نحن لا نرى الواقع الحادث فعلاً، بل نراه من خلال ذكرياتنا السابقة

4 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

نشر موقع “ساينس ديلي ScienceDaily” تقريراً عن بحث جديد نُشر في دورية جورنال أوف إكسبيريمنتال سايكولوجي: جنرال (Journal of Experimental Psychology: General)، وقد ذُكر في التقرير أننا قد لا نكون قادرين على تغيير الأحداث الأخيرة في حياتنا، ولكن كيفية تذكُّرنا لها تلعب دوراً رئيسياً في كيفية قيام الدماغ بنمذجة ما يحدث في الوقت الحالي والتنبّؤ بما قد يحدث في المستقبل.

يقول جيف زاكس (أستاذ علوم النفس والدماغ في كلية الآداب والعلوم بجامعة واشنطن في سانت لويس، ومؤلف الدراسة): “إن الذاكرة ليست لمحاولة التذكُّر، وإنما للقيام بما هو أفضل في المرة القادمة”.

وهذه الدراسة -التي شارك في تأليفها كريس والهايم من جامعة نورث كارولينا في جرينزبورو (UNCG)- تجمع عدة نظريات ناشئة حول وظيفة الدماغ، لتشير إلى أن القدرة على اكتشاف التغيُّرات تلعب دوراً حاسماً في كيفية مواجهتنا للعالم المحيط بنا وتعلُّمنا منه.

ويُعرف هذا النموذج باسم “نظرية استعادة ذكريات الأحداث ومقارنتها” ويقوم على بحث سابق أجراه زاكس وزملاؤه، وأشار إلى أن الدماغ يقارن باستمرار بين المدخلات الحسية الناجمة عن التجارب الجارية، وبين نماذج العمل للأحداث الماضية المماثلة التي قام بإنشائها من الذكريات ذات الصلة.

وإذا لم تتطابق الحياة الواقعية مع “نموذج الحدث”، فإن النظرية تفيد بأن أخطاء التنبّؤ تبرز ويقوم اكتشاف التغيُّرات بإطلاق سلسلة من المعالجة المعرفية التي تعيد تغذية الدماغ لتعزيز الذكريات لكل من أحداث النماذج القديمة والتجربة الجديدة.

يقول والهايم: “نحن نقدم دليلاً على الآلية النظرية التي تشرح كيفية قيام الناس بتحديث تظاهرات الذاكرة لتسهيل معالجتهم للتغيُّرات في الأعمال اليومية للآخرين، وقد توضِّح هذه النتائج في النهاية كيفية تأثير معالجة التغيُّرات اليومية على كيفية توجيه الناس لأفعالهم الخاصة”.

وقام زاكس ووالهايم في دراستهما الحالية باختبار نموذج اكتشاف التغيُّرات من خلال تجارب استفادت من الحقيقة الموثَّقة بشكل جيد حول كون كبار السن غالباً ما يواجهون صعوبة أكبر في تذكُّر تفاصيل الأحداث الأخيرة.


تقترح نظرية استعادة ذكريات الأحداث ومقارنتها أن الحدث الحالي يُظهر استعادة إشارات لتظاهرات الأحداث الأخيرة المرتبطة به، وتقوم كل من هذه التظاهرات والمعلومات الإدراكية الجارية بتغذية التنبّؤات حول خصائص الأحداث القادمة، ويؤدي تغيّر الخصائص في الأحداث القادمة إلى تنبّؤات خاطئة وتحديث نموذج الأحداث، في حين تميل الخصائص المتكررة لأن تؤدي إلى الحفاظ على استقرار نماذج الأحداث.
حقوق الرسم التخطيطي: والهايم/زاكس، من مقال بعنوان ” Memory guides the processing of event changes for older and younger adults”.

وقد تم عرض مقاطع مرئية لمجموعات من البالغين الأصحاء الأصغر سناً والأكبر سناً، وكانت عن امرأة تمارس سلسلة من الأنشطة اليومية الروتينية، مثل غسل الأطباق أو الاستعداد للتمارين الرياضية. وبعد مرور أسبوع تم عرض مقاطع مرئية مماثلة، ولكن تمَّ فيها تغيير بعض تفاصيل الأحداث.

وقال زاكس: “عندما قام المشاهدون بتتبُّع التغيُّرات في مقاطع الفيديو المختلفة هذه، فقد كانت لديهم ذاكرة ممتازة لما حدث في كل يوم، ولكن عندما فشلوا في ملاحظة التغيُّر، فلم تكن الذاكرة جيدة”.

“وقد تفسِّر هذه التأثيرات بعض المشاكل التي يعاني منها كبار السن مع الذاكرة؛ فقد كانوا في هذه التجارب أقل قدرة على تتبُّع التغيُّرات، وهذا ما يفسِّر بعض الانخفاض في أداء الذاكرة لديهم”.

وقد أظهر بحث سابق أجراه زاكس وآخرون أن الدماغ يجزِّئ أنشطة الحياة اليومية إلى سلسلة من الأحداث البارزة الأصغر أو “كتل”، وأن قدرتنا على تمييز التحوُّلات أو “الحدود” بين هذه الكتل لها عواقب على كيفية حفظ هذه التجارب في ذاكرتنا.

فقد تبيّن مثلاً أن مجرد السير عبر أحد الأبواب -وهو الذي يدركه الدماغ على أنه “حدٌّ للحدث”- من شأنه أن يقلِّل من تذكُّرنا للمعلومات التي تمت معالجتها قبل دخولنا إلى الغرفة الجديدة، وبالتالي نجد أننا ننسى أحياناً سبب دخولنا إلى الغرفة في المقام الأول.

ويُعرف هذا النموذج لوظيفة الدماغ -وهو الذي يقوم على الأحداث- باسم: نظرية تجزئة الأحداث، وقد اكتسب مصداقية على مدى العقد الماضي.

وقد استخدم زاكس (مؤلف كتاب “Flicker: Your Brain on Movies”)- نظرية تجزئة الأحداث لتوضيح كيفية قيام الدماغ بمعالجة الانتقالات السريعة في الأفلام وغيرها من تقنيات صنع الأفلام، التي تجبر المشاهدين على معالجة المدخلات الحسية بطرق لا يمكن للتطور أن يتنبأ بها أبداً.

وقد تعتمد نماذج الأحداث على تجارب شخصية سابقة، ولكنها قد تتضمن أيضاً بعض الإدراكات التي تم جمعها من المحادثات مع الأصدقاء أو من مواقف مشابهة تم وصفها في الكتب والأفلام والتلفاز.

وهكذا، يمكن أن يستند “نموذج الأحداث” لشخص ما حول يوم الزفاف المستقبلي إلى حفلات الزفاف الأخرى التي حضرها والمعلومات السابقة التي أخذها من العائلة والأصدقاء والحكايات المستقاة من تكرار مشاهدة فيلم “My Big Fat Greek Wedding” مثلاً.

وتقوم نظرية استعادة ذكريات الأحداث ومقارنتها بتطوير نموذج تجزئة الأحداث عن طريق إدخال بعض المفاهيم من إطار “الذاكرة من أجل التغيير”، وهي النظرية التي تم طرحها في البحث الأخير من قِبل والهايم ولاري جاكوبي.

ومن الجدير بالذكر أن جاكوبي هو عالم نفسي إدراكي بارز، ومعروف بأبحاثه على التفاعل بين تأثيرات الذاكرة التي يتم التحكم فيها بشكل واعي بالمقارنة مع التأثيرات الأكثر تلقائية، وهو الآن أستاذ شرف في العلوم النفسية والدماغية في جامعة واشنطن.

وأكمل والهايم درجة الدكتوراه وتدريبه التالي للدكتوراه في جامعة واشنطن، ويدير الآن مختبر الذاكرة والإدراك بصفته أستاذاً مساعداً في جامعة نورث كارولينا في جرينزبورو.

وفي بحث حديث، قام جاكوبي ووالهايم بتعريض المشاركين في الدراسة إلى سلسلة من القوائم التي تضمنت أزواجاً من الكلمات المترابطة، بما فيها بعض القوائم التي تم فيها إقران كلمة معروضة سابقاً مع كلمة جديدة.

وفي حين أن رؤية نفس الكلمة “المحفِّزة” المرتبطة بالعديد من أزواج الكلمات أظهرت أنها تسبب بعض التضارب في عملية التذكّر، إلا أن جاكوبي ووالهايم وجدا أن الذاكرة تحسّنت عندما قام المشاركون بتمييز التغيّر أثناء العرض وعندما تذكّروا لاحقاً أنه قد تم تمييز هذا التغيّر.

ويقترح إطار الذاكرة من أجل التغيير أن ملاحظة التغيّر هو أمر بالغ الأهمية في إنشاء أثر للذاكرة يربط كل هذه الأحداث معاً، مما يقوي ذاكرتنا فيما يتعلّق بالاقتران الأصلي وتمييز التغيّر والاقتران الجديد.

وتبحث الدراسة الحالية ظاهرة الذاكرة من أجل التغيير ضمن سيناريو طبيعي بشكل أكبر، حيث تحلُّ مقاطع فيديو للأنشطة اليومية محلَّ قوائم الكلمات المقترنة، كما أنه يضيف عنصراً زمنياً من خلال اقتراح أن مقاطع الفيديو تمثل أنشطة تم تصويرها بتباعد زمني يبلغ الأسبوع.

وتشير النتائج إلى أن إنشاء ارتباطات تستند إلى الوقت يحسِّن التذكُّر؛ لأن الذاكرة المتعلِّقة بحدث لاحق تصبح متضمِّنة لأثر يحتوي تذكيراً بحدث سابق، أي أن الأحداث الجديدة تتضمن أحداثاً سابقة، ولكن ليس العكس.

وعلى نطاق أوسع، فإن هذه الدراسات تقدِّم دليلاً على أن إحدى الوظائف الرئيسية لذاكرتنا هي مساعدتنا على تذكُّر الخبرات ذات الصلة وربطها بما يحدث في الأوساط الحالية.

يقول زاكس: “إن دراستنا تدعم النظرية القائلة بأن التنبُّؤات القائمة على أحداث قديمة تساعدنا في تمييز التغيّرات وحفظ الحدث الجديد. وتعتبر ذكريات التجارب الحديثة قيِّمةً، لأن من الممكن استخدامها للتنبؤ بما سيحدث في المواقف المماثلة القادمة، ولأنها تساعدنا على تحسين أدائنا في التعامل مع ما يحدث الآن”.