باستخدام أدوات إدارة سلاسل التوريد: الذكاء الاصطناعي يساعد على معالجة مشاكل الرعاية الصحية

7 دقائق
الذكاء الاصطناعي يساعد على معالجة مشاكل الرعاية الصحية بطريقة مشابهة لمعالجة مشاكل سلاسل التوريد:
حقوق الصورة: صور أسوشييتد برس/ جيروم ديلاي.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يمكن أن نشبه إدارة نظام رعاية صحية بالعناية بالنحل، فهناك الملايين من القطع المتحركة، بدءاً من العيادات المتنقلة وصولاً إلى مجموعات الاختبارات، والتي يجب أن تكون في المكان الصحيح في الوقت الصحيح. وتزداد صعوبة هذا الأمر في البلدان محدودة الموارد والتي تنتشر فيها الأمراض المتوطنة.

ولكن إيصال الأشياء إلى حيث يجب أن تكون هي معضلة تتعامل معها الشركات الكبرى طوال الوقت. وقد بدأت المجموعات العالمية في مجال الرعاية الصحية باعتماد بعض من تقنياتها، فقد بدأت بعض بلدان العالم الأقل ثراء باستخدام أدوات إدارة سلاسل التوريد التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحسين قدرة الناس على الحصول على الاختبارات والعلاج.

وتعتمد منظمات الرعاية الصحية على هذه البرمجيات للمساعدة في اتخاذ القرارات حول أماكن تأسيس العيادات الجديدة، وكيفية توزيع التجهيزات والطواقم، وتحديد أولويات الإنفاق. ويمكن أن تُستخدم نفس الأدوات قريباً للمساعدة في إدارة برامج الصحة في الولايات المتحدة أيضاً.

نصف سكان العالم يعانون من صعوبة الوصول إلى الخدمات الطبية الملائمة

هناك 1% فقط من العيادات و14% فقط من المستشفيات في البلدان منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل حيث يوجد ما يكفي من التجهيزات والطواقم لتشخيص الأمراض المتوطنة، مثل الإيدز والسل والملاريا، وذلك وفقاً لتقرير يعود إلى العام 2017 ظهر في نشرة منظمة الصحة العالمية. وقد توصلت لجنة شكلتها المجلة الطبية “ذا لانسيت” (the Lancet) في 2021 إلى أن نحو نصف سكان العالم يعانون من صعوبة الوصول إلى خدمات الاختبارات أو الحرمان الكامل منها. وحتى عند توافر هذه الاختبارات، فإن النتائج تكون في أغلب الأحيان غير دقيقة أو متأخرة لدرجة زوال فائدتها السريرية. 

اقرأ أيضاً: إليك أهم ميزات اعتماد الحوسبة السحابية في الرعاية الصحية ومعوقات تطبيقها

الاستفادة من تجارب تحسين أداء سلاسل التوريد

وقد أدركت المنظمات الصحية العالمية أن نظرة شاملة إلى هذا الوضع تكشف أن هذه المشاكل أقرب ما تكون إلى مشكلة سلسلة توريد. ويتساءل جون سارجنت، وهو طبيب وأحد مؤسسي مجموعة برود ريتش: “لمَ تستطيع شركة كوكا كولا إيصال المشروبات الغازية المثلجة إلى بعض من أبعد الأماكن في العالم، على حين لا نستطيع تحقيق شيء مماثل في الرعاية الصحية؟” تقوم منظمة إدارة الرعاية الصحية بإدارة أحد أضخم برامج رعاية وعلاج مرضى الإيدز باستخدام برمجيات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك التوائم الرقمية، وهي أدوات تقوم بمحاكاة العمليات المعقدة عن طريق تمثيل رقمي لموارد العالم الحقيقي، مثل البضائع والمستودعات وخطوط النقل. وتعتمد خوارزميات التعلم الآلي على عمليات المحاكاة هذه لتوقع المشاكل واقتراح الحلول.

وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، بدأت الشركات عبر عدة صناعات، بدءاً من التجارة بالتجزئة وصولاً إلى التصنيع، باستخدام التوائم الرقمية للصمود في وجه أعتى الهزات العنيفة والمتواصلة التي تتعرض لها سلاسل التوريد العالمية. تقول هايدي ألبرت، وهي مديرة منظمة فايند في جنوب إفريقيا: “لقد أردنا أن ننظر إلى شبكة الرعاية الصحية في البلاد بصورة متأنية وشاملة، وهو ما قادنا إلى التفكير في سلاسل التوريد”. فايند FIND (وهو اختصار بالإنجليزية لعبارة منظمة التشخيص الإبداعية الجديدة “Foundation for Innovative New Diagnostics”) هي منظمة غير ربحية تعمل انطلاقاً من سويسرا. وتمثل الاختبارات واحدة من أضعف الحلقات في الرعاية الصحية العالمية، كما تقول ألبرت: “تهدف إلى توفير الاختبارات لجميع من يحتاجها”.

اقرأ أيضاً: مستقبل الرعاية الصحية: كيف ستغير جائحة كوفيد-19 الرعاية الصحية خلال العقود القادمة؟

دور التوائم الرقمية في تحديد الثغرات ومعالجتها

ويتطلب هذا الهدف توزيع مقدار محدود من الموارد عبر كامل نظام الرعاية الصحية، ما يحول المشكلة إلى مسألة أمثَلَة: أي كيف نحقق أفضل النتائج باستخدام ما هو متوافر لدينا. وبنمذجة الموارد والعلاقات بينها، تستطيع التوائم الرقمية تحديد الثغرات في الخدمة، وتوقع الاضطرابات، وتعديل التوزيع وطريقة العمل لدراسة مختلف السيناريوهات المحتملة.  

تعمل فايند مع شركة “كوبا” (Coupa) في أميركا، وهي شركة لبيع برمجيات إدارة الأعمال، وذلك لبناء أداة تقوم بعملية أمثلة خدمات الاختبارات. وقد كانت كوبا تعمل على تعديل برنامجها الخاص بالأعمال “أوبتي دي إكس” (OptiDx) لاستخدامه في تطبيقات الرعاية الصحية على مدى السنوات الأربع الماضية. وباستخدام عدة تقنيات حوسبة لنمذجة وتحليل العمليات المعقدة، بما فيها التعلم الآلي، تستطيع أدواتها توقع الطلب وتحديد أفضل الإجراءات لتلبيته.   

أوبتي دي إكس مصمم لاستخدام هذه التكنولوجيا لمساعدة مشرفي الرعاية الصحية، بدءاً من المسؤولين الحكوميين وصولاً إلى الممرضات، على توزيع الموارد بفعالية، والحرص على وضع التجهيزات والطواقم في أفضل الأماكن. وبمحاكاة زيادة الطلب في التوأم الرقمي لمنشآت الاختبارات في بلد معين، على سبيل المثال، تستطيع الحكومية تحديد ما تحتاجه من العيادات والتجهيزات الإضافية، وتعداد المتغيرات لدراسة السيناريوهات الافتراضية.

وقد بدأت فايند وكوبا بتجريب البرنامج في زامبيا وفييتنام وبنغلاديش وبوركينا فاسو. ففي زامبيا، أدت توصيات الأداة إلى تخفيف المسافة الوسطية اللازمة لنقل عينات اختبارات الإيدز إلى 4.8 كيلومتراً، أي أقل من المسافة السابقة بأحد عشر ضعفاً.

وحالياً، تقوم فايند بإطلاق أوبتي دي إكس في 15 بلداً آخر، بما فيها كينيا وليسوثو والهند والفيليبين. وقد بين البرنامج في الفيليبين أن عيادة واحدة يمكن أن تجري نفس العدد من الاختبارات باستخدام تجهيزات أقل من المتوقع، ما يسمح للعيادة بإعادة توزيع جزء من ميزانيتها.

وتقوم فايند حالياً بمراقبة ما إذا كانت توصيات الأداة مفيدة، وما إذا كانت تُطبق عملياً. تقول ألبرت: “هذا شيء يجب أن تكون البلدان قادرة على امتلاكه بنفسها، ومن أهم المفاتيح وضع قوة البيانات في أيدي الناس الذين يحتاجون إلى اتخاذ القرارات”.

اقرأ أيضاً: كيف يساهم الذكاء الاصطناعي في جعل الرعاية الصحية أكثر عدلاً؟

ماذا عن الهواتف الذكية؟

تستخدم برود ريتش أداة تسمى “فانتاج” (Vantage)، وهي أداة بُنيت بالتشارك مع “مايكروسوفت” (Microsoft)، لتحديد العيادات التي تعاني من نقص في الطواقم وإرسال عاملي الرعاية الصحية إلى حيث توجد حاجة إليهم. ففي 2020، في أولى أسابيع الوباء، عملت برود ريتش مع فايند لتقييم مدى استعداد مقاطعتين في جنوب إفريقيا لمواجهة كوفيد، وحددت النواقص في تجهيزات الحماية والأطقم في أكثر من 300 عيادة في غضون ثلاثة أيام فقط. 

ويقول سارجنت إنه تعلم حول أنظمة الرعاية الصحية في إفريقيا بشكل عملي عندما كان يعمل في مخيمات اللاجئين قبل الذهاب إلى كلية الطب. وقام لاحقاً بتأسيس برود ريتش مع زميله الطبيب إرنست داركو، والذي ترعرع في تنزانيا وكينيا. يقول سارجنت: “يمكنك الذهاب إلى عيادات ريفية في أماكن مثل زامبيا، وسترى سجلات المرضى ما زالت مكتوبة على الورق”. ولكن هذا لا يعني أن التكنولوجيا غير موجودة: “فالممرضات يستخدمن الهواتف الذكية وتطبيق فيسبوك يقترح عليهن منشورات قد تعجبهن”. 

إضافة إلى مراقبة النقص، تقوم برود ريتش بتتبع الأفراد المرضى عبر أكثر من ألف عيادة في عدة بلدان إفريقية، وتراقب ما إذا كانوا يحصلون على العلاج الذي يحتاجونه، إضافة إلى متابعته. وعلى الرغم من أن العيادات تقوم بذلك أيضاً، فإن فانتاج تعتمد أيضاً على التعلم الآلي، وقد تم تدريبها على مئات الآلاف من السجلات السريرية والبيانات الاجتماعية مجهولة الهوية، وذلك لتحديد الأشخاص الذين يرجح أن يتركوا العلاج، وتقترح أن يقوم عاملو الرعاية الصحية بمتابعة حالاتهم استباقياً.

وقد استخدم معهد دراسات الفيروسات في نيجيريا فانتاج في 2021 لتوقع هويات 30,000 شخصاً كانوا معرضين للتوقف عن تناول أدويتهم للإيدز عبر 3 مواقع في نيجيريا.  وقد وجدت الأداة أن 91% ممن تلقوا اتصالاً أو زيارة من عمال الرعاية الصحية كنتيجة لهذا التقييم تابعوا تناول أدويتهم بانتظام، مقارنة مع 55% ممن لم يتم الاتصال بهم.

ووفقاً لبرود ريتش، فإن عمال الرعاية الصحية في عدد من عيادات الإيدز قالوا إن الأداة ساعدتهم على الحفاظ على علاقة أكثر قوة مع مرضاهم بمساعدتهم على التركيز على من يحتاجون المتابعة أكثر من غيرهم. 

اقرأ أيضاً: كيف يساهم الذكاء الاصطناعي في قطاع الرعاية الصحية؟

ما يُسمى بالدول المتطورة

تريد برود ريتش أيضاً إتاحة استخدام برنامجها في الولايات المتحدة. يقول سارجنت: “عندما بدأ الوباء بالانتشار تقريباً، كنا قد أدركنا أن الأنظمة الصحية في الكثير من البلدان التي تُعتبر متطورة لم تكن عالية المستوى إلى هذا الحد، ما أدى إلى إهمال شرائح كبيرة من السكان”. 

وتشارك برود ريتش في أربعة مشاريع تجريبية مع مؤسسات لتوفير الرعاية الصحية ومؤسسات تأمين في الولايات المتحدة. وفي أحد هذه المشاريع، تعاملت مع انخفاض معدلات التطعيم في بعض مناطق كولورادو باستخدام التعلم الآلي لتوقع الأماكن التي يجب وضع مواقع التطعيم فيها، والتجمعات السكانية التي يجب تغطيتها. لقد افترض مسؤولو الصحة المحليون أن الموارد يجب أن تكون مركزة في المناطق الحضرية لتلقيح أكبر عدد ممكن من الأشخاص. ولكن فانتاج كشفت أن التركيز في التجمعات السكانية الريفية منخفضة الدخل من أبناء الأقليات سيحدث تأثيراً كبيراً. 

أيضاً، تعمل برود ريتش مع مؤسسة تأمين في كاليفورنيا على معالجة التباينات في طريقة التزام الناس في شرائح مختلفة بنظام العلاج بالستاتينات، وهي عقاقير مستخدمة في معالجة ارتفاع مستوى الكولسترول. وبدراسة البيانات، تحاول برود ريتش تحديد التفسيرات الممكنة في الظاهرة التي لاحظتها مؤسسة التأمين. كما أن بعض التجمعات السكانية تعاني من ضعف خطوط النقل إلى العيادات، ما قد يؤدي إلى منع البعض من زيارة أطبائهم لتجديد وصفاتهم الطبية. وتوجد لدى البعض الآخر مشكلة ثقة قديمة إزاء نظام الرعاية الصحية، كما يقول سارجنت. 

وفي نهاية المطاف، يرغب سارجنت برؤية فانتاج تقوم بتوقع معاملات الخطر للمرضى الأفراد. وعلى سبيل المثال، وبالنسبة لشخص يتكلم الإسبانية ولا يعيش قرب عيادة، يمكن أن ينصح البرنامج بأن تؤمن شركة التأمين عامل رعاية اجتماعية يتكلم الإسبانية وقسيمة لركوب التاكسي، كما يقول. 

اقرأ أيضاً: هل سيثبت الذكاء الاصطناعي جدارته في قطاع الرعاية الصحية؟

صعوبة جمع البيانات اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي

ولكن الحصول على البيانات اللازمة لتدريب الذكاء الاصطناعي لتقديم توقعات كهذه ليس بالأمر السهل، ففي الولايات المتحدة، لا تقوم المؤسسات التي تؤمن الرعاية الصحية عادة بمشاركة بياناتها. ويقول سارجنت إن برود ريتش تحاول الالتفاف حول هذه المشكلة بجمع السجلات الطبية مع بيانات اقتصادية واجتماعية، مثل الرموز البريدية والتاريخ الائتماني للأشخاص. ويقول: “لدينا شراكات مع شركات تقدم بيانات المستهلكين، لأنه يمكن معرفة الكثير عن المريض من أنماطه السلوكية والظروف التي يعيش فيها، ونقوم بتركيب جميع هذه البيانات معاً للحصول على تصور حول الشرائح السكانية بالكامل وحول كل مريض على حدة”. 

أما موقف الناس من هذا النوع من المراقبة فسوف يعتمد على الفوائد التي تجلبها لهم عملياً، حيث تعتمد العديد من المؤسسات –بما فيها الشركات الائتمانية ووكالات التوظيف والشرطة وغيرها- البيانات الاجتماعية الاقتصادية التي تعتمد عليها برود ريتش في محاولة لتوقع السلوك الفردي المرجح في المستقبل. وقد أدت التحيزات الموجودة في هذه البيانات إلى ردة فعل قوية -ومحقة- من مجموعات الحقوق المدنية. 

كما أدت اقتراحات الحكومات لمشاركة البيانات الطبية في عدة دول إلى ردود فعل سلبية، بما فيها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، وذلك كما يقول نيكلسون برايس، والذي يدرس التساؤلات الأخلاقية والقانونية التي تحيط باستخدام البيانات الشخصية في جامعة ميشيغان. ولكن هذا لم يردع الشركات عن جمع البيانات الطبية مع بيانات المستهلكين. يقول برايس: “لقد كانت الشركات تقوم بهذا منذ عدة سنوات، ولكن بشكل أقل علنية. هناك جو من الاستكانة والاستسلام لما يحدث، ويبدو أننا غير قادرين على إيقافه. ولكن، قد تكون هناك ناحية إيجابية من حيث احتمال الحصول على بعض الفوائد من هذا العمل أيضاً، بدلاً من أن نتعرض للإعلانات والتلاعب دون فائدة”.