عش يوماً كاملاً من حياة العاملين الهنود في نبش النفايات الإلكترونية

6 دقائق
عش يوماً كاملاً من حياة العاملين الهنود في نبش النفايات الإلكترونية
يتعين على معظم العاملين في قطاع النفايات الإلكترونية التعامل مع الأجهزة الإلكترونية المهملة دون معدات واقية. شعيب مير
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

نيودلهي- مع بزوغ الفجر، ينطلق مئات الرجال داخل وخارج الأزقة المزدحمة في سيلامبور يجرون عربات ويقودون شاحنات محملة بالهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر ومكيفات الهواء المهملة وكل أنواع النفايات والأدوات الإلكترونية التي يمكن تخيلها. تقع مدينة سيلامبور في ضواحي نيودلهي، وهي أكبر سوق مخصص للتخلص من الأدوات الإلكترونية القديمة في البلاد. ويعيش فيها نحو 50 ألف رجل وامرأة وطفل يعتمدون على النفايات الإلكترونية لجني رزقهم.

في متاهة الأزقة هذه، تمتلئ المئات من المتاجر الصغيرة بأجهزة إلكترونية مختلفة، حيث يقوم العمال بتفكيكها مستخدمين أيديهم العارية ومطرقة وزردية على أمل استخراج المعادن الثمينة التي تحتويها هذه الأجهزة، مثل الذهب والفضة والقصدير أو أي عنصر مفيد آخر. يتنقل الأطفال عبر زوايا وأركان السوق حاملين الأكياس البلاستيكية على أكتافهم، جامعين البقايا التي يحتمل أن تكون مفيدة من بين النفايات الإلكترونية المكدسة أمام المداخل.

اقرأ أيضاً: لماذا يعتزم الاتحاد الأوروبي فرض منفذ شحن موحد (USB-C) على منتجي الأجهزة الإلكترونية؟ ولماذا أبل أكبر المعارضين؟

رحلة مجهدة

ينتظر أفتاب، 15 عاماً، بصبر مع 4 أو 5 أطفال آخرين تحت أشعة الشمس الحارقة لجمع بقايا النفايات الإلكترونية التي يمكن أن تكون أي شيء مثل شاشات الهواتف المحمولة والبطاريات المعطلة (سجلت دلهي هذا العام أكثر أشهر يونيو/ حزيران حرارةً خلال 3 سنوات، حيث بلغ متوسط درجة الحرارة القصوى نحو 40 درجة مئوية). يقول أفتاب وهو يمسح العرق عن وجهه: «اعتدت على بدء يومي قبل شروق الشمس لتجنب الحرارة التي لا تطاق عندما كنت أقوم بجمع الأسلاك النحاسية. ولكن نظراً لثقلها، بدأت كتفي تؤلمني. لذلت أفضّل الآن جمع بقايا الهواتف المحمولة مثل الكاميرات والرقائق الإلكترونية ولوحات المفاتيح، والتي يسهل حملها على الرغم من أن أرباحها أقل ولا تتوفر إلا خلال النهار». 

رحلة مجهدة
يعرض أفتاب أجزاء الهواتف المحمولة المهملة التي جمعها. شعيب مير

 وفقاً لبيانات مرصد النفايات الإلكترونية العالمي لعام 2020، بلغ حجم النفايات الإلكترونية على مستوى العالم عام 2019 رقماً قياسياً عند 53.6 مليون طن، وتمت إعادة تدوير 17.4% منها فقط. أنتجت الهند لوحدها 3.2 مليون طن متري من النفايات الإلكترونية انتهى معظمها في نهاية المطاف في سيلامبور. كما تعتبر الهند مكباً للنفايات الإلكترونية من الدول الأخرى، مثل الولايات المتحدة، وذلك من خلال شبكة معقدة من موانئ إعادة الشحن. حيث قدرت ورقة بحثية نشرت عام 2017 في مجلة “هيلث أند بوليوشن” أنه يتم تصدير نحو 50 ألف طن متري من النفايات الإلكترونية إلى الهند كل عام.

تملأ هذه النفايات شوارع سيلامبور المزدحمة، حيث توجد متاجر متخصصة في أنواع مختلفة من إعادة تدوير النفايات الإلكترونية والتخلص منها. على سبيل المثال، تركز المتاجر المتخصصة في إعادة تدوير الهواتف المحمولة على اللوحات الأم والبطاريات باعتبارها أعلى قيمة ويمكن بيعها إلى وحدات إعادة التدوير الأخرى. نظراً لعدم وجود مساحة وقوة عاملة كافيتين، تقوم هذه المحال بالتخلص من الأجزاء الأخرى، فيقوم أشخاص آخرون، مثل أفتاب، بجمعها وبيعها في السوق المحلي بسعر أقل.

اقرأ أيضاً: روبوت يبحث في القمامة ويميِّز المواد القابلة لإعادة التدوير عن غيرها

يعيش معظم الأشخاص الذين يكسبون رزقهم من النفايات الإلكترونية حول مدينة سيلامبور. بالنسبة لأفتاب، فإنه يعيش مع أسرته المكونة من خمسة أفراد في منزل من الصفيح على أحد ضفاف قناة صرف مفتوحة تمتلئ بمياه آسنة كريهة الرائحة وتسير عبر السوق. بدأ أفتاب، وهو أكبر إخوته، بالعمل مع والدته في سن الثامنة، حيث كان يجمع بقايا التوصيلات والأسلاك ثم يحرقها لاستخراج قطع النحاس منها. اُضطرت والدته للتوقف عن العمل بعد أن أصابها المرض عدة مرات بسبب الدخان الناتج عن عملية الحرق هذه.

يقول أفتاب: «بصراحة، لا أحد يحب العمل هنا، ولكننا فقراء جداً ومهمشون وليس لدينا خيار آخر. أقف كل صباح في طابور طويل للحصول على دلو واحد من مياه الشرب، وسأعتبر نفسي محظوظاً إذا تمكنت من الحصول على دلو واحد. هذه الأشياء الصغيرة، على الرغم من بساطتها، تمنحني السعادة على الرغم من أنها من الحاجات البديهية بالنسبة للآخرين الذين لا يعيشون نفس نمط الحياة الذي نعيشه. أصبت في أثناء العمل بإصابات طفيفة، لكني أهملها. إذا توقف أحدنا عن العمل ليوم واحد فلن نتمكن من تغطية نفقات معيشتنا». 

رحلة مجهدة
عندما تتخلص متاجر النفايات الإلكترونية من بقايا الأجهزة، يندفع الأطفال لجمع أي شيء ذي قيمة منها. شعيب مير

 بمجرد رمي نفايات الهواتف المحمولة، يتدافع الأطفال الصغار الذين ينتظرون بالخارج نحوها، ويقومون بسحب بعضهم بعضاً للخلف محاولين الفوز بأفضل النفايات. يجمع أفتاب ما يستطيع بيديه العاريتين ويهرب. جالساً خلف سيارة بالقرب من قناة الصرف، يفتح الكيس البلاستيكي ليتفحص ما جمعه. 

 اقرأ أيضاً: شركات تحاول تسهيل عملية إعادة تدوير الألواح الشمسية

يقول أفتاب: «هذه طريقة حياتنا، ويجب أن تكون سريعاً جداً كي تكسب قوت يومك. أكسب في المتوسط ما بين 50 إلى 170 روبية (60 سنتاً إلى 2.15 دولار)، وذلك يتوقف على ما أجمعه». يفضّل أفتاب تفقد ما جمعه بجانب قناة الصرف لأنها توفر له بعض الخصوصية، لكن الرائحة الكريهة تكون خانقة في بعض الأحيان إلى درجة تدفع أفتاب للتساؤل كيف يبدو تنفس الهواء النقي كما يقول.

كان أفتاب سعيداً بما جمعه في أحد أيام يونيو/ حزيران الحارة. يقول مبتسماً وهو ينطلق باتجاه عربة تبيع الوجبات الخفيفة: «لقد كان يوماً جيداً لأني عثرت على بعض المعادن القيمة. يمكنني مكافأة نفسي الآن بالسمبوسة والحصول على قسط من الراحة». 

رحلة مجهدة
تقع المناطق السكنية والأسواق على جانبي القناة الملوثة. شعيب مير

قواعد لتدوير النفايات الإلكترونية 

في مايو/ أيار، أصدرت وزارة البيئة والغابات وتغير المناخ الهندية مسودة لقواعد إضافية للنفايات الإلكترونية (وطرحتها للنقاش العام). إذا تم إقرار هذه القواعد الجديدة، فإنها ستضع إطاراً جديداً ينظم قطاع إعادة التدوير بشكلٍ رسمي (على الرغم من أن النقاد يقولون إنها قد تؤدي إلى “تفاقم سوء الإدارة”).

وفقاً لمرصد النفايات الإلكترونية العالمي لعام 2020، مسودة القواعد هذه هي أحدث إجراء ضمن سلسلة الجهود المبذولة لإدارة النفايات الإلكترونية في البلاد التي بدأت عام 2011 بتشريع يُسمح بموجبه بجمع النفايات الإلكترونية فقط للقائمين المعتمدين على التفكيك وإعادة التدوير. ثم صدرت مجموعة جديدة من القواعد عام 2016 أكدت مسؤولية المُنتج وحددت أهدافاً لجمع النفايات.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن لعمليات التحول الرقمي أن تساعد في الانتقال إلى عالم أكثر استدامة؟

وعلى الرغم من أن الهند هي الدولة الوحيدة في جنوب آسيا التي تطبق هذه اللوائح، فإن تقرير عام 2020 يشير إلى أن تطبيقها يمثل تحدياً كبيراً بسبب “الافتقار إلى البنية التحتية المناسبة للجمع والخدمات اللوجستية، وتدني وعي المستهلكين حول مخاطر التخلص غير السليم من النفايات الإلكترونية، والافتقار إلى معايير لجمع وتفكيك النفايات الإلكترونية ومعالجتها، بالإضافة إلى عدم كفاءة عملية الإبلاغ والروتين الممل الذي يحيط بها». لذلك تُفضل أماكن مثل سيلامبور، حيث يتم إعادة تدوير نحو 80% من النفايات الإلكترونية، على القطاعات الرسمية نظراً لانخفاض تكلفة إعادة التدوير وقلة تكلفة اليد العاملة.

قواعد لتدوير النفايات الإلكترونية
تُعتبر سيلامبور، وهي مجموعة من الأزقة المزدحمة، أكبر سوق لتفكيك النفايات الإلكترونية في الهند. شعيب مير

مخاوف مستقبلية 

على بعد أمتار قليلة من الطريق الرئيسي المؤدي إلى السوق، يمهد راشيم، 30 عاماً، الطريق أمام شاحنته المليئة بشرائح الهواتف المحمولة واللوحات الأم المهملة. جاء راشيم إلى سيلامبور في عام 2011 من ميروت، وهي بلدة خارج دلهي. بدأ كعامل يقوم بنقل الخردة إلى السوق ويدير الآن محلاً تجارياً يتعامل مع الهواتف المحمولة المهملة.

يقول راشيم وهو جالس على كرسي داخل محله حيث يعمل لديه ثلاثة أشخاص: «كانت مسيرة عملي في سيلامبور مليئة بالتقلبات، ولكن عملي الآن أفضل بفضل الله. عندما أتيت إلى هنا لم أكن أعتقد مطلقاً أنني سأمتلك متجراً، ولكن يمكنك تحقيق الكثير إذا عملت بجد وإخلاص. أتعامل فقط مع الهواتف المحمولة المهملة لأنها سهلة الفك ولا تحمل الكثير من المخاطر الصحية». يقوم الموظفون لديه باستخراج اللوحات الأم والرقائق الأخرى من الهواتف المحمولة ويرسلونها إلى مكان آخر لإجراء المزيد من المعالجة عليها. ويضيف راشيم: «أكسب ما بين 1000 إلى 1500 روبية (12 إلى 15 دولاراً أميركياً) يومياً في المتوسط، وهو مبلغ غير كافٍ لتحمل نفقات أسرتي المكونة من 6 أفراد وللمسؤوليات الأخرى».

اقرأ أيضاً: الفساد يحدث هزات كبيرة في صناعة الرقائق الإلكترونية الصينية

في متجر راشيم، يقوم أحد الموظفين بالتحقق من اللوحات الأم المعطلة التي لا تصلح لإرسالها للمزيد من المعالجة. وبدون معدات واقية، يقوم بغمرها في دورق مليء بالحمض، على أمل استخراج النحاس أو الفضة أو أي معادن أخرى يمكن بيعها، ثم بعد فترة بسيطة، يمتلئ المتجر الصغير بسحب من الدخان الأبيض. يقول راشيم وهو يغطي أنفه وفمه بقطعة من القماش: «لا شك في أننا نتعرض لخطر دائم هنا، ولكن ليس لدينا خيار آخر. أعاني من مشكلات في التنفس في هذه السن المبكرة، لكن لا يمكنني التوقف عن العمل لأن لدي عائلة أعتني بها. نحتاج إلى معدات سلامة متطورة مخصصة لهذا العمل، لكن تكلفتها عالية ولا يمكننا تحملها». ويشير راشيم إلى أن ارتداء كمامة بسيطة سيجعل التنفس أكثر صعوبة في الحرارة الخانقة.

يشاهد راشيم المولع بالمسلسلات التلفزيونية المثيرة مسلسلاً هندياً محلياً على هاتفه الذكي في الوقت الذي يدخل فيه ابنه الأكبر، وهو مراهق صغير السن، حاملاً معه صندوق الغداء. يحرص راشيم على ألا يلعب ابنه أو يلمس أي شيء في المتجر، ويشتري له الحلوى ثم يرسله بسرعة إلى المنزل. يقول راشيم وهو ينظف طاولة بلاستيكية صغيرة لتناول طعام الغداء: «أحلم بكوابيس حول قيام أطفالي بنفس عملي، لذلك لا أدعهم يقضون الكثير من الوقت هنا. أصلي كل يوم حتى لا ينتهي بهم الأمر في هذا المكان». 

مخاطر صحية
الطبيب تاج وهو يعالج المرضى في عيادته في سيلامبور.

 في الواقع، يؤثر احتكاك العمال المستمر بالمعادن والأحماض والمواد الخطرة الأخرى على صحتهم وظروفهم المعيشية.

يقول تاج، وهو طبيب مشهور في المنطقة ويعمل في سيلامبور منذ 10 سنوات: «الأمور تزداد سوءاً عاماً بعد عام. كان يراجعني 5 إلى 12 مريضاً في اليوم خلال السنوات القليلة الماضية، بينما يراجعني اليوم بين 20 إلى 30 مريضاً، ومعظم الحالات مرتبطة بالتهابات جلدية ومرض الانسداد الرئوي المزمن».

اقرأ أيضاً: كيف تساهم شركات التكنولوجيا في تشكيل مستقبل الرعاية الصحية؟

وأشار تاج إلى نقص الوعي بين العاملين في مجال النفايات الإلكترونية حول أسباب هذه المشكلات الصحية، ويقول في هذا الصدد: «يقوم العاملون في هذه المهنة بحرق القطع والأسلاك البلاستيكية وأجزاء من الأجهزة العادية، ويتعاملون مع المواد الكيميائية الخطرة، لذلك تزداد حالات الإصابة بمرض الانسداد الرئوي المزمن في المنطقة. لقد رأيت أطفالاً يعانون من حالات الانسداد الرئوي المزمن ومشكلات في التنفس، والتي ستؤثر على صحتهم طوال عمرهم، وذلك أمر مقلق حقاً».