كيف أصبحنا تحت عدسة المراقبة والتجسس في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي؟

4 دقيقة
كيف أصبحنا تحت عدسة المراقبة والتجسس في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي؟
حقوق الصورة: غيتي إيميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

التجسس والمراقبة مفهومان مختلفان لكنْ ثمة ارتباط بينهما. فإذا استأجرتُ محققاً خاصاً للتجسس عليك، يمكن لهذا المحقق أن يخفي جهاز تنصت في منزلك أو سيارتك، أو يركّب جهاز تنصت على خطك الهاتفي، ويستمع إلى ما تقوله. وفي نهاية المطاف، سيقدم إليّ تقريراً حول المحادثات التي أجريتها كلها، ومحتوى تلك المحادثات. أمّا إذا استأجرتُ المحقق نفسه حتى يضعك تحت المراقبة، فسأحصل على تقرير مختلف: أين ذهبت؟ ومع مَن تحدثت؟ وماذا اشتريت؟ وماذا فعلت؟

قبل الإنترنت، كان وضع أحدهم تحت المراقبة عملية مكلفة وتستغرق الكثير من الوقت؛ فقد كانت تتطلب جهداً بشرياً لتتبع أحد الأشخاص، وتسجيل الملاحظات حول تنقلاته، والأشخاص الذين تحدث معهم، والأشياء التي اشتراها، والأشياء التي فعلها، والأشياء التي قرأها.

كل ما تفعله مُراقب أو تمكن مراقبته

 لكن هذا العالم ذهب إلى غير رجعة. فهواتفنا تتتبع مواقعنا الجغرافية، وبطاقاتنا الائتمانية تتتبع مشترياتنا، والتطبيقات تتتبع الأشخاص الذين نتحدث معهم، وأنظمة القراءة الإلكترونية تعرف ماذا نقرأ.

تستطيع أجهزة الكمبيوتر جمع البيانات حول العمليات التي ننفذها باستخدامها، ومع تراجع تكاليف التخزين والمعالجة، أصبحت هذه البيانات أكثر قابلية للتخزين والاستخدام. وتحول كلٌّ من العمل اليدوي والإفرادي إلى عمل قابل للتنفيذ بالجملة وعلى نطاقٍ واسع. لقد أصبحت المراقبة نموذج العمل بالنسبة للإنترنت، ولا توجد وسيلة معقولة لاختيار عدم الاشتراك فيها.

اقرأ أيضاً: فضيحة برامج التجسس الأوروبية: جرس إنذار عالمي

أمّا التجسس فهو مسألة أخرى. كان تركيب أجهزة التنصت على الخطوط الهاتفية وفي المنازل والسيارات أمراً ممكناً منذ زمن طويل، لكن هذه الأشياء ما زالت في حاجة إلى مَن يستمع إليها ويحلل المحادثات المسموعة. وعلى الرغم من أن شركات برامج التجسس، مثل إن إس أو غروب (NSO Group)، تساعد الوكالات الحكومية على اختراق الهواتف الشخصية، فلا يزال من الضروري الاستعانة بشخصٍ ما لدراسة المحادثات كلها.

تستطيع الحكومات، مثل الحكومة الصينية، مراقبة منشورات وسائل التواصل الاجتماعي بناءً على كلمات وجمل محددة، لكن هذه الطريقة كانت بدائية، ويسهل الالتفاف حولها. لطالما كان التجسس محدوداً بالحاجة إلى العمالة البشرية.

لكن الذكاء الاصطناعي سيغيّر هذا الأمر. التلخيص عملية يجيد الذكاء الاصطناعي التوليدي الحديث تنفيذها. إذا قدمت له تسجيلاً صوتياً لاجتماع امتد ساعة من الزمن، فسيتمكن من تقديم ملخص بطول صفحة واحدة لما قيل في الاجتماع.

وإذا طلبت منه أن يمسح ملايين المحادثات ويرتبها بحسب الموضوع، فسينفذ هذا الطلب بسهولة. هل ترغب في معرفة هويات المتحدثين ومواضيع أحاديثهم؟ سيقدّم لك هذه المعلومة بسهولة.

اقرأ أيضاً: كيف تمكّن قراصنة المعلومات من الاحتيال على ملاهي لاس فيغاس؟

أدوات مراقبة جماعية

ليست هذه التكنولوجيات مثالية، بل إن بعضها لا يزال بدائياً للغاية. فهي تخطئ في كشف أشياء مهمة، وتسيء فهم أشياء أخرى. لكن البشر يرتكبون هذه الأخطاء أيضاً. وعلى عكس البشر، يمكن استنساخ أدوات الذكاء الاصطناعي بأعداد هائلة، كما أنها تتحسن باستمرار وبوتيرة مذهلة. ستصبح هذه الأدوات أكثر فاعلية في العام المقبل، وستصبح أكثر فاعلية من هذا حتى في العام الذي يليه. نحن نوشك على الدخول في عصر التجسس الجماعي.

لقد أدّت المراقبة الجماعية إلى إحداث تغيير جذري في طبيعة المراقبة. ونظراً لإمكانية حفظ هذه البيانات كلها، تُتيح المراقبة الجماعية إمكانية تطبيق المراقبة بالعودة بالزمن إلى الوراء، ودون تحديد هدف محدد حتى. فهذه الأنظمة تُتيح لك تحديد الأماكن التي زارها شخص معين العام الماضي، ووضع قائمة بالسيارات الحمراء كلها التي مرّت على طريق معين خلال الشهر الماضي، ووضع قائمة بالأشخاص جميعهم الذين اشتروا العناصر اللازمة كافة لبناء قنبلة بدائية باستخدام طنجرة ضغط في العام الماضي، وتحديد أزواج الهواتف كلها التي كانت تتقارب مواقع بعضها عن بعض بمرور الوقت، ثم أُطفِئَت بعد ذلك، ثم أعيد تشغيلها بعد مضي ساعة في أثناء تباعد مواقع بعضها عن بعض (وهو ما يحدث عادة عندما يُعقد لقاء سري بين اثنين من الأشخاص).

وعلى نحو مماثل، سيؤدي التجسس الجماعي إلى إحداث تغيير جذري في طبيعة التجسس. تخضع البيانات كلها لعملية التخزين في نهاية المطاف، وسيصبح من الممكن إجراء عمليات البحث فيها وفهم مضمونها بالجملة، وستصبح أنظمة التجسس قادرة على تحديد هوية الأشخاص الذين تحدثوا حول موضوع معين خلال شهر معين مضى، وكيفية تطور الحوارات حول هذا الموضوع.

اقرأ أيضاً: كيف تتمكن الشركات المشبوهة من تخمين معلوماتك الشخصية الخاصة؟

 وإذا فعل شخصٌ ما شيئاً معيناً، فستصبح قادرة على التحقق من وجود شخص آخر طلب منه ذلك، أو اكتشاف الأشخاص كافة الذين يخططون لتنفيذ جريمة ما، أو نشر إشاعة معينة، أو حضور مظاهرة احتجاجية سياسية معينة.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فسوف يصبح من الممكن كشف هيكل تنظيمي كامل، وذلك من خلال البحث عن شخصٍ يصدر تعليمات متشابهة إلى مجموعة من الأشخاص، والأشخاص جميعهم الذين يتلقون هذه التعليمات، وكشف المقربين من شخصٍ معين من خلال البحث عن الأشخاص الذين يخبرهم بأسراره، وتتبع علاقات الصداقة والتحالفات مع تشكّلها أو تفككها، وبالتفاصيل الدقيقة. باختصار، سيصبح من الممكن معرفة كل شيء حول ما يتحدث عنه كل فرد من الأفراد.

لا يقتصر هذا التجسس على المحادثات عبر الهواتف أو أجهزة الكمبيوتر، فسوف تُتيح الميكروفونات المنتشرة في كل مكان تطبيق التجسس الجماعي، على غرار المراقبة الجماعية الممكنة بفضل الكاميرات المنتشرة في كل مكان.

في عالم متصل التجسس أصبح سهلاً

علينا عدم نسيان أن المساعِدات الرقمية، مثل سيري وأليكسا ومساعد جوجل الرقمي، تصغي إلى المحادثات بصورة متواصلة أساساً، غير أن تخزين هذه المحادثات لم يبدأ بعد.

يغيّر الناس سلوكهم عندما يعلمون بأنهم عرضة للمراقبة المستمرة، فهم يلتزمون بالقواعد المفروضة عليهم، ويطبّقون على أنفسهم رقابة ذاتية، بالنظر إلى الآثار السلبية المترتبة على الرقابة.

اقرأ أيضاً: لماذا قرر «الدكتاتور العصري» للسلفادور دعم البيتكوين إلى أقصى حد ممكن؟

تسهّل المراقبة إمكانية السيطرة على المجتمعات، وسيؤدي التجسس إلى تفاقم هذا الأمر. وقد بدأت الحكومات في أنحاء العالم كافة استخدام المراقبة الجماعية، وستلجأ إلى التجسس الجماعي أيضاً.

ستتجسس الشركات على الأفراد، فقد أدّت المراقبة إلى إطلاق عصر الإعلانات المخصصة التي تلبي الاحتياجات الفردية، وسيؤدي التجسس الجماعي إلى تعزيز هذا المجال. فالمعلومات حول المواضيع التي يتحدث عنها الناس، وتقلباتهم المزاجية، وأسرارهم، تمثّل جميعها عناصر جذابة لخبراء التسويق الذين يسعون إلى التميز في إعلاناتهم. ولن تتمكن الاحتكارات التكنولوجية التي تبقينا جميعاً تحت المراقبة المستمرة حالياً من مقاومة إغراء جمع هذه البيانات كلها واستخدامها.

ففي بدايات خدمة البريد الإلكتروني جيميل (Gmail)، تحدثت جوجل عن استخدام محتوى جيميل الخاص بالأفراد من أجل عرض إعلانات مخصصة عليهم. توقفت الشركة عن فعل ذلك، ويُعزى هذا بصورة شبه مؤكدة إلى رداءة بيانات الكلمات المفتاحية التي كانت تجمعها، ما يعني أنها لم تكن مفيدة لأغراض التسويق. لكن هذا سيتغير قريباً.

اقرأ أيضاً: كيف حولت الشركات التكنولوجية الكبرى قوانين الخصوصية إلى تمثيليات فارغة؟

قد لا تكون جوجل الشركة الأولى التي تتجسس على محادثات مستخدميها، لكنها ستضطر إلى مجاراة أي شركات أخرى تبدأ تطبيق هذا الأسلوب. فسوف يطالبها عملاؤها الحقيقيون -أي المعلنون- بهذا الأمر.

نحن قادرون على الحد من هذه الإمكانية.. نحن قادرون على منع التجسس الجماعي.. نحن قادرون على فرض قوانين صارمة حول البيانات والخصوصية، لكننا لم نفعل شيئاً للحد من المراقبة الجماعية. فهل سيكون رد فعلنا على التجسس الجماعي مختلفاً؟