هل تسرّب فيروس كورونا من المختبر أم أنه يجب استبعاد هذه الفكرة؟

15 دقيقة
هل تسرّب فيروس كورونا من المختبر
مصدر الصورة: ذا يومي يوري شيمبون عبر صور أسوشييتد برس
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

كان نيكولاي بيتروفسكي يتصفح وسائل التواصل الاجتماعي بعد يوم من التزلج، عندما لفتت انتباهه تقارير تصف مجموعة غامضة من حالات الالتهاب الرئوي في مدينة ووهان الصينية. كان ذلك في أوائل يناير 2020، عندما كان بيتروفسكي، العالم في مجال المناعة، يقضي إجازته في كيستون بولاية كولورادو، التي يزورها في معظم السنوات مع أسرته لتفادي أجواء الصيف الحار في منزله في جنوب أستراليا. وسرعان ما صُدم بسبب التناقض الغريب في كيفية نقل صورة حالات الالتهاب الرئوي؛ إذ كانت كل من السلطات الصينية ومنظمة الصحة العالمية تقول إنه لا يوجد ما يدعو للقلق، لكنه يقول بأن السكان المحليين في المنطقة كانوا ينشرون منشورات حول “جثث يتم نقلها من المنازل في ووهان وأن الشرطة تغلق أبواب الشقق وتوصدها”.

بيتروفسكي هو أستاذ في جامعة فليندرز، بالقرب من أديليد، وهو أيضاً مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة تُدعى فاكسين (Vaxine)، التي تُطوِّر لقاحات ضد الأمراض المُعدية، فضلاً عن مشاريع أخرى. وحصل منذ عام 2005 على تمويل بعشرات ملايين الدولارات من معاهد الصحة الوطنية الأميركية لدعم تطوير اللقاحات ومركّبات أخرى تعزز آثارها تسمى المواد المساعدة. وبعد أن نشر العلماء الصينيون نسخة أولية لجينوم فيروس كورونا المتهم بإحداث المرض في ووهان، قام بيتروفسكي، الذي قطع التزلج في ذلك الوقت ليعمل من مكتبه المنزلي في كولورادو، بتوجيه زملائه لإجراء دراسات نمذجة حاسوبية للتسلسل الفيروسي، وهي الخطوة الأولى نحو تطوير اللقاح.

أدى ذلك إلى نتيجة مدهشة؛ حيث تبين أن البروتينات الناتئة التي تبرز من الفيروس ترتبط بشكل أكثر إحكاماً بمستقبلاتها في الخلايا البشرية -وهي بروتينات تسمى الإنزيمات المحولة للأنجيوتنسين 2 (ACE2)- من المستقبلات المستهدفة في أي نوع آخر تم تقييمه. بعبارة أخرى، كان فيروس كورونا متكيفاً بشكل مفاجئ مع مضيفه البشري، وهو أمر غير معتاد بالنسبة للعوامل الممرضة الناشئة حديثاً. يتذكر بيتروفسكي بأنه فكر في ذلك قائلاً: “يا للهول، هذا غريب حقاً”.

وبينما كان بيتروفسكي يفكر فيما إذا كان فيروس كورونا قد ظهر في أوساط مختبرية مع خلايا بشرية أو خلايا معدلة لتتمكن من التعبير عن الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2 البشري، ظهرت فجأة رسالة أعدّها 27 عالماً في 19 فبراير في مجلة ذا لانست الطبية المرموقة. أصر المؤلفون على أن لفيروس كورونا أصل طبيعي، وأدانوا أي فرضيات بديلة باعتبارها نظريات مؤامرة، والتي لا تخلق سوى “الخوف والشائعات والتحيز”.

يقول بيتروفسكي إنه وجد تلك الرسالة مثيرة للغضب. وأضاف بأننا “كنا بعيدين كل البعد” عن واضعي نظريات المؤامرة، “ويبدو أن الرسالة كانت تشير إلى أشخاص مثلنا”.

هل تسرّب فيروس كورونا من المختبر
مصدر الصورة: صور أسوشييتد برس / أمان شارما

خلال الشهر الماضي، أكمل فريق من العلماء الدوليين زيارة استغرقت شهراً إلى مدينة ووهان للتحقيق في أصول فيروس كورونا. عمل الفريق لصالح منظمة الصحة العالمية وتمت مراقبته عن كثب من قِبل السلطات الصينية، وخلُص مبدئياً إلى عدم ترجيح حدوث تسرب من المختبر لدرجة عدم ضرورة إجراء المزيد من التحقيقات حول الأمر. تراجع المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في وقت لاحق عن هذا البيان، قائلاً إن “جميع الفرضيات لا تزال قائمة وتتطلب مزيداً من التحليل والدراسات”. وقامت مجموعة مؤلفة من 26 من العلماء وأخصائيي الاجتماع والتواصل العلمي، من بينهم بيتروفسكي، بتوقيع رسالة خاصة بهم بحجة أن محققي منظمة الصحة العالمية كانوا يفتقرون إلى “التفويض أو الاستقلالية أو سبل الوصول الضرورية” لتحديد ما إذا كان فيروس كورونا هو نتيجة لحادث مختبري أو لا.

يأتي تحقيق منظمة الصحة العالمية بعد عام ازدادت خلاله حدة النقاشات بشأن أصول فيروس كورونا بشكل كبير. كان المسؤولون الصينيون -ولا يزالون- غير راغبين في تقديم معلومات قد تحسم الأسئلة العالقة حول مصدر الفيروس، وفي غياب البيانات الهامة، انقسمت آراء الخبراء إلى سيناريوهين متنافسين: أحدهما أن التسرب من المختبر هو أمر معقول ويحتاج إلى المزيد من التحقق، والآخر أن فيروس كورونا قد أتى من الطبيعة بشكل شبه مؤكد وأن احتمالات حدوث تسرب من المختبر بعيدة جداً، بحيث يمكن استبعاد هذا الاحتمال بشكل أساسي من النقاش. يقول أولئك الذين يصرون على الأصل الطبيعي بأن الفيروس يفتقر إلى السمات الجينية التي من شأنها أن تظهر أنه قد تم تعديله بشكل متعمد. ولكن من الممكن أيضاً أن يكون فيروس كورونا قد تطور بشكل طبيعي قبل جلبه إلى المختبر لدراسته، ليتسرب منه لاحقاً. يضم معهد ووهان لعلم الفيروسات -الذي يراه الكثيرون على أنه الموقع الأكثر احتمالاً لحدوث التسرب- واحدة من أكبر المجموعات من فيروسات كورونا في العالم.

يقول ديفيد ريلمان، عالم الأحياء الدقيقة في جامعة ستانفورد، إن التسرب من المختبر لم يكن أبداً بشأن “المناقشة العادلة والنزيهة للحقائق كما نعرفها”. وبدلاً من ذلك، سرعان ما بدأ الغضب يزداد عندما تم وصف أولئك الذين يطالبون بإجراء دراسة أقرب للأصول المختبرية المحتملة بأنهم أصحاب نظريات مؤامرة وينشرون معلومات مضللة. ولم تؤدّ العوامل السياسية في عام الانتخابات وتزايد المشاعر المعادية للصين إلا إلى زيادة التوترات. تصاعدت الهجمات على الأميركيين من أصل آسيوي منذ أن بدأت الجائحة، ومع قيام الرئيس الأميركي السابق ترامب بوصفه “بالفيروس الصيني”، أصبح العديد من العلماء والمراسلين “حذرين بشأن قول أي شيء قد يبرر خطاب إدارته”، كما يقول جيمي ميتزل، أحد الزملاء البارزين في المجلس الأطلسي، وهو مجمّع للتفكير بخصوص الشؤون الدولية ويتخذ من واشنطن العاصمة مقراً له.

ويقول ميتزل إن تعبير العلماء عن شكوكهم بشأن تسرب مختبري محتمل ربما كان بمنزلة انتحار لمسيرتهم المهنية، وخاصةً عندما كان هناك تاريخ طويل بالفعل من تفشي الأمراض الفيروسية من الطبيعة. وتتفق ألينا تشان، زميلة ما بعد الدكتوراه المتخصصة في العلاج الجيني وهندسة الخلايا في معهد برود في كامبريدج بولاية ماساتشوستس، مع هذا الرأي. تقول تشان إن خطر معارضة الفكرة القائلة بأن فيروس كورونا له أصول طبيعية، والتي تؤكد بأنها فرضية معقولة تماماً، يعدّ أكبر بالنسبة للعلماء البارزين في مجال الأمراض المُعدية الذين لديهم أدوار إشرافية وموظفون يقدمون لهم الدعم. وأمضت بنفسها جزءاً كبيراً من العام الماضي في الدعوة إلى إجراء مزيد من التحقيق في احتمال التسرب من المختبر، قائلة بأن لديها القليل لتخسره بصفتها باحثة في مرحلة ما بعد الدكتوراه.

ويقول ريلمان إن النقد اللاذع يحجب أيضاً فكرة أوسع، وهي أن الكشف عن أصول الفيروس يعدّ أمراً بالغ الأهمية لمنع الأوبئة المستقبلية من الحدوث. تتزايد التهديدات الناجمة عن كل من حوادث المختبرات والطبيعة في وقت واحد مع اقتحام البشر للأماكن الطبيعية بشكل مستمر وازدياد عدد مختبرات السلامة الحيوية الجديدة حول العالم. يقول ريلمان: “لهذا السبب، يعدّ السؤال عن الأصول مهماً جداً”.

ويضيف: “نحن في حاجة إلى معرفةٍ أفضل بكثير بشأن أين يتعين علينا أن نضع مواردنا وجهودنا”. وإذا كان تسرب فيروس كورونا من المختبر يبدو معقولاً، “فهو بالتأكيد يستحق الاهتمام بشكل أكثر بكثير”.

إذا كان فيروس كورونا قد وصل إلى البشر من الطبيعة، فكيف حدث ذلك وأين؟ بعد مرور عام على انتشار الجائحة، لا تزال هذه الأسئلة دون إجابة. لا يزال العلماء يطلقون تكهناتهم حول ما إذا كان الفيروس قد انتقل إلى البشر مباشرة من الخفافيش المصابة (التي تعد وسطاً مضيفاً معروفاً لمئات فيروسات كورونا المختلفة) أو عن طريق أنواع حيوانية وسيطة. كان يُعتقد في البداية أن سوق هوانان لبيع المأكولات البحرية بالجملة في ووهان هو المكان المحتمل لانتشار الفيروس، لأنه قد تم فيه اكتشاف المجموعة الأولى من مرض كوفيد-19 الذي يسببه الفيروس. لكن الأدلة الحديثة تشير إلى أن العدوى ربما كانت تنتشر بين الحيوانات والبشر في مكان آخر قبل ذلك بعدة أشهر، وقد اتسع نطاق التركيز منذ ذلك الحين إلى أسواق أخرى في المدينة، وإلى المزارع الطبيعية في جنوب الصين، فضلاً عن سيناريوهات أخرى محتملة، مثل تناول اللحوم المجمدة الملوثة بالفيروس والتي مصدرها محافظات أخرى.

الأهم من ذلك هو أن السلالة المباشرة للفيروس لم يتم التعرف عليها بعد. فأقرب فيروس معروف هو أحد فيروسات كورونا الأخرى ويطلق عليه اسم RaTG13، ويتشابه جينياً مع الفيروس الحالي بنسبة 96%.

في هذه الأثناء، كان من الممكن أن يصل فيروس متسرب من المختبر إلى العالم، وذلك من قبل باحث أو فني أصيب به. حدثت مثل هذه التسريبات المختبرية من قبل، وكانت مسؤولة عن انتقال عدة حالات في المجتمع أثناء تفشي السارس في أوائل القرن الحادي والعشرين. وفي عام 2017، أصبح معهد ووهان لعلم الفيروسات أول مختبر في القارة الصينية يحصل على تصنيف السلامة الحيوية من المستوى 4 (BSL-4)، وهو أعلى حالة أمنية لمكان بحثي. لكن المعهد له أيضاً تاريخ من ممارسات السلامة المشكوك فيها؛ إذ أبلغ علماء المختبر عن نقص الفنيين والباحثين المدربين بشكل مناسب في المنشأة، ما دفع العلماء الدبلوماسيين الأميركيين الذين زاروه في عامي 2017 و2018 إلى تحذير ​​وزارة الخارجية. في الوقت نفسه، أشار العديد من العلماء -لا سيما في أعقاب تحقيق حديث ومثير للجدل بالنسبة للبعض لفرضية التسرب في المختبر نشرته مجلة نيويورك– إلى أن فيروسات كورونا يتم التعامل معها عادةً في مختبرات من المستوى الثاني أو الثالث حسب تصنيف السلامة الحيوية، أي مستويات أمان أقل.

وبغض النظر عن هذه التحذيرات، هناك نظرية سائدة بين مؤيدي التسرب من المختبر مفادها أن فيروس كورونا لم يتم إحضاره ببساطة إلى مختبر ووهان، ولكن تم تصميمه هناك بطريقة ما؛ نظراً لأن العديد من العلماء فيه يقومون بشكل روتيني بإجراء أبحاث جينية على فيروسات كورونا، وربما يكونون قد “تعاونوا مع الجيش الصيني في منشورات ومشاريع سرية”، وفقاً لما ورد في بيان للحقائق صدر عن وزارة الخارجية الأميركية خلال الأسبوع الأخير من إدارة ترامب. وفي 9 مارس، اقترح كاتب في صحيفة واشنطن بوست، نقلاً عن مسؤول في وزارة الخارجية لم يذكر اسمه، بأن إدارة بايدن لم تعارض الكثير من النقاط الواردة في بيان الحقائق ذلك، رغم عدم تأييدها لأي نظرية معينة تتعلق بأصل الفيروس.

ومع ذلك، يقول الذين يشككون في فرضية التسرب من المختبر إن فيروس كورونا لا يشبه الفيروس المعدل في أي شيء. فبدلاً من أن تظهر الاختلافات عن فيروس RaTg13 في أجزاء منفصلة، كما هو متوقع مع الفيروس المعدل جينياً، تتوزع هذه الاختلافات بشكل عشوائي في كافة أنحاء الجينوم الفيروسي؛ ففي رسالة بريد إلكتروني إلى مجلة أندارك، كتب الأستاذ الفخري في علم الفيروسات بجامعة شيكاغو برنارد رويزمان: “نحن على بعد سنوات عديدة من الفهم الكامل لوظائف الجينات الفيروسية وتنظيمها، وهي العناصر الرئيسية الحاسمة لإنشاء فيروسات قاتلة”.

يمتلك الفيروس ميزة لا يمكن تفسيرها، وهي ما يسمى بـ “موقع انقسام الفيورين” في البروتين الناتئ الذي يساعد فيروس كورونا على اقتحام الخلايا البشرية. وبينما توجد مثل هذه المواقع في بعض فيروسات كورونا، لم يتم العثور عليها في أي سلالة معروفة من السلالات القريبة للفيروس الحالي. تقول سوزان وايس، عالمة الأحياء الدقيقة التي تشارك في إدارة مركز بِن لأبحاث فيروسات كورونا والعوامل الممرضة الناشئة الأخرى في كلية بيرلمان للطب بجامعة بنسلفانيا: “لا نعرف من أين جاء موقع الفيورين. إنه لغز”. وعلى الرغم من أن وايس تقول إنه من غير المرجح أن يكون قد تم تصميم فيروس كورونا، إلا أنها تضيف بأنه لا يمكن استبعاد احتمال تسربه من المختبر.

هل تسرّب فيروس كورونا من المختبر
يعتقد ديفيد ريلمان، عالم الأحياء الدقيقة في جامعة ستانفورد، أن فرضية التسرب من المختبر لم تلقَ أبداً آذاناً تصغي لها بشكل عادل.
مصدر الصورة: ألبرتو إي رودريغيز / غيتي إيميدجيز

ويقول ريلمان إنه من الممكن أيضاً أن يكون العلماء -الذين يعملون مع فيروسات كورونا لم يتم الكشف عنها أو مع السلالات الأكثر قرباً منها حتى، قد يكون لإحداها موقع انقسام الفيورين وللأخرى الهيكل الأساسي لجين فيروس كورونا الحالي- قد راودتهم أنفسهم لإنشاء فيروس مركب حتى يتمكنوا من دراسة خصائصه. وفي الواقع، فشل الباحثون في معهد ووهان لعلم الفيروسات في البداية في التصريح عن اكتشاف ثمانية فيروسات كورونا أخرى شبيهة بالسارس في عينات تم جمعها من نفس كهف المنجم الذي تم فيه العثور على فيروس RaTG13. وقد أصيب العمال الذين قاموا بتنظيف براز الخفافيش في ذلك الكهف، الواقع في مقاطعة يونان بالقرب من الحدود مع لاوس، بمرض تنفسي شديد، وتوفي أحدهم.

يميل بيتروفسكي نحو سيناريو محتمل آخر، وهو أن فيروس كورونا الحالي ربما تطور من فيروسات كورونا التي تسللت إلى أوساط المختبر. وأوضح أن وجود الفيروسات المتقاربة في نفس البيئة -مثل فيروس محسّن ليتمكن من الربط بالإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2 (ACE2) البشري وفيروس آخر لا يستطيع ذلك- يمكن أن يؤدي إلى تبادل المواد الجينية لتنجم سلالات جديدة. ويقول: “لقد حدثت مثل هذه الأمور في مختبرنا. في أحد الأيام، يتم زرع فيروس الأنفلونزا، ويتم إجراء تسلسل له في يوم آخر، لتتفاجأ فيما بعد وتتساءل من أين جاء هذا الفيروس الآخر إلى الوسط المستزرع؟ تتطور الفيروسات طوال الوقت، ومن السهل على الفيروس أن يصل إلى الوسط المستزرع دون علمك”.

توقّع بيتروفسكي والعديد من المؤلفين المشاركين في ورقة بحثية –تم نشرها كنسخة أولية غير خاضعة لمراجعة الأقران في شهر مايو من العام الماضي- ما إذا كان الفيروس “طبيعياً تماماً” أو ما إذا كان قد نجم عن “عملية إعادة تركيب حدثت عمداً أو عن غير قصد في مختبر يتعامل مع فيروسات كورونا”. يؤكد بيتروفسكي أن الفريق لم “يقل إن هذا الفيروس مختبري”، بل “كان مجرد تقديم للبيانات المتوافرة لدينا”.

ولكن في أواخر أبريل 2020، عندما كانت مجموعة بيتروفسكي تفكر أين ستنشر أعمالها، “صرّح ترامب” بأن لديه سبباً للاعتقاد بأن الفيروس خرج من مختبر في الصين، كما قال بيتروفسكي. ويضيف أنه في تلك المرحلة، قررت الكثير من “وسائل الإعلام اليسارية بأنها ستصف كل ما يتعلق بالمختبر على أنه نظرية مؤامرة لإسقاط ترامب”. وعندما تواصل بيتروفسكي مع الإداريين في خادم bioRxiv المخصص لنشر التقارير الأولية، تم رفض الورقة. وكان جواب موظفي خادم BioRxiv بأنه سيكون من الأنسب نشرها بعد مراجعة الأقران، “وهو ما أذهلنا”، كما يقول بيتروفسكي. ويضيف: “اعتقدنا أن الهدف الأساسي من التقارير الأولية هو الحصول على المعلومات المهمة بسرعة”.

تم نشر الورقة لاحقاً على خادم مماثل آخر يسمى arXiv.org، الذي يتبع لجامعة كورنيل. وسرعان ما بدأ المراسلون بالاتصال، لكن معظمهم كانوا من الوسائل الإخبارية اليمينية التي تمثل ما يسميه بيتروفسكي “صحافة مردوخ”. يقول بيتروفسكي إنه كان عليه أن يعمل على منع بعض المراسلين المغرضين من تشويه نتائج ورقته البحثية لتشكيل مفهوم مفاده أن فيروس كورونا قد تم تصنيعه بشكل لا لبس فيه. ويقول إنه في الوقت نفسه حاولت وسائل الإعلام الأخرى “الاستهزاء بكل ما يتعلق باحتمال التسرب من المختبر”.

يصف بيتروفسكي نفسه بأنه محايد من الناحية السياسية، ووفقاً لمصادر، فهو يحظى بتقدير كبير في مجال اللقاحات. وتقول ماريا إيلينا بوتازي، عالمة الأحياء الدقيقة في كلية بايلور للطب في هيوستن، إن بيتروفسكي لا يقدم ادعاءات علمية لا تدعمها الأدلة بشكل كامل. ومع ذلك، يشير بيتروفسكي إلى أن اتباع العلم ببساطة أصبح مشحوناً بالأمور السياسية. ويقول بأنهم كانوا “يتعاملون مع قوى عالمية هي أقوى بكثير من عالِم يحاول سرد قصة تستند إلى العلم”.

كما انخرطت النتائج الأسترالية أيضاً في مواجهة قوية مع الأوراق البحثية المدّعية وجود أدلة على الأصول المختبرية، التي تم إعدادها من قِبل العلماء الذين دخلوا بشكل انتهازي إلى هذا المجال. يقول راسموس نيلسن، عالِم الأحياء التطورية والخبير في فيروس كورونا بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، إن العديد من هؤلاء العلماء لديهم خبرة مناسبة قليلة ولا يدركون “آلية عمل التطور الجزيئي بشكل فعلي”.

ضرب نيلسن مثالاً على ذلك بورقة بحثية نشرت في 31 يناير على موقع bioRxiv من قبل باحثين من المعهد الهندي للتكنولوجيا في نيودلهي، والتي اقترحت وجود “تشابه غريب” بين بعض جوانب فيروس كورونا الحالي وفيروس مرض الإيدز. وكاستجابة لسيل من الانتقادات، قام المؤلفون بسحب الورقة بعد أقل من 4 أيام من نشرها. ويقول نيلسن إن ورقة فيروس مرض الإيدز وغيرها من الأوراق البحثية الأولية منخفضة الجودة جعلت فكرة التسرب من المختبر “مرتبطة بمثل هذه الأنواع من الفرضيات الغريبة والمفاهيم العلمية الرديئة جداً جداً، جداً”.

وفي رسالة بريد إلكتروني إلى مجلة أندارك، أقرّ جون إنجليس، أحد مؤسسي موقع bioRxiv، بأن “شبكة واسعة من المواقع الإلكترونية غير السائدة التي تتاجر في النظريات المتعلقة بالأصل البشري لفيروس كورونا” قد ضاعفت من تأثير ورقة فيروس مرض الإيدز. ومنذ ذلك الحين، يتم رفض أي أوراق بحثية تدعي أن أصل فيروس كورونا من صنع الإنسان، وذلك ليس بمنزلة “حكم على الدراسات أو كيفية تفسيرها”، ولكن “لأن مثل هذه الأوراق البحثية تتطلب مراجعة الأقران، ولا تمتلك سوى المجلات العلمية الوقت والموارد اللازمة للقيام بذلك”.

ومع حلول أواخر ربيع عام 2020، كان للعلماء الذين يقولون بالأصول الطبيعية للفيروس القوة الأكبر في تشكيل الآراء. لم يبحث سوى عدد قليل من الباحثين بعمق في أصول فيروس كورونا، ووفقاً لتشان من معهد برود، فإن الغالبية العظمى من أولئك الذين لم يبحثوا في هذه المسألة قبلوا ببساطة ما اعتبروه هو الرأي السائد. ويضيف ميتزل أن العلماء إذا لم يكونوا مستعدين لنقد ما هو سائد خوفاً من العواقب، فإن ذلك “يجعل من الصعب على الصحفيين كتابة قصص موثوقة حول الأصول، لا سيما في ظل غياب الأدلة”.

ربما لم يلعب أحد دوراً أكبر في حشد الآراء العلمية لدعم الأصول الطبيعية للفيروس من بيتر داشاك، رئيس منظمة إيكوهيلث أليانس غير الربحية، التي تُعنى بالصحة البيئية وتتخذ من نيويورك مقراً لها. قام داشاك بالتعاون لفترة طويلة مع معهد ووهان لعلم الفيروسات، وكان عضواً في الفريق الذي قادته منظمة الصحة العالمية وزار الصين في وقت سابق من هذا العام، فيما وصفته العديد من المصادر بأنه تضارب في المصالح. كما أنه تلقى منحة تمويل من المعاهد الوطنية للصحة للتعاون البحثي في المختبر الصيني. (أوقفت إدارة ترامب هذا التمويل فجأة في أبريل 2020، ولكن تم استئنافه لاحقاً مع قيود جديدة). يُقال إن داشاك كتب النسخة الأولى من بيان مجلة لانسيت الذي يدين الفرضيات التي لا تقول بالأصول الطبيعية للفيروس ويعدها نظريات مؤامرة. وبعد طلبات متكررة لإجراء مقابلة، رفضت منظمة إيكوهيلث أليانس وداشاك التعليق على هذه الرواية.

وقد تم إدراج اسم ستانلي بيرلمان، عالم الأحياء الدقيقة والأستاذ بجامعة آيوا في مدينة آيوا، كمؤلف مشارك للبيان. وفي رسالة بريد إلكتروني إلى مجلة أندارك، كتب بأن فكرة التسرب من المختبر “لها عدة جوانب، تتراوح من التصريح بأن الفيروس تم تصميمه في المختبر إلى جوانب أخرى تشير إلى أن الفيروس قد تسرب من المختبر ولكن لم يتم تصميمه”. ويقول إن مقال مجلة لانسيت ركز بشكل أكبر على التصميم، الذي “من المفترض أن يكون لسبب شنيع، ولكن ذلك مستحيل لحسن الحظ حسب معارفنا الحالية”. ومع ذلك، فإن النص الفعلي لبيان مجلة لانسيت لا يوضح هذا الاختلاف أبداً.

كما تم أيضاً إدراج اسم تشارلز كاليشر، الأستاذ الفخري في قسم علم الأحياء الدقيقة والمناعة والأمراض بجامعة ولاية كولورادو، كمؤلف مشارك. ويقول إن عبارة نظرية المؤامرة كانت غير مناسبة إطلاقاً حسب رأيه. ويضيف: “لسوء حظي، قام [داشاك] بإدراج أسماء كافة الأشخاص حسب الترتيب الأبجدي، وكان اسمي هو الأول”.  وبسبب اتصال الناس بهاتفه بشكل مستمر، يقول كاليشر إنه أخبرهم بأنه لا يمكنه قول الكثير إلى أن تتوافر المزيد من المعلومات.

يوافق ريلمان على أن الرسالة المتعلقة بالأصول هي أننا “لا نعرف”، في حال عدم وجود دليل قاطع. بعد بيان مجلة لانسيت، والورقة البحثية التي تلته وكتبها علماء حول أصول الفيروس وخلصت إلى “أننا لا نعتقد بمنطقية أي نوع من السيناريوهات التي تقوم على المختبرات”، وجد نفسه مصاباً بخيبة أمل كبيرة من أولئك الذين قال عنهم بأنهم قد تبنوا سيناريو غير مؤكد، على الرغم من “الغياب المذهل للبيانات”. ويقول ريلمان إنه شعر بأنه مضطر للرد. ولذلك قام بكتابة مقال رأي في وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم وانتشر على نطاق واسع، يدّعي فيه أن الأصل المختبري هو من بين عدة سيناريوهات محتملة، وأن تضارب المصالح بين أولئك الأشخاص في كافة جوانب القضية يجب الكشف عنه ومعالجته، وأن الكشف عن الأصول الحقيقية لفيروس كورونا هو أمر ضروري لمنع حدوث جائحة أخرى. وكتب أن جهود التحقيق في الأصول “أصبحت موغلة في السياسة والافتراضات والتأكيدات المدعومة بشكل سيئ والمعلومات الناقصة”.

ويقول ريلمان إن إحدى أولى المكالمات الإعلامية التي أتته بعد نشر مقال الرأي كانت من لورا إنغراهام من قناة فوكس نيوز. ولكنه رفض إجراء المقابلة.

وعندما سُئل ريلمان عن سبب اعتقاده بأن داشاك وغيره من العلماء دافعوا بشدة عن عدم احتمال حدوث تسرب من المختبر، قال إنهم ربما أرادوا توجيه آراء الناس إلى أن أعمالهم تشكل خطراً على البشرية. فعلى سبيل المثال، يقوم العلماء فيما يسمى بتجارب “اكتساب الوظيفة” بتعديل الفيروسات جينياً لاستكشاف تطورها، ويكون ذلك أحياناً بطرق تعزز شدتها أو قابليتها للانتقال. يمكن أن يُسفر هذا النوع من الأبحاث عن التوصل إلى أدوية ولقاحات تستهدف الأمراض الفيروسية، بما فيها كوفيد-19، وقد تم إجراؤها في معهد ووهان لعلم الفيروسات في الدراسات التي أظهرت بأن بعض فيروسات كورونا لدى الخفافيش كان ينقصها طفرات قليلة فقط حتى تصبح قادرة على الارتباط بالإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2 عند الإنسان. وتشير ورقة بحثية نُشرت عام 2015 في مجلة نيتشر ميديسين إلى أنه “يجب تحقيق التوازن بين إمكانية الاستعداد لتفشي الأمراض في المستقبل والتخفيف من شدتها وبين خطر إنتاج عوامل ممرضة أكثر خطورة”.

ويقترح ريلمان أن من بين أولئك الذين يحاولون كبح فرضية التسرب من المختبر، ربما كان هناك “قدر كبير جداً من الحماية للشخص نفسه وأقرانه قبل السماح لسؤال مهم فعلاً بأن يلقى آذاناً صاغية”. كما أن العلماء الذين يتعاونون مع باحثين في الصين “قد يشعرون بالقلق إزاء علاقاتهم المرتبطة بالعمل إذا قالوا أي شيء يختلف عن أن مصدر هذا التهديد هو من الطبيعة”.

ويقول علماء آخرون إن معارضة فرضية التسرب من المختبر تعود بشكل أكبر عموماً إلى عدم التصديق بإمكانية تصميم فيروس كورونا عمداً. يقول بيرلمان: “هذا الأمر قد أصبح مُسيَّساً”. أما فيما يتعلق باحتمال هروب الفيروس بعد تطوره بشكل طبيعي، فيقول إنه “من الصعب التسليم به أو استبعاده”.

هل تسرّب فيروس كورونا من المختبر
مصدر الصورة: فيتشر تشاينا عبر صور أسوشييتد برس

وفي رسالة بريد إلكتروني حديثة، أضاف ريلمان بأن السؤال قد لا يتم الإجابة عنه بشكل كامل أبداً. ويقول: “من وجهة نظر النشوء الطبيعي، يتطلب الأمر حدوث اتصال مؤكد بين أنواع مضيفة أصيبت بشكل طبيعي (مثل الخفافيش) وإنسان واحد أو مجموعة من البشر الذين يمكن توضيح تفاصيل موثوقة ومؤكدة عن وقت ومكان إصابتهم نتيجة الاتصال، وذلك قبل أي حالات بشرية أخرى معروفة، ثم إثبات نقلهم العدوى إلى الآخرين”. أما بالنسبة لسيناريو التسرب من المختبر، فلا بدّ من إظهار “دليل مؤكد على وجود الفيروس قبل الحالات الأولى، وتوضيح آلية محتملة للهروب إلى البشر”، وتصبح جميعها أقل احتمالاً مع مرور الوقت. ويضيف: “إن العثور على السلالة الأصل المباشرة المحتملة لفيروس كورونا سيساعد في فهم التاريخ الجينومي / التطوري الأخير للفيروس، ولكن ليس بالضرورة كيف حدث ذلك وأين”.

إذا لم يحدث تغير وبقيت الأمور على حالها الآن، تواجه عملية التأهب للوباء جبهتين متزامنتين. من الناحية الأولى، شهد العالم العديد من الجائحات والأوبئة خلال الأعوام العشرين الماضية، بما في ذلك: السارس، وداء الشيكونغونيا، والأنفلونزا H1N1، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، والعديد من فاشيات الإيبولا، وثلاث فاشيات بالنوروفيروس، وفيروس زيكا، والآن فيروس كورونا. وفي حديثه عن فيروسات كورونا، يقول رالف باريك، عالم الأوبئة بجامعة نورث كارولينا في مدينة تشابل هيل، إنه “من الصعب تخيل عدم وجود سلالات أخرى” لدى الخفافيش التي تقترب معدلات الوفيات فيها من 30% القريبة من معدل وفيات متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، والتي لديها أيضاً “قابلية انتقال أكثر فاعلية بكثير”. ويضيف: “هذا مرعب”. ويؤكد باريك على أن الأبحاث الجينية للفيروسات ضرورية لتجاوز التهديد.

ومع ذلك، فإن المخاطر الناشئة من المختبرات تتزايد أيضاً، وفقاً لريتشارد إبرايت، عالم الأحياء الجزيئية في جامعة روتجرز. ويقول بأن الخطر يزداد بما يتناسب مع عدد المختبرات التي تتعامل مع الأسلحة البيولوجية والعوامل الوبائية المحتملة (التي تجاوز عددها 1500 على مستوى العالم في عام 2010)، كما أن العديد منها، مثل مختبر ووهان، تقع في مناطق مدنية قريبة من المطارات الدولية. وكتب إبرايت في رسالة بريد إلكتروني إلى مجلة أندارك: “حدث التوسع الأكبر في الصين خلال السنوات الأربع الماضية على شكل سباق تسلح، وذلك كرد فعل على توسع عمليات الدفاع البيولوجي في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان”. وأضاف: “افتتحت الصين منشأتين جديدتين من المستوى الرابع للسلامة الحيوية، وذلك في ووهان وهاربين، خلال السنوات الأربع الماضية، وأعلنت عن خططها لإنشاء شبكة من مئات المختبرات الجديدة من المستويين الثالث والرابع”.

وفي الوقت نفسه، تستمر الخلافات حول أصول فيروس كورونا، ويأخذ بعضها بالاحتدام. خلال تبادل حديث للتعليقات على تويتر، تمت مقارنة تشان بمؤيدي حركة كيو أنون وبالمتمرّدين. وكانت قد نشرت قبل بضعة أشهر تغريدة على تويتر حول مسألة نزاهة الأبحاث وذكرت أنه إذا كانت تصرفات العلماء ومحرري المجلات العلمية تهدف إلى إخفاء أصول الفيروس، فإنهم سيكونون متواطئين في وفاة ملايين الأشخاص. (حذفت تشان تلك التغريدة منذ ذلك الحين، وقالت إنها ندمت على نشرها).

ويقول نيلسن: “التوتر محتدم”، ما يجعل من الصعب على العلماء المؤهلين إجراء أي نوع من النقاش الجاد.

في أستراليا، يقول بيتروفسكي إنه يحاول ألا ينخرط في الجدال. ويقول إنه قد تم تحذيره ليتجنب التحدث علناً عن نتائج نماذجه. ويضيف: “نصحنا الكثير من الناس بأنه حتى لو كان الأمر يعتمد على معارف علمية جيدة، فلا تتحدث عنه. سيكون لذلك تأثير سلبي على تطوير اللقاح. سوف تتعرض للهجوم، وسيحاولون تشويه سمعتك”. ولكن لم يحدث ذلك في النهاية؛ ففي العام الماضي، ووسط الجدل الدائر حول أصول الفيروس، أصبح فريقه أول من يأخذ لقاحاً لكوفيد-19 في التجارب السريرية البشرية في نصف الكرة الجنوبي.

ويقول: “إذا وصلنا إلى المرحلة التي يتم فيها تسييس كل العلوم دون أن يهتم أحد بالحقيقة وإنما بكونه على صواب من الناحية السياسية، فقد نستسلم أيضاً وننغلق على أنفسنا ونتوقف عن ممارسة الأمور العلمية”.

تشارلز شميدت حاصل على جائزة العلوم في صحافة المجتمع من الجمعية الوطنية لكتّاب العلوم. نشرت أعماله في مجلات ساينس ونيتشر بيوتكنولوجي وسيانتفيك أميريكان وديسكفر ماجازين وواشنطن بوست، وغيرها من المجلات الأخرى.

نُشرت هذه المقالة من قبل في مجلة أندارك، يمكنك قراءة المقال الأصلي هنا.