف منذ فترة طويلة على الزوار التقاط أي صور فوتوغرافية لأهم القطع الأثرية فيه، إلا أنه في عام 2016، تمكن فنانان يرتديان معطفين طويلين من إدخال كاميرا بتقنية المسح الضوئي ثلاثي الأبعاد إلى الغرفة المعروض داخلها التمثال النصفي لنفرتيتي، وإنتاج نسخة رقمية طبق الأصل، ومشاركتها بعد ذلك مع العالم. فكيف هو حال تمثال نفرتيتي في القرن الحادي والعشرين؟

الصورة الرقمية لتمثال نفرتيتي

كانت تلك هي القصة التي رواها الفنانان، ثم بدأ عدد من الخبراء في طرح مجموعة من الأسئلة بعد وقت قصير من كشف الفنانان لتلك العملية. بعد فحص الملف الرقمي، خلصوا إلى أن جودة المسح كانت ببساطة عالية الدقة بحيث لا يمكن التقاطها من خلال كاميرا مخفية تحت معطف، كما أشار الفنانان. وقد خلص الخبراء إلى أنه لا يمكن إنتاج المسح إلا من قبل شخص يمكنه البقاء لفترة طويلة إلى جانب التمثال النصفي لنفرتيتي داخل المتحف، بمعنى آخر، لم تكن العملية بمثابة سرقة، بل كانت عملية تسريب.

أحد الخبراء الأوائل الذين بدؤوا في طرح الأسئلة حول قصة مسح تمثال نفرتيتي هو الفنان كوزمو وينمان. بمجرد إدراك وينمان أن المسح بالتأكيد التقط من المتحف نفسه، شرع في الحصول على نسخته الخاصة وإعلانها للعموم. واستهل بالمطالبة بتطبيق “قانون حرية المعلومات” الألماني المعادل للقانون الأميركي، إذ إن “متحف برلين الجديد” مملوك للدولة. وطالت رحلته القانونية تلك لمدة ثلاث سنوات.

لم يوضح المتحف على الإطلاق علاقته بعملية مسح التمثال التي حدثت، لكن وينمان أصدر مؤخراً الملفات التي تلقاها من المتحف على الإنترنت ليتمكن أي شخص من تنزيلها. النسخة الرقمية ثلاثية الأبعاد هي نسخة طبق الأصل من التمثال النصفي الذي عمره 3 آلاف عام، مع استثناء وحيد، حيث نقش “متحف برلين الجديد” ترخيص حقوق الطباعة والنشر على الجزء السفلي من التمثال ذاته، زاعماً بأنه يمتلك الصلاحيات فيما يخص تقييد كيفية استخدام الناس للملف. حاول المتحف الادعاء بأنه يمتلك حقوق طباعة ونشر مسح لمنحوتة عمرها 3 آلاف عام، التي جرى نحتها على بعد آلاف الكيلومترات من المتحف.

اختار “متحف برلين الجديد” استخدام رخصة “نسب المشاع الإبداعي”، ورخصة “النسخ لأغراض غير تجارية”، و”الترخيص بالمثل”. إذا كان المتحف يمتلك بالفعل حقوق طباعة ونشر هذه المنحوتة، فإن الترخيص يمنحك إذناً لاستخدام الملف في ظل ثلاثة شروط، وهي: نسب الملف إلى المتحف، وعدم استخدامه لأغراض تجارية، والترخيص لأشخاص آخرين باستخدام إصدارك الخاص. وإن عدم الامتثال لهذه الشروط يعني أنك تنتهك حقوق الطباعة والنشر الخاصة بالمتحف.

لكن هذه القوانين لا معنى لها إلا إذا كانت الجهة التي تفرضها تتمتع فعلياً بحقوق نشر قابلة للتنفيذ. إذا لم يكن الملف المرخص له محمياً بموجب حقوق الطباعة والنشر، فلن يحدث شيء إذا انتهكت الترخيص. وإذا لم يكن هنالك حقوق نشر تحمي عملية المسح، فلن تحتاج إلى إذن من “صاحب الحقوق” لاستخدامه، لأن صاحب الحقوق غير موجود. سيكون الأمر أشبه بوقوفي مثلاً أمام “نصب واشنطن” والطلب من السياح دفع رسوم ترخيص مقابل التقاط صور له.

بالعودة إلى ما كتبته في العام نفسه من حدوث القصة الأصلية، فلا يوجد سبب للاعتقاد بأن المسح الدقيق لجسم مادي مملوك للعموم محمي بموجب حقوق الطباعة والنشر في الولايات المتحدة، (تجدون المزيد من المعلومات حول هذا في هذه الورقة البحثية). من دون وجود حقوق نشر أصلية للمسح، فإن “متحف برلين الجديد” لا يتمتع بالقدرة القانونية على فرض قيود على كيفية استخدام الناس له من خلال ترخيص حقوق النشر.

حقوق النشر الخاصة بالمسوحات ثلاثية الأبعاد

على الرغم من أن حالة حقوق النشر الخاصة بالمسوحات ثلاثية الأبعاد لأعمال الملك العام في الوقت الحالي أكثر تعقيداً في “الاتحاد الأوروبي”، إلا أن المادة 14 من توجيهات حقوق النشر التي جرى تمريرها مؤخراً صيغت بوضوح لتوضيح أن الإصدارات الرقمية من أعمال الملك العام لا يمكن حمايتها بموجب حقوق الطباعة والنشر. بمجرد تطبيقها، فإن هذا القانون يعني أن “متحف برلين الجديد” لن يكون لديه القدرة على استخدام ترخيص حقوق النشر لمنع الاستخدام التجاري للمسح في الاتحاد الأوروبي”. أما اليوم، فيمكن أن تشير التراخيص إلى مقاصد المستخدمين، حتى لو لم تكن قابلة للتنفيذ، أي يبدو في هذه الحالة أن “متحف برلين الجديد” يحاول الإشارة إلى أنه يفضل عدم استخدام الأشخاص للمسح لأغراض تجارية. في حين أن هذا التفضيل جيد للتعبير عنه نظرياً، إلا أنني أشعر بالقلق حياله في هذا السياق بالتحديد، إذ توجد العديد من الطرق الأخرى أمام “متحف برلين الجديد” للتعبير عن هذا التفضيل.

عندما تعمل مؤسسة كبيرة تحاول الدفاع عن نفسها على نحت لغة قانونية لا معنى لها في الجزء السفلي من مسح تمثال نصفي عمره 3 آلاف عام لتوحي بأن بعض الاستخدامات غير قانونية، فإنها تقترب بدرجة خطيرة من ارتكابها لنوع من الاحتيال، أي الادعاء الزائف بأن لديها سيطرة على حقوق الطباعة والنشر على عمل فني هو بالأصل ملك عام. يمكن لـ “متحف برلين الجديد” أن يكتب ببساطة منشوراً يوضح تفضيلاته للتعامل مع العمل الفني دون التظاهر بأن لديه حق قانوني في تطبيق هذه التفضيلات. في ضوء ذلك، لا يبدو أن ما يفعله المتحف هو بقصد الإشارة إلى التفضيلات، بل إنها محاولة لإخافة الناس من الاستخدامات المشروعة بلغة قانونية.

اللغة المجفلة لها تبعاتها في العالم الحقيقي، إذ يمكن استخدام عمليات المسح ثلاثية الأبعاد هذه من قبل الأشخاص الذين يرغبون في طباعة نسخة مماثلة ثلاثية الأبعاد لأغراض التعليم، أو دمج النموذج ثلاثي الأبعاد في قطعة فنية، أو السماح للأشخاص بالاحتفاظ بالقطعة الفنية في عالم الواقع الافتراضي. في حين أن بعض هؤلاء المستخدمين قد يكون لديهم محامون لمساعدتهم على فهم ما تعنيه حقاً ادعاءات المتحف، فإن الغالبية سوف يرون أن اللغة القانونية مؤشراً واضحاً للقول “ابقوا بعيداً” وانتقلوا إلى شيء آخر فحسب.

الجزء الأكثر أهمية هو أن إضافة هذه القيود تتعارض مع غرض وجود المتاحف بأكمله، حيث إن المتاحف لا تحتفظ بتراثنا الثقافي المشترك لتصبح بمثابة حارسها الشخصي، بل إنها تحتفظ بتراثنا الثقافي المشترك بصفتها راعية له من أجل ضمان قدرتنا على التمتع بتاريخنا الجماعي. إن نقش تلك الكلمات القانونية المجفلة في الجزء السفلي من منحوتة فنية بهدف إخافة الناس من الانخراط فيه هو فعل يعاكس ذلك الغرض، ويضر بمعاصرة تمثال نفرتيتي للقرن الحادي والعشرين.