كيف سهلت الموسيقى عمليات التجسس العسكرية؟

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

طالما أننا نستطيع نقل الصوت عبر الأثير، فهناك شخص غريب يمكنه الاستماع إلى ما يجري، لأن انتقال الصوت أو الموسيقى يسهل عمليات التجسس العسكرية.

ربما لم يكن هذا الأمر بارزاً تماماً في مناخنا الاستهلاكي كما هو الحال اليوم، حيث تعد وسائل المراقبة السمعية بمثابة سلعة ثمينة. ولم تستخدم شركات مثل “أمازون” و”جوجل” و”آبل” القوة أو مبدأ السرية في اختراق حياتنا، بل استخدمت الدعاية الناعمة وإطلاق الوعود بتحقيق الكفاءة.

الغزو السمعي في حياتنا اليومية

يمكننا أن نطلب من المساعد الذكي “أليكسا” خفض مستوى الإنارة، أو من المساعد “سيري” إخبارنا عن أحوال الطقس، أو ربما من مساعد “جوجل هوم” تشغيل الألبوم الجديد لأحد الفنانين. ولكي تتمكن تلك الأجهزة من فعل ذلك، ينبغي أن تكون قادرة على سماعنا، ولكي تتمكن من سماعنا، ينبغي أن تكون قادرة على الاستماع إلينا دائماً.

لم نكن دائماً مرحبين بالغزو السمعي الذي نتعرض له، فتلك الأجهزة المموهة بالحواف اللامعة والأضواء الملونة هي في الواقع بعيدة كل البعد عن أنواع تقنيات التنصت السرية التي اعتدنا على رؤيتها في الأفلام الجاسوسية أو في القصص التلفزيونية المثيرة، حيث كانت المراقبة السمعية متعلقة بالأعمال الجاسوسية وبالحكومات التي تتبع أساليب سيئة خلال الحروب الباردة – ولم تكن متعلقة أبداً بالوسائل التي توفر راحة للمستهلك. ومع ذلك، يعدّ تاريخ المراقبة السمعية مرتبطاً مع أحد أعظم مصادر المتعة والترفيه لدينا، ألا وهو الموسيقى. تعد الموسيقى – وعلى وجه التحديد تلك التقنيات التي نستخدمها في إنشائها ومشاركتها والاستماع إليها – جزءاً لا يتجزأ من تطوير الأجهزة التي تتيح للحكومات والأفراد والشركات إمكانية التنصت.

استخدام الاتصالات الهاتفية في الأغراض التجارية

بدأ عصر الاتصالات الهاتفية للأغراض التجارية عندما أجرى توماس إديسون، الذي اخترع الفونوغراف قبل عام من ذلك فقط، اتصالاً من منزله في بلدة مينلو بارك بولاية نيوجيرسي إلى مدينة فيلادلفيا في عام 1878. بعد فترة وجيزة، أقدم الهواة الفضوليون والمخترعون المتفانون على تجربة الغناء وتشغيل الموسيقى من بعيد، وحملت بذلك خدمات الاتصال الهاتفية طائفة جديدة من التوقعات على الصعيد الاجتماعي والثقافي وسياقات الاستماع والمخاطر المحتملة.

خلال العقد التالي، أصبح التنصت على المكالمات الهاتفية، أي الاستماع إلى المحادثات مباشرة، أمراً شائعاً، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت المايكروفونات السرية “أجهزة التنصت” في الظهور؛ لتقر ولاية نيويورك الأميركية في عام 1892 التنصت تحت بند الجناية، وسرعان ما حذت ولايات أخرى حذوها.

عندما بدأت الحرب العالمية الأولى في عام 1914، استخدم المهندسون تقنيات مماثلة واستعاروا تقنيات أخرى من التلغراف أيضاً، وذلك من أجل التنصت على الغواصات الألمانية “يو بوت” من على متن السفن البحرية البريطانية، حيث تمكن البريطانيون من “رؤية” العدو عبر الصوت من خلال وسائل “الاستماع المعزز”.

وبحلول الحرب العالمية الثانية، وسّع الرادار “النظام الذي يستخدم الموجات اللاسلكية لكشف وتحديد المدى” والسونار “التقنية التي تُستخدم لكشف مدى الصوت خلال الملاحة” هذه التقنيات الكهروصوتية لكشف الأجسام الغريبة وسفن العدو. من أجل مواجهة تلك الوسائل، تعاونت الممثلة هيدي لامار مع الملحن جورج أنتيل لتطوير تقنية “القفز الترددي“، التي منعت غواصات وسفن العدو من اكتشاف الطوربيدات الأميركية. استند الفنانان خلال تطوير تلك التقنية على أفكار تغيير المسارات اللحنية، وفي حين أن الحكومة الأميركية لم تستخدم تلك التقنية على الإطلاق، إلا أنها أرست أسس تطوير تكنولوجيا “الواي فاي”. والتقنية نفسها التي استُخدمت في مطلع القرن الماضي لنقل موسيقى الجاز إلى المستمعين في جميع أنحاء العالم، جرى تكييفها وإحداث تغييرات فيها لأغراض عسكرية.

مع تشكّل صراع عالمي آخر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ألا وهو الصراع من أجل السيادة السياسية والأيديولوجية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أصبحت الحرب الباردة، التي انخرط فيها المحللون بقدر ما فعل الجنود، نقطة تحول في مجال التطور العالمي للمراقبة السمعية. ورأت “وكالة المخابرات المركزية”، كما تُظهر إحدى الوثائق التي رُفعت عنها السرية مؤخراً، أن تلك المراقبة هي مفتاح مهم للولايات المتحدة من أجل السيادة العالمية.

لكن وثيقة “وكالة المخابرات المركزية” تلك تعترف أيضاً بأن الولايات المتحدة تخلّفت كثيراً عن عدوها السوفييتي في فترة الخمسينيات، حيث عُثر على أكثر من 100 جهاز تنصت سري، كما ورد في التقرير، داخل السفارات والقنصليات في الخارج خلال الأشهر القليلة الأولى من عام 1956 وحده. من الجدير بالذكر أن المعركة التي جرت من أجل الحصول على المعلومات، كانت أميركا على وشك الخسارة فيها.

تطوير تقنيات التنصت

يبدو أن “وكالة المخابرات المركزية” اعتمدت على تقنيات الأعمال الجاسوسية المجربة والمختبرة عندما تعلق الأمر بزرع أجهزة التنصت، على الرغم من أنها لجأت إلى أساليب غير تقليدية من وقت لآخر، مثل تدريب الطيور والقطط على زرع تلك أجهزة. من ناحية أخرى، قضى السوفيت فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي في تطوير تقنيات جديدة تجعل تركيب الأجهزة ومراقبتها أمراً أسهل.

أشهر تلك الأجهزة وأكثرها فاعلية كان جهاز “ذا ثينغ“، الذي زُرع في ختم الولايات المتحدة العظيم في سفارتها في موسكو في عام 1945، وكان ذلك الجهاز أحد أول أجهزة التنصت التي لا تحتاج إلى أي مصدر طاقة خارجي، بل كان جهازاً “كامناً”، ما يعني أنه يُشغل بواسطة إشارة راديو خارجية فقط، وبالتالي فإن أي اهتزازات صغيرة تحدثها الأصوات في مكتب السفير الأميركي، تُنقل مباشرة إلى جهاز استقبال لاسلكي خارجي. وقد ساهم صغر حجم الجهاز، وعدم وجود مصدر للطاقة فيه، والعمر التشغيلي الطويل له، في استحالة اكتشافه تقريباً.

كان مخترع ذلك الجهاز، خلال معظم حياته على أقل تقدير، أحد أشهر المهندسين السوفيت، بالإضافة إلى أنه استثمر جيداً في الموسيقى. اكتسب ليف ثيرمن شهرة عالمية في أواخر العقد الأول من القرن العشرين لاختراعه الـ “ثيرمنفوكس”، وهي آلة موسيقية إلكترونية تُصدر الأنغام من خلال تحريك العازف يده لتتقاطع حركاته مع الموجات الراديوية في الهواء.

تُعرف الآلة أكثر باسم “الثيرمين”، التي عُزف عليها من دون أن يلمسها العازف على الإطلاق، وسرعان ما أحدثت ضجة كبيرة على مستوى العالم، حيث اعتُبرت تقنية “سحرية” للمستقبل، إذ عمل ثيرمن على تقديم آلته للعالم أجمع. وبسبب صوتها العميق والمتذبذب كانت الآلة مناسبة تماماً للموسيقى التصويرية في الأفلام، وكانت تُستخدم غالباً في أفلام الرعب والخيال العلمي. استخدم الملحن برنارد هيرمان، الذي اشتهر بعمله مع ألفريد هيتشكوك، الآلة باستفاضة في الموسيقى التصويرية لفيلم “اليوم الذي تبقى فيه الأرض صامدة” (The Day the Earth Stood Still)، كما وظفت فرقة “ذا بيتش بويز” (The Beach Boys) محاكاة لصوت الآلة في الأغنية الأشهر “غود فايبريشنز” (Good Vibrations) في عام 1966.

عند عودته إلى الاتحاد السوفيتي بعد قضاء فترة طويلة في الولايات المتحدة، سُجن ثيرمين في عام 1938 وأودع في شراشكا؛ وهو معسكر عمل حيث يقيم فيه العلماء والباحثون والمهندسون السجناء للعمل لصالح الجيش السوفيتي. قضى ثيرمن ما يقرب العشر سنوات هناك، استخدم خلالها المبادئ التكنولوجية لآلة الثرمين نفسها لاختراع جهاز “ذا ثينغ”. أُطلق سراحه عام 1947 – بعد حصوله على جائزة الاتحاد السوفيتي الحكومية “ستالين” عن اختراعه – عمل ثيرمن في الاستخبارات السوفيتية حتى عام 1966. خلال فترة عمله، ساعد المخترع “السوفيتي” في هندسة مجموعة واسعة من تقنيات التجسس.

العمليات العسكرية والوسائط الموسيقية الإلكترونية

الارتباط بين العمليات العسكرية والوسائط الموسيقية الإلكترونية هو ارتباط طويل الأمد، فأجهزة التسجيل التي أُحضرت إلى الولايات المتحدة من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية مكنت الملحنين والموسيقيين مثل جون كيج وبولين أوليفروس ولس بول من تجربة أصوات موسيقية جديدة. وأصبحت استوديوهات الموسيقى الإلكترونية في الحرب الباردة مواقع مهمة للمفاوضات حول الذاكرة الثقافية والمعتقدات الأيديولوجية من خلال الموسيقى.

كما أعادت ألمانيا توزيع مواردها العسكرية من خلال تحويل محطات الراديو الدعائية إلى مواقع للتجارب الموسيقية. والأمثلة الأولى للموسيقى الحاسوبية في الولايات المتحدة حصلت بالتوازي مع توسع أجهزة الاستخبارات العسكرية. أشار أحد مهندسي البرمجيات في الساحل الغربي للولايات المتحدة إلى ذلك بقوله: “يمكن استخدام البرمجية ذاتها ومن دون أي تعديلات على الإطلاق للمساعدة في صنع القنابل أو للمساعدة في صنع الموسيقى”.

أدرك ثيرمن ذلك، كما الحكومة السوفيتية. أما أميركا فلم تلحق بالركب إلا بعد بضع سنوات، وكان ذلك في عام 1952 حين اكتشف السفير الأميركي في الاتحاد السوفيتي، جورج كينان، جهاز التنصت.

عندما تقاعد ثيرمن من وكالة الاستخبارات السوفييتية، ذهب مباشرة للعمل في المعهد الموسيقي في موسكو. وبمجرد وصوله إلى هناك، سخّر المهارات التي طورها على مدار عقدين تقريباً من العمل في أعمال التجسس الصوتية لابتكار آلات موسيقية إلكترونية تجريبية مجدداً. خلال عمل ثيرمن، تقاربت الأعمال الموسيقية مع تلك العسكرية، ويبقى استخدام تقنياته إما في مجال الابتكار أو لغايات التعقب مرتبطاً بالوقت والمكان والمقاصد.

هذا الارتباط بين الموسيقى والحرب، وبين الترفيه والمراقبة، هو المفتاح لمساعدتنا على فهم انتشار المساعدين الرقميين اليوم. فخلال القرن العشرين، رحب المستهلكون العاديون بحماس بأجهزة الراديو والفونوغراف في منازلهم، وقد حفّز الطلب على تلك الأجهزة إجراء المزيد من البحث والتطوير على التقنيات. كان التقدم الموجه إلى المستهلك بمثابة تقدم للمجتمع على حسب الرواية، لكن في الوقت نفسه، كان لذلك البحث جانباً مظلماً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالغزو العسكري وشبكات المراقبة العالمية.

عن طريق استمالتنا إلى الوعود بالراحة والكفاءة والترفيه، فإننا نجلب أجهزة مثل “إيكو” و”جوجل هوم” للاستماع إلى ما يجري في حياتنا اليومية، إلا أننا مخيرون في ذلك. لكن من المهم أن نأخذ في الاعتبار أنه بينما نسمح بذلك، فإننا نعزز الروابط بين كل من نظامي اقتصاد المراقبة والترفيه، ويُخلق ذلك النظام الجديد الذي يرتبط فيه موقع هولو بقوائم التشغيل “سبوتيفاي” الخاصة بنا، والذي يؤثر بدوره على الإعلانات التي نراها أثناء تصفحنا موقع “فيسبوك”.

صحيح أن استخدام الوسائط الموسيقية في خدمة المراقبة السمعية ليس أمراً جديداً، ولكن لأول مرة في التاريخ، نرحب بها بكل سرور في منازلنا كجزء من نظام بيئي ترفيهي أوسع نطاقاً ومعقداً أكثر.

يبدو أنه طالما نستطيع نقل الصوت عبر الأثير، هنالك شخص غريب يمكنه الاستماع إلى ما يجري. لذلك، حان الوقت للتأمل قليلاً في انتقال الصوت والموسيقى وتسهيل عمليات التجسس العسكرية، ثم سؤال أنفسنا: ماذا نريد – وما لا نريد – أن نُسمعهم؟