مهندسون جدد لشبكة الويب العالمية: هل انتهى عصر شريط البحث؟

7 دقائق
هل سينتهي اقتصاد النقرات مع اختفاء شريط البحث؟
حقوق الصورة: سليت.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بما أنني أنتمي إلى جيل الثمانينيات، يمكنني أن أقسّم حياتي بشكلٍ واضح إلى قسمين: ما قبل ظهور جوجل (Google)، وما بعده. فمع اقتراب حلول الألفية الجديدة، لم تعد الإنترنت مجرد مجموعة متشابكة من القوائم الناقصة لأشياء غريبة، وتحولت إلى قاعدة بيانات بحثية مفيدة. ومنذ ذلك الحين، أصبح محرك البحث جوجل أحد الثوابت التكنولوجية في حياتي كشخصٍ بالغ، وبقي صامداً مع صعود الهواتف الذكية، وشبكات التواصل الاجتماعي، وخدمات البث الرقمي، بل وحتى توصيل الوجبات السريعة بطائرات مسيّرة (ماذا حل بهذه التكنولوجيا أيضاً؟).

وخلال كل هذا الوقت، لم يتمكن أحد من تحدي دور جوجل في حراسة بوابة مخزن هائل من المعلومات الرقمية المتوافرة. فنسبة 90% من مستخدمي الإنترنت في أنحاء العالم كافة تستخدم جوجل للتسوق، والتنقل، وإرضاء فضولها بالمعلومات حول كل شيء تقريباً. وبفضل الإعلانات التي يعرضها موقع جوجل خلال هذا النشاط (وعلى مواقع أخرى أيضاً)، تمكنت الشركة من جني أرباح هائلة من المبيعات بمقدار يتجاوز ربع تريليون دولار في العام الماضي.

لقد انطلقت جوجل متخذة دوراً أشبه بصانع خرائط للإنترنت، ولكن، وبفضل نجاحها المذهل، تحولت بالتدريج إلى مهندس شبكة الويب العالمية. واليوم، ثمة قطاعات تعتمد بأكملها على كيفية إدارة جوجل لنتائج البحث والإعلانات على الإنترنت، بدءاً من مبيعات التجزئة وصولاً إلى تأمين السيارات.

اقرأ أيضاً: لماذا يشعر أحد خبراء أنظمة الأمن التقني بالقلق حول جوجل؟

لقد أصبحت أحدث تقنيات العالم الرقمي أكثر ارتباطاً بالشركات، حيث يتم تنظيمها بصورة صارمة وفقاً لهيمنة عمليات النقر: كم مستخدماً ينقر على إعلانك أو عنوان مقالك أو مقطع الفيديو الذي نشرته؟ يحدد هذا الرقم مقدار الأموال التي يمكن أن تجنيها على الإنترنت، كما يشرح العدد الهائل للمقالات المكتوبة خصيصاً للظهور في نتائج البحث عن الأسئلة الشائعة، مثل: في أي وقت يبدأ حفل توزيع جوائز الأوسكار؟

اقتصاد قائم على النقر

لقد أدّى الاقتصاد المبني على النقر إلى جعل العالم أكثر فعالية ببعض الطرق، ولكنه أدى إلى تحويل بنك المعلومات العالمي الهائل إلى شيء يشبه مزاداً علنياً محموماً، حيث تتدافع مواقع الويب دون توقف للوصول إلى أعلى مجموعة نتائج البحث، وجمع أكبر عدد من النقرات، واجتذاب أكبر عدد من المشاهدات.

وبفضل كل هذه التجاذبات الخفية، والتي تحدد الإعلانات التي ستراها، فإن تحميل صفحات الويب أصبح أقل سرعة بعض الشيء. لقد خاض عدد هائل من الصحافيين المحترفين الكثير من المعارك الخاسرة ضد المعايير التافهة لعدد النقرات ونسب فتح رسائل البريد الإلكتروني، ومن ثم تكيّفوا معها، ما أدّى إلى تحول “تحسين محركات البحث” إلى أحد أهم المهارات الصحافية.

وتركّز منصات مثل يوتيوب (YouTube) وغيرها على النقرات بشدة، إلى درجة أنها تستطيع بناء خوارزميات تجتذب المستخدمين بمحتوى يزداد تطرفاً وإباحية دون أن يكون هذا هدفها المباشر. لقد بنت جوجل الإنترنت بحيث تزداد الأفضلية بازدياد عدد النقرات، وهي تقوم بدور أساسي في إحصاء هذه النقرات.

ولكن، ماذا لو تغير كل هذا؟

لقد أدّى ظهور تشات جي بي تي (ChatGPT) في أواخر عام 2022 إلى صدمة كبيرة في قاعات اجتماعات إدارات الشركات التكنولوجية. وسارعت مايكروسوفت (Microsoft)، غريمة جوجل التقليدية، إلى استخدام حصتها في أوبن أيه آي (OpenAI) لبناء نسخة تجريبية من شيء جديد، وهو برنامج حواري مرتبط ببينغ (Bing)، محرك البحث الخاص بجوجل.

وقامت جوجل بربط بوت الدردشة الخاص بها من الجيل الجديد، بارد (Bard)، مع منتجها الأساسي الخاص بالبحث. ولكن يبدو أن هذه التكنولوجيا ما زالت في بداياتها، وقد ثَبُت هذا الأمر بسرعة: فقد تسببت نسخة بيتا المحبة للدردشة من بينغ، والخاصة بشركة مايكروسوفت، إلى إثارة هلع أحد مراسلي صحيفة نيويورك تايمز (New York Times) بسبب طابعها الذي يحمل جنون العظمة، ومحاولاتها المتواصلة للتقرب العاطفي من المستخدمين. أما بارد، فقد ارتكبت نسخته التجريبية خطأ يتعلق بالحقائق، ما تسبب بانهيار في القيمة السوقية للشركة الأم، ألفابت (Alphabet).

إن السرعة التي اندفعت فيها جوجل لتقديم أداة ذكاء اصطناعي غير مكتملة ومجربة في إحدى أهم خدماتها التي تمثّل أهم مصادر دخلها، على الرغم من الخطر الذي يمثّله بارد على نموذج الأعمال الخاص بهذه الخدمة، تعبّر عن طريقة تعامل هذه الشركة مع اللحظة الحالية، بعد أن كانت تشغل دور حارس معلومات العالم كافة لفترة طويلة.

تشات جي بي تي يدق ناقوس الخطر

فما معنى أن نتخلى عن اقتصاد النقرات وشريط البحث الذي يمثل أساس هذا الاقتصاد ونعتمد بدلاً منه على شيء أقرب إلى الحوار؟ هذا ما يقدمه بارد، وبينغ الذي يعتمد على تشات جي بي تي: الفرصة لتوجيه الأسئلة بشكلٍ أقرب إلى طبيعة البشر، مثل: (ما أفضل مكان في المنطقة لشراء البوريتو؟ وأي خدمة تنصح بها لتوصيل هذا البوريتو جواً بالطائرات المسيّرة؟) وخوض حوارات متواصلة مع نظام يستطيع استذكار سياق الحديث والحفاظ عليه.

(ولكن، من الجدير بالذكر أن مايكروسوفت قررت مؤخراً أن تحاول ضبط سلوك بوت الدردشة المتفلت، وذلك بحصر كل جلسة بخمس أسئلة للمستخدم). فبدلاً من تقديم قائمة بالروابط والإعلانات، يقوم برنامج الدردشة بتقديم المعلومات بصورة مباشرة، وربما يرفقها ببعض الهوامش للتوسع في القراءة. ومن الممكن حتى أن يقدم الإجابات إليك بلهجة القراصنة أو على شكل قصيدة شعرية، إذا طلبت ذلك.

اقرأ أيضاً: تشات جي بي تي يسقط ورقة التوت عن المنشورات المحكمة

قبل أن يظهر مستطيل البحث من جوجل ويهيمن على مجال الوصول إلى المعلومات الرقمية، كان هذا النوع من الإجابات المركبة يمثّل تصورنا حول المستقبل الرقمي. وقد تمكن بعض أوائل المستشرفين، مثل فانيفار بوش، من رؤية بحار المعلومات التي تحيط بنا، وتخيل أنظمة تُتيح لنا متابعة “المبتكرين” والمخترعين.

وقد تخيل كتّاب الخيال العلمي في الثمانينيات والتسعينيات أنظمة ذكاء اصطناعي تعمل بصورة مشابهة لمشرفي المكتبات (بل وكانت توصف أحياناً بهذه الطريقة) مثل النظام الفرعي المهذب في رواية تحطم الثلج (Snow Crash) للكاتب نيل ستيفنسون، والذي يستطيع تلخيص الكتب، وربط المعلومات، وإجراء حوارات طويلة مع البشر.

وقد استثمرت داربا (DARPA)، وهي قسم الأبحاث في الجيش الأميركي، الملايين من الدولارات في مشروع يحمل اسم “المساعد الشخصي الذي يتعلم” (“بال” (PAL) اختصاراً) لبناء شيء حقيقي مشابه للقادة العسكريين. وقد أدّى هذا المشروع في نهاية المطاف إلى المساعد الصوتي سيري، وأطلق حلم الحاسوب الذي يمكنك أن تتحدث معه فعلياً.

ستكون الواجهة التخاطبية التي تعتمد على الحوار نقلة نوعية من الطريقة التي دربنا أنفسنا على استخدامها للعمل مع الأنظمة التي تعتمد على الكلمات المفتاحية، مثل جوجل. فعندما أرغب بتوجيه سؤال معقد إلى الإنترنت، غالباً ما أضطر إلى تطبيق الهندسة العكسية على سؤالي، محاولاً أن أتخيل السيناريوهات المحتملة التي ربما تمكن شخص آخر فيها من الإجابة عن سؤالي في سياق مختلف للغاية عن سياقي.

إن قائمة نتائج البحث التي يقدّمها محرك البحث، مع الروابط التي تحظى برعاية خاصة في الأعلى، تقدّم لي خيارات حول المسار الذي يجب أن أتبعه، والسلطة التي يجب أن أصدقها. وسرعان ما يتعلم كل مستخدم للإنترنت تحديد المصداقية والفائدة الظاهرية لكل رابط بالنظر إلى العنوان، وكيفية ظهوره في نتائج شريط بحث جوجل.

اقرأ أيضاً: كيف سيكون الحال مع بوتات الدردشة التي تكذب وتختلق المعلومات أيضاً؟

“البحث عن المعرفة”

إن استخدام الحوار بدلاً من استعلامات قواعد البيانات يمثّل تحولاً فيما وصفته جوجل منذ فترة طويلة بأنه سعي من أجل “البحث عن المعرفة” عند مستخدميها. فشريط البحث التقليدي يتسم بأنه واسع الانتشار، وأساسي، وخفي تقريباً. ولكن بوتات الدردشة الجديدة تحمل صفات مختلفة. فهي تُعرّف عن نفسها، وتتواصل مع المستخدم، وتقدّم معلوماتها للمستخدمين مرفقة بلمسة شخصية من التفاعل معهم. كما أنها تقوم بتركيب الإجابات، والاستنباط، وتتيح زيادة دقة الإجابة عن طريق الأسئلة الإضافية والحوار. وتقدم حتى إيحاء بإطلاق الأحكام.

وبدلاً من قائمة من المصادر المحتملة، أصبح لدينا صوت واحد. فعندما يتفاعل المستخدمون مع بينغ (فلترقد شخصيته الرقمية التي تعتمد على تشات جي بي تي، سيدني، بسلام) أو بارد، فإن المواقع المستخدمة للحصول على الإجابة تتحول إلى ملاحظات هامشية، أو تختفي تماماً. ولا تقوم هذه البوتات بالإفصاح عن طريقة عملها. إنها طريقة مغرية لكل شخص كان يصاب بالإحباط عند الفشل في عملية البحث، ويتمنى لو يقوم محرك البحث جوجل بتقديم الإجابة بصورة مباشرة ببساطة، ولكنها مثيرة للقلق أيضاً.

فإذا تجاوزنا المشكلات التي ارتكبتها هذه الأنظمة، والتي تم توثيقها بشكل جيد، مثل ارتكاب الأخطاء، وابتداع المعلومات، وإصابة المستخدمين بالاستغراب الشديد والخوف، فإن وهم وجود إجابة واحدة شاملة ومترابطة يمكن أن يكون خطيراً للغاية، لأن الحقيقة تتسم بطبيعة معقدة ومثيرة للجدل.

اقرأ أيضاً: هل فات أوان إنقاذ الإنترنت؟

إن الفرق بين السؤال العادي واستعلام قاعدة البيانات يمكن أن يؤثر بشدة على علاقتنا مع المعرفة البشرية مترامية الأطراف، ومع بعضنا بعضاً أيضاً. فقائمة نتائج البحث، مهما كانت عرضة للتلاعب والتغيير، تمثّل تذكيراً بوجود إجابات متضاربة ومتناقضة لسؤالك. أما واجهة التفاعل الحوارية التي تعتمد على نظام ذكاء اصطناعي يتحدث بطريقة ساحرة ومنمقة فهي تخفي كل هذه المشكلات عنك.

وقد تتحول هذه الأنظمة إلى طبقة إضافية من التغطية، والتي تفصلنا عن المعرفة البشرية بشكلها الصرف. وستصبح صندوقاً أسود إضافياً، ولكنه قادر على التحدث وإطلاق النكات وتأليف القصائد عند الطلب. ومن سخرية الأقدار أن أوبن أيه آي تحاول حل مشكلة مستعصية تعاني منها هذه الأنظمة، وهي “هلوسة” المعلومات المزيفة، عن طريق تعليمها كيفية التأكد من نتائجها باستخدام محرك بحث.

حراس جدد للمعلومات

ولكن بيع نقرات البوتات سيكون أصعب بكثير. فماذا سيحدث لاقتصاد النقرات إذا تحول نظام ذكاء اصطناعي حذق اللسان إلى كيان غريب هجين بين ناطق وعراف، أو إلى شيء يمثّل كياناً رقمياً يجسد كل المعرفة البشرية؟ قد تجد مصادر المعلومات الغنية، مثل الصحف والمنتديات الحوارية، أن هذه الأنظمة تقوم بتجميع المواد منها، وتعيد صياغتها بصورة فائقة الفصاحة إلى درجة أنه لن يتكلف أي شخص عناء الاطلاع على الصفحة الأصلية.

وقد يبدو هذا الوضع مرشحاً للانزلاق إلى ما يشبه لعبة رشوة خلفية، حيث يعتمد صانعو المحتوى على الشركات التكنولوجية العملاقة كي تقدم لهم نسبة من العائدات، دون وجود أي طريقة مستقلة للتحقق من الأرقام الفعلية التي يحققونها.

إن التساؤل حول طبيعة نموذج الأعمال لهؤلاء الحراس الجدد للمعلومات، ومزودي هؤلاء المعلومات في أنحاء الإنترنت كافة، والذين أصبحوا فجأة مخفيين عن الأعين، يودي بنا إلى مسألة أكثر عمقاً: فنحن نتحدث هنا عن تكليف إدارة الإنترنت إلى مهندس جديد. تعتمد محركات البحث على الروابط التشعبية، وهي تمثل وصلات حصرية بين الكلمات والصفحات القابلة للقراءة والبرمجة من قبل البشر. ومنذ ظهور الموسوعات الحديثة، يمكن أن نقول إن هيكلية المعرفة البشرية التجريبية مبنية بالكامل على أساس الهوامش والملاحظات والمراجع المتقاطعة.

اقرأ أيضاً: كيف يمكنك التأكد أنك تحادث بشراً وليس برنامج بوت؟

وعلى النقيض من ذلك، فإن النماذج اللغوية الكبيرة مثل تشات جي بي تي هي أنظمة تعلم آلي تقوم، وفقاً لتصميمها، بكشف العلاقات المعقدة بين الكلمات والجمل بناء على الاحتمالات، ما أدّى إلى تسميتها “الببغاوات الاحتمالية“. ولا يوجد بشري واحد، بمن في ذلك المهندسون الذين صمموا هذه الأنظمة، يستطيع كشف معلومة واحدة حول كيفية عمل تلك الترابطات بين الآلاف أو الملايين من المتحولات، أو سبب وجود هذه الترابطات، وهو الأمر الأكثر أهمية.

وهو ما يزيد من صعوبة تصحيح الأخطاء أو منع الأذى دون الاعتماد على الرقابة أو الفلاتر الخرقاء. إن التحول من الروابط إلى العلاقات الاحتمالية يشبه الانتقال من الفيزياء الكلاسيكية إلى الفيزياء الكمومية بكل غرائبها، أو من الحقيقة (الصدق) إلى الحقيقة المرجوة (ادعاء المصداقية). وكيف توصلنا إلى هذه النتيجة؟ لأن بوت الدردشة أخبرنا بها.