هندسة عكسية لإشارات ستارلينك لتسخيرها كنظام لتحديد المواقع

5 دقائق
مصدر الصورة: سبيس إكس
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قدم تود هامفريز عرضاً بسيطاً لشركة سبيس إكس (SpaceX). فبتطبيق بضعة تعديلات برمجية بسيطة، يمكن لمجموعة ستارلينك الضخمة من الأقمار الاصطناعية أن تقدم أيضاً خدمات فائقة الدقة لتحديد الموضع والملاحة والتوقيت. لقد أراد الجيش الأميركي، والذي يموّل عمل هامفريز في جامعة تكساس في مدينة أوستن، أن يدعم نظامه العالمي لتحديد المواقع “جي بي إس” (GPS) الذي ما زال يحظى بالاحترام، والذي أصبح في نفس الوقت عرضة للمشكلات. ولكن، هل يمكن لستارلينك أن تقوم بهذا الدور؟

تطوير تكنولوجيا ملاحة عالمية رغماً عن سبيس إكس

عندما تم اقتراح الفكرة أول مرة في 2020، كان المسؤولون التنفيذيون في سبيس إكس منفتحين على الفكرة، كما يقول هامفريز. ولكن القرار أتى لاحقاً من القيادة العليا. يقول هامفريز لإم آي تي تكنولوجي ريفيو: “قال إيلون للقادة الذين تكلمنا معهم: لقد تعرضت جميع شبكات الاتصالات الأخرى في المدار الأرضي الأدنى إلى الإفلاس، ولهذا، يجب علينا (أي سبيس إكس) أن نركز تماماً على الحفاظ على أنفسنا من الإفلاس. وليس من مصلحتنا أن نشتت اهتمامنا بأمور أخرى”.

ولكن هامفريز لم يقبل الرفض. فعلى مدى السنتين الماضيتين، كان فريقه في مختبر الملاحة الراديوية في جامعة تكساس في أوستن يعمل على تطبيق أساليب الهندسة العكسية على الإشارات المرسلة من آلاف الأقمار الصناعية المخصصة للإنترنت في شبكة ستارلينك في المدار الأرضي المنخفض إلى مستقبلاتها الأرضية. والآن، يقول هامفريز إن فريقه تمكن من حل المشكلة، ويعتقد أن إشارات الإرشاد المنتظمة التي ترسلها مجموعة الأقمار الاصطناعية، والمصممة لمساعدة المستقبلات على الاتصال بالأقمار الاصطناعية، يمكن أن تشكل أساس نظام ملاحي مفيد. أما الأمر الأكثر أهمية، فهو أنه يمكن تنفيذ هذا العمل دون أدنى مساعدة من سبيس إكس. 

اقرأ أيضاً: أقمار ستارلينك الاصطناعية يمكنها حماية أنظمة الملاحة للجيش الأميركي من التشويش

وفي ورقة بحثية غير محكّمة ومنشورة على موقع الويب الخاص بالمختبر، يزعم هامفريز انه تمكن من توصيف إشارات ستارلينك بدقة غير مسبوقة. ويقول إن هذه المعلومات تمثل الخطوة الأولى نحو تطوير تكنولوجيا ملاحة عالمية جديدة يمكن أن تعمل بشكل مستقل عن نظام جي بي إس أو الأنظمة الأوروبية والروسية والصينية المكافئة له. 

يقول هامفريز: “إن إشارات نظام ستارلينك تمثل سراً فائق الأهمية وتخضع لمستويات عالية من الحماية والتكتم الشديد. وحتى في بداية المفاوضات، عندما كانت سبيس إكس أكثر تعاوناً معنا، لم يكشف مسؤولوها لنا عن أي معلومات حول بنية الإشارة. ووجدنا أنفسنا مضطرين للبدء من نقطة الصفر، فقد قمنا بشكل أساسي ببناء تلسكوب راديوي صغير للتنصت على إشاراتهم”.

كيف نجحت الهندسة العكسية؟

وللبدء بالمشروع، قامت جامعة تكساس في أوستن بشراء جهاز اتصال من ستارلينك، واستخدمته لمشاهدة البث الرقمي لمقاطع فيديو عالية الدقة للاعب التنس رافاييل نادال من يوتيوب (YouTube)، على مدار الساعة. وهكذا، تمكن الباحثون من تأمين مصدر متواصل لإشارات ستارلينك بشكل يمكن التنصت عليه باستخدام هوائي قريب.

وسرعان ما أدرك هامفريز أن ستارلينك تعتمد على تكنولوجيا تسمى الإرسال المتعدد بتقسيم التردد المتعامد “أو إف دي إم” (OFDM). وتعتبر هذه الطريقة من الطرق الفعّالة لترميز إشارات البث الرقمية، وقد تم تطويرها من قبل مختبرات بيل في الستينيات، ويتم استخدامها حالياً في تقنية واي فاي وشبكات الجيل الخامس. يقول خبير نظام جي بي إس وأستاذ الملاحة الجوفضائية في معهد فرجينيا للتكنولوجيا، مارك بسياكي: “إن تقنية أو إف دي إم تعتبر الأكثر استخداماً في الوقت الحالي، وهي الطريقة التي تتيح ضغط أكبر عدد من البتات في الثانية الواحدة ضمن عرض حزمة معين”. 

لم يحاول باحثو جامعة تكساس في أوستن كسر تشفير ستارلينك أو الوصول إلى بيانات المستخدم التي تبثها الأقمار الاصطناعية. وبدلاً من ذلك، قاموا بالبحث عن تسلسلات التزامن، أي الإشارات المتكررة القابلة للتوقع، والتي تبثها الأقمار الاصطناعية من المدار لمساعدة المستقبلات الأرضية على التنسيق معها. ولم يتمكن فريق هامفريز من اكتشاف هذه التسلسلات وحسب، بل “كانت المفاجأة السارة بوجود تسلسلات تزامنية بعدد يفوق الحد الأدنى المطلوب”.

كما يحتوي كل تسلسل على أدلة تشير إلى بُعد القمر الاصطناعي وسرعته. وبما أن أقمار ستارلينك تبث ما يقرب من أربعة تسلسلات في كل ميلي ثانية، “فإنه وضع ممتاز يتيح استخدام نظامهم لغرض آخر غير وظيفته الأساسية، وهو تحديد الموضع”. 

اقرأ أيضاً: ناسا تختار مركبة ستارشيب من سبيس إكس كمسبار سطحي لأخذ رواد الفضاء إلى القمر

فإذا كانت المستقبلات الأرضية على معرفة كافية بتحركات الأقمار الاصطناعية، والتي تشاركها سبيس إكس على الإنترنت لتخفيف خطر التصادمات في المدار، فمن الممكن استخدام التسلسلات المنتظمة لتحديد القمر الاصطناعي الذي أصدرها، ومن ثم حساب البُعد عن هذا القمر الاصطناعي. وبتكرار هذه العملية مع عدة أقمار اصطناعية، يمكن للطرف المستقبِل أن يحدد موقعه الذاتي بدقة 30 متراً تقريباً، كما يقول هامفريز.

وإذا قررت سبيس إكس أن تتعاون بإضافة معلومات أخرى حول الموضع الدقيق لكل قمر في وصلاتها الهابطة، فيمكن تحسين هذه الدقة نظرياً لتصبح أقل من متر واحد، ما يجعله قادراً على التنافس مع نظام جي بي إس. لم ترد سبيس إكس على طلباتنا لها للإدلاء بتعليق.

نظام الملاحة الإدراكية الانتهازية

وقد كان باحثون آخرون يعملون على نفس المسألة. يشغل زاك كاساس منصب أستاذ في قسم الهندسة الكهربائية والحاسوبية في جامعة أوهايو الحكومية، كما أنه مدير مركز مختص بمرونة أنظمة الملاحة في وزارة النقل الأميركية. وفي السنة الماضية، كان فريقه أول فريق يثبت إمكانية استخدام إشارات ستارلينك لتحديد الموضع، وقد تم إنجاز هذا العمل جزئياً باستخدام التعلم الآلي. 

وتقوم مقاربة كاساس، والتي يطلق عليها اسم الملاحة الإدراكية الانتهازية، على تحليل طول وتواتر تغير الإشارات الصادرة من القمر الاصطناعي أثناء حركته في الأعلى. ويستخدم المستقبل أيضاً التسلسلات التزامنية، ويحدد مدار القمر، ويقوم بتتبعه. وبعد عبور القمر عدة مرات، يتمكن الطرف المستقبِل في نهاية المطاف من تحديد موقعه (أي موقع المستقبل نفسه). وفي مؤتمر تم عقده مؤخراً، قال كاساس إن دقة نظامه وصلت إلى أقل من 10 أمتار مع ستارلينك. ويقول: “إنها آلية عامة للغاية، لدرجة أنه يمكن تطبيقها على أي إشارة أرضية أو فضائية، وتستطيع هذه الآلية أن تتعلم بسرعة، وتقدم معلومات حول طبيعة إشارة البث، وتخبرك بموقعك”.

إن فهم إشارة ستارلينك على نحو متعمق يمكن أن يؤدي إلى نتائج تتجاوز مسألة الملاحة. وعلى سبيل المثال، يبدو أن أقمار ستارلينك لا تستخدم حالياً سوى قناتين من القنوات الثماني التي تسمح بها رخصة سبيس إكس. ويتوقع هامفريز أن هذا يعود إلى حرص ماسك على عدم وجود أي تداخل مع التلسكوبات الراديوية التي تعمل على الترددات المجاورة. فقد أثارت الخطوط اللامعة التي ترسمها أقمار ستارلينك في السماء اتهامات بالتشويش على علم الفلك البصري.

اقرأ أيضاً: هل تصبح شركة روكيت لاب المنافس الأكبر لسبيس إكس؟

تبرز نتائج جامعة تكساس أيضاً احتمال وجود تداخل متعمد مع ستارلينك نفسها. ويلاحظ هامفريز أن التسلسلات التزامنية يمكن أن تُستخدم في الملاحة، ولكن استخدامها في كامل المجموعة على الرغم من سهولة التنبؤ بها يمثل نقطة ضعف أمنية. يقول بسياكي: “لقد قدم هامفريز خدمة كبيرة إلى الأوساط المهتمة بالملاحة بكشف هذه التسلسلات. ولكن أي نظام ملاحة يعمل على ترددات مفتوحة المصدر معرض لمحاولات الاحتيال بالتأكيد، لأنه يمكن لأي شخص كشف هذه الإشارات وتقليدها”.

فقد أفادت التقارير بأن ستارلينك تعرضت إلى انقطاع كارثي في الاتصالات في أواخر سبتمبر/ أيلول المنصرم في أوكرانيا، حيث يتم استخدامها على نطاق واسع في الاتصالات الصوتية والإلكترونية، وللمساعدة في قيادة الطائرات المسيرة، بل وحتى لتصحيح توجيه سلاح المدفعية. وعلى الرغم من أنه ليس من الواضح ما إذا كانت هذه الأعطال ناجمة عن تشويش القوات الروسية أم لا، فقد غرّد ماسك مؤخراً: “إن روسيا تستهدف ستارلينك على نحو متعمد. وقد وجّهت سبيس إكس موارد هائلة لتعزيز دفاعاتها وحمايتها”.

لا شك في أن ستارلينك كانت بمثابة شريان حياة لأوكرانيا. ولكن مستقبل ستارلينك لم يعد موثوقاً، بسبب التقارير حول الأعطال، والارتباك المتواصل حول مصدر تمويل خدمات ستارلينك هناك. 

يقول هامفريز: “مع مرور الوقت، وزيادة الاعتماد على ستارلينك، أدرك الأوكرانيون وحلفاؤهم أنهم لا يستطيعون السيطرة على ستارلينك، ولا يعرفون عنها سوى القليل. ولكن، أصبحت الآن لدى الملايين مصلحة مباشرة في الحفاظ على أمان ستارلينك، بما في ذلك قدرتها على مقاومة التشويش.  ولهذا، فإن تقييم هذا الأمان يجب أن يبدأ بفهم كامل لبنية إشاراتها”.