الواجهات الدماغية الحاسوبية تمكن رجلاً مصاباً بشلل كامل من استعادة التواصل مع محيطه

6 دقائق
رجل مصاب بشلل كامل يتمكن من التواصل بالجُمل باستخدام التفكير فقط
حقوق الصورة: نيتشر.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تمكن رجل مصاب بالشلل الكامل من التواصل بجمل كاملة باستخدام جهاز يقوم بتسجيل نشاطه الدماغي. وتمكن الرجل من تدريب دماغه على استخدام الجهاز، والذي زُرع في دماغه، لطلب الحصول على التدليك، والحساء، والمشروبات، ومشاهدة الأفلام بصحبة ابنه.

إنها المرة الأولى التي يتمكن فيها شخص منحبس بالكامل –أي أنه واعٍ وكامل القدرات الإدراكية، ولكنه مشلول بالكامل- من التواصل بهذه الطريقة، كما يقول الباحثون المشرفون على هذا العمل.

تقوم الواجهات التخاطبية بين الدماغ والحاسوب بتسجيل الإشارات الكهربائية داخل دماغ الشخص، وتحويلها إلى أوامر يمكن أن تتحكم بجهاز ما. وفي السنوات الأخيرة، أتاحت هذه الواجهات (المسماة اختصاراً BCI) للمشلولين إمكانية التحكم بالأطراف أو التواصل على مستوى بسيط بالرفض أو الإيجاب باستخدام التفكير فقط. ولكنها المرة الأولى التي يتمكن فيها شخص منحبس بالكامل، وعاجز حتى عن التحكم بحركات عينيه، من استخدام واجهة كهذه للتواصل باستخدام جمل كاملة.

اقرأ أيضاً: مبتكرون دون 35: أحد فائزي عام 2018 يحكي قصته مع الواجهات التخاطبية بين الدماغ والآلات

 الواجهات التخاطبية بين الدماغ والحاسوب

يقول جيمي هندرسون، وهو جراح أعصاب في جامعة ستانفورد، ولم يشارك في هذا العمل: “إن إعادة فتح خطوط التواصل مع شخص في حالة انحباس كامل أمر رائع حقاً، وبالنسبة لي، فهو إنجاز كبير ويحمل مغزى مهماً بالنسبة للمشاركين في البحث”.

يعيش المريض في ألمانيا، وقد تم تشخيص إصابته بالتصلب الجانبي الضموري (ALS) في أغسطس/ آب من العام 2015، عندما كان في الثلاثين من العمر. التصلب الجانبي الضموري مرض عصبي نادر وتنكّسي يؤثر على الخلايا العصبية التي تتحكم بالحركة. وبحلول نهاية ذلك العام، أصبح الرجل عاجزاً عن الكلام أو الحركة. ومنذ يوليو/ تموز في العام 2016، أصبح يعتمد على جهاز التنفس الاصطناعي للتنفس.

وقد بدأ باستخدام جهاز لتتبع حركة العين للتواصل مع الآخرين في أغسطس/ آب من العام 2016. ويقوم هذا الجهاز بمراقبة حركات العين، ما يسمح للمستخدم باختيار الحروف على شاشة حاسوبية. ولكن بعد مرور سنة أخرى، تردت حالته وأصبح عاجزاً حتى عن تثبيت عينيه على نقطة محددة. وهكذا، أصبح جهاز تتبع العينين عديم النفع. وبدأ أفراد العائلة باستخدام طريقة تعتمد على الورق، حيث يحمل أحدهم شبكة من الأحرف على خلفية بأربعة ألوان. ويقوم أحدهم بالإشارة إلى كل مقطع بلون معين، وسطر من هذا المقطع، ويفسر أي حركة من العين على أنها “نعم”.

ويشعر الرجل وعائلته بالقلق من أن يفقد القدرة على تحريك عينيه بالكامل، ولهذا، قرروا طلب المساعدة من نيلز بيربومر، والذي كان يعمل حينها في جامعة توبينجين، ويوجوال تشاوداري من “إيه إل إس فويس جي جي إم بي إتش” (ALS Voice gGmbH)، وهي منظمة غير ربحية تقدم الواجهات التخاطبية بين الدماغ والحاسوب وغيرها من التكنولوجيات للناس غير القادرين على التواصل بأي وسائل أخرى. 

وعند لقاء الرجل في فبراير/ شباط من العام 2018، جرب تشاوداري أن يؤتمت نظام التواصل الذي كانت العائلة تستخدمه من قبل. وقام الفريق بوصل جهاز تتبع العينين إلى برنامج حاسوبي يقرأ الألوان وأرقام الأسطر، ما يسمح للرجل باختيار الأحرف واحداً واحداً باستخدام حركات العينين لتشكيل الكلمات.

اقرأ أيضاً: كيف ستغير أجهزة إنترنت الأجسام حياتنا؟

زرع قطب في الدماغ

ولكن، ومع تراجع قدرة الرجل في السيطرة على حركة عينيه، أصبح أقل قدرة على التواصل باستخدام ذلك الجهاز أيضاً. يقول تشاوداري: “لقد اقترحنا زرع قطب في الدماغ”. يمكن زرع أقطاب صغيرة في الدماغ لتسجيل النشاط الكهربائي لخلايا الدماغ مباشرة. وبما أن هذه العملية تتضمن عادة حفر ثقب في الجمجمة مع إحداث فتحة في الطبقات الواقية للدماغ، فإنها تنطوي على المخاطرة بالإصابة بتلوث جرثومي، أو إصابة الدماغ. ولهذا، فإنها تُعتبر بمثابة ملاذ أخير، كما يقول بيربومر. ويضيف: “إذا لم تنجح الواجهات التخاطبية الخارجية وأنظمة تتبع العينين، فلا يوجد خيار آخر”.   

يقول تشاوداري إن الرجل وافق على هذه العملية عن طريق حركات العينين. كما أعطت زوجته وشقيقته موافقتهما أيضاً. وعندما حازت العملية على موافقة لجنة الأخلاقيات ومؤسسة ألمانيا الاتحادية للأدوية والأجهزة الطبية في نهاية 2019، كان الرجل قد فقد القدرة على استخدام جهاز تتبع العينين. وفي مارس/ آذار من العام 2019، قام الجراحون بزرع شبكتي أقطاب صغيرتين، يبلغ عرض كل منهما 1.5 مليمتراً، في القشرة المخية الحركية للرجل، وهي طبقة تقع في أعلى الدماغ وتقوم بالتحكم بالحركة.

اقرأ أيضاً: فيسبوك تموّل تجارب على الدماغ للتوصّل إلى جهاز يمكنه قراءة الأفكار

تحويل الإشارات إلى أوامر

 بدأ الفريق بمحاولة مساعدة الرجل على التواصل في اليوم التالي لزرع الأقطاب. طُلب من الرجل بدايةً أن يتخيل أنه يقوم بحركات جسدية، وهو ما ساعد غيره من المرضى على التحكم بالأطراف الاصطناعية والهياكل الخارجية، وهي المقاربة التي تخطط شركة إيلون ماسك “نيورالينك” (Neuralink) لاستخدامها. وتقوم الفكرة على الحصول على إشارات واضحة ومؤكدة من الدماغ، وذلك لتحويلها إلى أي شكل من الأوامر.

ولكن الفريق لم ينجح في تنفيذ هذه الفكرة. وبعد 12 أسبوعاً من المحاولة، تخلوا عن الفكرة وقرروا بدلاً من ذلك الاعتماد على مقاربة تحمل اسم الارتجاع العصبي. وتعمل هذه الطريقة بعرض النشاط الدماغي على الشخص المعني في الزمن الحقيقي حتى يتمكن من تعلم كيفية السيطرة عليه. وفي هذه الحالة، يقوم الحاسوب بتشغيل نغمة صوتية متصاعدة عندما تقوم الأقطاب في دماغ الرجل بتسجيل زيادة في النشاط الدماغي. أما التراجع في النشاط الدماغي فيُعبَّر عنه بنغمة هابطة.

ووفقاً لتشاوداري، والذي يقول إنه زار الرجل في منزله كل يوم (باستثناء أيام العطل) خلال 2019، إلى أن تفشى وباء كورونا: “تمكن الرجل خلال يومين من زيادة وإنقاص تردد النغمة الصوتية. لقد كان أمراً مذهلاً ببساطة”. وفي نهاية المطاف، تعلم الرجل كيفية التحكم بنشاطه الدماغي لتشغيل نغمة صاعدة للتعبير عن كلمة “نعم” ونغمة هابطة للتعبير عن كلمة “لا”.

وبعد ذلك، قدم الفريق برنامجاً لمحاكاة نظام الورق، والذي كان الرجل يستخدمه من قبل للتواصل مع العائلة. وعند سماع كلمة “أصفر” أو “أزرق”، على سبيل المثال، يمكن للرجل اختيار مجموعة الحروف المطلوبة. وبعد ذلك، تُقرأ على مسمعه الحروف المنفصلة ويستخدم النغمة الصاعدة أو الهابطة إما لاختيار الحرف أو استبعاده (كما في الفيديو).

اقرأ أيضاً: بعد أول تصريح عام لها: ما الذي ستقدمه شركة إيلون ماسك “نيورالينك” الغامضة؟

استعادة التواصل بسلاسة

وبهذه الطريقة، تمكن الرجل بسرعة من التواصل باستخدام جمل كاملة. يقول تشاوداري، والذي نشر النتائج مع زملائه في مجلة “نيتشر كوميونيكيشنز” (Nature Communications) مؤخراً: “كانت العائلة تشعر بحماس شديد إزاء سماع ما يريد قوله”. ومن أولى الجمل التي هجأها الرجل: “يا فتيان، إنها تعمل بسلاسة فائقة”.

ما زال التواصل بطيئاً، حيث يحتاج اختيار كل حرف إلى نحو دقيقة كاملة. ولكن الباحثين يعتقدون أن هذا الجهاز أحدث تغييراً إيجابياً كبيراً في حياة الرجل، فقد أصبح يطلب أنواعاً محددة من الوجبات والحساء، ويعطي توجيهاته لمن يعتنون به حول كيفية تحريكه وتدليك قدميه، كما أخذ يطلب مشاهدة الأفلام مع ابنه الأصغر، على سبيل المثال لا الحصر. وفي إحدى المرات، قال: “أنا أحب ابني الرائع”.

يقول تشاوداري: “في الكثير من المرات، كنت أبقى معه حتى منتصف الليل، أو حتى ما بعد منتصف الليل، وكانت آخر كلمة يقولها على الدوام: مشروب”.

من أولى الجمل التي هجأها الرجل: “يا فتيان، إنها تعمل بسلاسة فائقة”.

يتخيل تشاوداري إمكانية تطوير دليل يحتوي على الكلمات الأكثر استخداماً، بحيث يستطيع البرنامج في نهاية المطاف تنفيذ عملية الإكمال التلقائي لكلمات الرجل أثناء تهجئتها، على سبيل المثال. ويقول: “هناك الكثير من الأساليب التي تتيح تسريع هذه العملية”.

اقرأ أيضاً: علماء يجدون طريقة لتحويل إشارات الدماغ إلى كلام

الحاجة إلى تطوير مدة عمل الأقطاب المزروعة في الدماغ

لا أحد يعلم كم ستبقى الأقطاب في دماغ الرجل، ولكن دراسات أخرى وجدت أن أقطاباً مماثلة ما زالت تعمل بعد خمس سنوات من زرعها في أدمغة أشخاص آخرين. ولكن، وبالنسبة لشخص منحبس، “يمكن ليوم واحد أن يمثل فرقاً كبيراً”، كما يقول كيانوش نازاربور في جامعة إدنبره، والذي لم يشارك في العمل. ويضيف: “إنها فرصة مهمة بالنسبة لهؤلاء المرضى حتى يستعيدوا خياراتهم وسيطرتهم على حياتهم. ويمكن ليوم واحد من الحياة ذات الجودة العالية أن يكون مهماً للغاية بالنسبة لشخص كهذا”.

يعتقد نازاربور أنه سيصبح من الممكن تقديم هذه التكنولوجيا بشكل اعتيادي إلى الأفراد الذين يعانون من حالة انحباس مفاجئة خلال 10 إلى 15 سنة. ويقول: “بالنسبة لشخص عاجز تماماً عن الاتصال، فإن مجرد القدرة على التعبير عن الرفض أو الإيجاب يمكن أن يغير حياته بالكامل”.

وبالنسبة لبرايان ديكي، مدير تطوير الأبحاث في جمعية الأمراض العصبية الحركية في المملكة المتحدة، فإن هذا الإطار الزمني يبدو واقعياً. ولكنه يتساءل عن عدد الأشخاص المصابين بأمراض العصبونات الحركية – والتي يُعتبر التصلب الجانبي الضموري أكثرها شيوعاً- الذين يمكن أن يستفيدوا من هذه الواجهات التخاطبية.

اقرأ أيضاً: رجل مصاب بالشلل يتحدى قرد نيورالينك لخوض مباراة ذهنية في لعبة بونغ

الإخفاقات في الواجهات التخاطبية

إن الرجل الذي تلقى هذه الواجهة التخاطبية بين الدماغ والحاسوب مصاب بنمط من التصلب الجانبي الضموري يعرف باسم “الضمور العضلي المُتَرَقي” (PMA). وعادة ما يستهدف هذا الشكل من المرض الأعصاب الحركية التي تصل بين النخاع الشوكي والعضلات، بحيث يصبح المصاب عاجزاً عن التحكم بعضلاته. ولكن نحو 95% من إصابات التصلب الجانبي الضموري تتضمن أيضاً تردياً في القشرة الحركية في الدماغ، كما يقول ديكي.

وحتى الأشخاص المصابون بالضمور العضلي المترقي يمكن أن يتعرضوا إلى هذا التردي، والذي يمكن أن يفسر سبب فقدان الرجل، على ما يبدو، لجزء من قدرته على التواصل منذ استكمال الدراسة. فمنذ فترة وجيزة، كان الرجل يستخدم الجهاز فقط للتعبير عن “نعم” أو “كلا”، كما يقول بيربومر.

ويضيف: “ليس لدي أي فكرة عما يدفعه فقط إلى الاقتصار على استخدام كلمتي “نعم” و”لا” بدلاً من تشكيل جمل كاملة، ولكن هذا يحدث من حين لآخر. وهناك الكثير من العوامل التي قد تتسبب بهذا الأمر”. 

كما أنه من الممكن، على سبيل المثال، أن الخلايا الخاصة في الدماغ تمكنت من التعرف على القطب كجسم غريب وتكتلت حوله، ما يحد من قدرته على العمل. يقول بيربومر: “قد تكون هناك أسباب نفسية، أو فنية، أو أسباب تتعلق بالقطب، ولكنه على الأقل بوضع جيد ويتمتع بحياة جيدة، كما يقول”.

وإذا توقف القطب عن العمل في نهاية المطاف، فقد تطلب عائلة الرجل نزعه واستبداله بقطب آخر، وربما زرعه في منطقة مختلفة من الدماغ. ولكن، وفي الوقت الحالي، فإن القدرة على التعبير عن “نعم” و”لا” كافية، كما يقول بيربومر، مضيفاً: “لقد قالت لي العائلة إن تبادل جميع المعلومات المطلوبة قد تم خلال أول سنة ونصف (وقد طلب أفراد العائلة نفسهم الحفاظ على الخصوصية في هذا الوقت). وباستخدام كلمتي نعم ولا، يمكنك أن تقول الكثير من الأشياء، إذا طرحت الأسئلة المناسبة”.