لماذا لم يتمكن الذكاء الاصطناعي من إحداث تغيير جذري في أغلب الشركات؟

7 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لم يطرأ تغير يذكر على فن صناعة العطور والكولونيا منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، عندما بدأ استخدام المكونات الاصطناعية. ويتلاعب خبراء العطور بتراكيب المواد الكيميائية على أمل إنتاج روائح جديدة جذابة. وهو ما دفع أكيم داوب، المدير التنفيذي في سيمرايز – وهي إحدى أكبر شركات العطور في العالم – للتساؤل عما يمكن أن يحدث إذا ما استُعين بالذكاء الاصطناعي في هذه العملية.

هل ستتمكن آلة من اقتراح تراكيب جديدة ومثيرة قد لا يفكر الإنسان بتجربتها؟

وهكذا، طلب داوب خدمات آي بي إم لتصميم نظام حاسوبي يقوم بدراسة كميات هائلة من المعلومات، مثل صيغ وتراكيب العطور الموجودة، وبيانات المستهلكين، والمعلومات المتعلقة بتنظيم صناعة العطور، وغير ذلك، ومن ثم يستخدم كل ذلك لاقتراح تراكيب جديدة موجهة لأسواق محددة. أُطلق على النظام اسم فيليرا، تيمناً بالإلهة الإغريقية للعطور. وبغض النظر عن الاسم الشاعري، فإن هذا النظام لا يستطيع أن يشم شيئاً، وبالتالي لن يستطيع أن يحل محل أخصائيي العطور البشريين، ولكنه سيقدم لهم المساعدة لابتكار شيء جديد.

يشعر داوب بالرضا عن العمل حتى الآن. فقد تم ابتكار عطرين موجهين للزبائن من الجيل الشاب في البرازيل، وسيُطرحان للبيع هناك في يونيو المقبل. لا يستخدم النظام حالياً سوى بضعة مصممين من أصل 70 مصمماً للعطور في الشركة، ولكن داوب يتوقع أن يقوم الجميع باستخدامه في نهاية المطاف.

غير أنه يحرص على الإشارة إلى أن الوصول إلى هذه المرحلة استغرق سنتين تقريباً، كما تطلّب استثمارات ستحتاج إلى بعض الوقت حتى تعطي مردودها. كانت اقتراحات فيليرا الأولية فظيعة: فقد كان النظام مصراً على اقتراح وصفات للشامبو. وهو أمر متوقع، فبعد أن درس بيانات المبيعات، اكتشف أن مبيعات الشامبو تتفوق بكثير على مبيعات العطور والكولونيا. وقد استغرق تصحيح عمله الكثير من التدريب بإشراف أخصائيي العطور في سيمرايز. إضافة إلى هذا، فإن الشركة ما تزال تعاني من التحديثات التكنولوجية الباهظة والضرورية لضخ البيانات إلى فيليرا من عدة أنظمة متباينة لحفظ المعلومات، مع المحافظة على سرية بعض المعلومات لدرجة حجبها عن مصممي العطور أنفسهم. يقول داوب: “إنها عملية تعلم صعبة نوعاً ما. ولم نقترب حتى من إدماج الذكاء الاصطناعي بشكل راسخ في نظام الشركة”.

ليست شركات العطور هي الوحيدة التي قررت أن تبني تكنولوجيا التعلم الآلي من دون أن تشهد تغيراً سريعاً. وعلى الرغم مما قد تسمعه عن اكتساح الذكاء الاصطناعي للعالم، فإن الكثير من العاملين في مختلف أنواع الصناعات يقولون إن تطبيق هذه التكنولوجيا ليس بالأمر السهل، وقد يكون باهظ التكاليف، كما أن الأرباح الأولية غالباً ما تكون متواضعة.

لا شك في أننا شهدنا تطورات كبيرة في الذكاء الاصطناعي الذي أصبح قادراً على التفوق على أمهر لاعبي لعبة جو، أو حتى تشغيل الموسيقى في بعض الأجهزة وفقاً لأوامرك الصوتية. ولكن هذا مختلف تماماً عن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحقيق تغيرات كبيرة في الشركات التي ليست رقمية بطبيعتها.

لا يعني هذا طبعاً ان الذكاء الاصطناعي مجرد موضوع للضجيج الإعلامي، ولكن الخوارزميات ليست سوى جزء صغير من العوامل الهامة فعلاً في إعادة هيكلة الشركات وأساليب عملها.

قد يؤدي الذكاء الاصطناعي في نهاية المطاف إلى إحداث تحول في الاقتصاد بإتاحة ابتكار منتجات ونماذج أعمال جديدة، وذلك عن طريق توقع أشياء لا يمكن للبشر توقعها، وإراحة الموظفين من بعض الأعمال الشاقة والرتيبة. ولكن هذا قد يستغرق أكثر مما كنا نأمله أو نخشاه، حسب الموقف من المسألة. حيث أن معظم الشركات لا تولد أرباحاً كبيرة من ساعات عمل موظفيها. وتظهر الأرباح الإنتاجية بشكل كبير وواضح في الشركات الكبيرة والثرية، والتي تستطيع تحمل التكاليف الباهظة للكفاءات والبنية التحتية التكنولوجية المطلوبة لإنجاح تطبيق الذكاء الاصطناعي.

هذا لا يعني طبعاً أن الذكاء الاصطناعي مجرد موضوع للضجيج الإعلامي. ولكن فيما يتعلق بإعادة هيكلة الشركات وطريقة عملها، فإن خوارزميات التعرف على الأنماط ليست سوى جزء صغير من العوامل الهامة. أما الأهم بكثير فهي العناصر التنظيمية التي تنتشر من قسم التكنولوجيا في الشركة وصولاً إلى جميع أنحائها. ومن الناحية العملية، يجب على الجميع أن يتوافقوا مع كيفية عمل الذكاء الاصطناعي، ويعلموا نقاط ضعفه، خصوصاً الذين يُتوقع منهم أن يثقوا بأحكام هذا الذكاء الاصطناعي. ولا يتطلب كل هذا الكثير من الأموال وحسب، بل أيضاً الصبر، والدقة، ومهارات بشرية أخرى لا يمكن العثور عليها بسهولة.

البحث عن الأحصنة المجنحة

في سبتمبر المنصرم، نشر عالم البيانات بيتر سكوموروش تغريدة على تويتر قائلاً: “يمكنك أن تعتمد قاعدة عامة تقول أن نقل شركتك إلى الاعتماد على التعلم الآلي سيكون تقريباً أصعب بمائة مرة من انتقالك إلى استخدام الخليوي”. وعلى الرغم من المسحة الفكاهية للتغريدة، فإن سكوموروش لم يكن يمزح. فقد أخبره عدة أشخاص أنهم شعروا بالراحة عندما علموا أن شركاتهم لم تكن الوحيدة التي تعاني من هذه المشاكل. يشغل سكوموروش منصب المدير التنفيذي لشركة سكيب فلاج التي تقول أنها قادرة على تحويل الاتصالات الداخلية لشركة ما إلى قاعدة معرفية للموظفين، ويقول: “أعتقد أن الشركات تعاني كثيراً، خصوصاً من ناحية التوقعات الخائبة. وذلك لأن الكثيرين ينظرون إلى الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي كنوع من السحر”.

من أكبر الصعوبات في هذا المجال هي تنسيق العمل والتواصل بين الأنظمة المتباينة لتسجيل المعلومات. وهي مشكلة واجهها ريتشارد زاين أثناء عمله كمسؤول أساسي للابتكار في يو سي هيلث، وهي شبكة من المستشفيات والعيادات الطبية في كولورادو ووايومينج ونبراسكا. فقد أطلقت الشبكة مؤخراً بوت الدردشة ليفي، والذي يعتمد على تكنولوجيا اللغة الطبيعية من شركة ناشئة تسمى أفامو، وذلك لمساعدة المرضى الذين يتصلون مع يو سي هيلث أو يستخدمون موقع الويب الخاص بها. يقوم ليفي بمساعدة المرضى على تجديد وصفاتهم الطبية وكتبهم، وتأكيد مواعيدهم، ويظهر لهم معلومات عن أمراضهم.

يشعر زاين بالسرور من قدرة ليفي على التعامل مع الأسئلة الروتينية، حيث يتيح هذا لطاقم يو سي هيلث التركيز على مساعدة المرضى الذين لديهم مسائل أكثر تعقيداً. ولكنه يعترف بأن هذا المساعد الافتراضي لا يفعل سوى القليل مما قد سيحققه الذكاء الاصطناعي في المنظمة في نهاية المطاف: “إن هذا ليس سوى قمة الجبل الجليدي، ولكن بالمعنى الإيجابي”. وقد تطلب تشغيل ليفي سنة ونصفاً، ويعود هذا بشكل أساسي إلى المتاعب الفنية المتعلقة بوصل البرنامج مع سجلات المرضى، وبيانات التأمين والفواتير، وغيرها من أنظمة المستشفيات.

تعاني شركات أخرى من هذه المسائل أيضاً. وعلى سبيل المثال، فإن بعض الشركات الكبيرة للتجارة بالتجزئة تقوم بحفظ سجلات سلاسل التزويد وتعاملات الزبائن في أنظمة منفصلة، ولا يتصل أي منها بمخازن بيانات أكبر. وإذا لم تكف الشركات عن عملية الفصل هذه وتبدأ ببناء وصلات بين هذه الأنظمة، فإن التعلم الآلي لن يستخدم سوى جزء من هذه البيانات. وهو ما يفسر كون الاستخدام الأكثر شيوعاً للذكاء الاصطناعي ضمن الشركات حتى الآن في العمليات المعزولة والتي تحوي في نفس الوقت على الكثير من البيانات، مثل الأمن السيبراني أو كشف الاحتيال في البنوك.

وحتى لو تمكنت الشركة من تنظيم تدفق البيانات من عدة مصادر، فسوف تحتاج إلى الكثير من التجريب والإشراف حتى تضمن أن هذه البيانات دقيقة وذات مغزى. ويقول سانجاي سريفاستافا، المسؤول الرقمي الأساسي في شركة جيتباكت للخدمات الحاسوبية، أنه عندما تساعد شركتهم شركات أخرى على إطلاق ما يعتبرونه مشاريع للذكاء الاصطناعي، فإن “10% من العمل يتعلق بالذكاء الاصطناعي، و90% يتعلق باستخلاص وفلترة وتقييس وتنظيم البيانات”.

قد تبدو هذه الخطوات انسيابية بالنسبة لشركات مثل جوجل ونيتفليكس وأمازون وفيسبوك. غير أن الهدف الأساسي من هذه الشركات هو تجميع واستخدام البيانات الرقمية، كما أنها تحوي في صفوفها الكثير من حملة الدكتوراه في علوم البيانات، وعلوم الحاسوب، وغير ذلك من المجالات ذات الصلة. يقول سكوموروش: “هذا يختلف عن الطاقم الموجود في معظم الشركات”.

وبالفعل، فإن الشركات الأصغر غالباً ما تطلب من موظفيها البحث في عدة مجالات تكنولوجية، كما تقول آنا دروموند، وهي عالمة بيانات في شركة سانشيز للنفط والغاز للطاقة في هيوستن. وقد بدأت سانشيز مؤخراً ببث وتحليل بيانات الإنتاج من الآبار في الزمن الحقيقي. غير أنها لم تبن هذه القدرة بنفسها من نقطة الصفر، فقد اشترت البرنامج من شركة ماب آر. ولكن كان يجب على دروموند وزملائها أن يحرصوا على أن تكون البيانات الواردة من الحقل مصاغة بطريقة يمكن للحاسوب أن يفهمها. كما أن فريق دروموند شارك في تصميم البرنامج الذي يلقم المعلومات إلى شاشات المهندسين. تقول دروموند أن الأشخاص القادرين على أداء هذه المهام “لا يمكن العثور عليهم بسهولة. إنهم نادرون للغاية، وكأنهم أحصنة مجنحة خرافية. هذا ما يبطئ من عملية تطبيق الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي”.

أمضت فلور، وهي شركة هندسية ضخمة، أربع سنوات وهي تعمل مع آي بي إم لتطوير نظام ذكاء اصطناعي لمراقبة مشاريع البناء الضخمة التي يمكن أن تكلف المليارات من الدولارات، وتتضمن آلاف العمال. يعتمد النظام على البيانات العددية وبيانات اللغة الطبيعية، ويقوم بإنذار مشرفي المشاريع في فلور حول المشاكل التي يمكن أن تؤدي إلى تأخيرات أو زيادة في التكاليف.

لم يحتج علماء البيانات في آي بي إم وفلور الكثير من الوقت لبناء الخوارزميات التي سيستخدمها النظام، وفقاً لليسلي ليندجرين، وهي نائبة الرئيس لإدارة المعلومات في فلور. أما المسألة التي استغرقت وقتاً أكبر فهي تحسين هذه التكنولوجيا بمشاركة حثيثة من موظفي فلور الذين سيستخدمون النظام. وحتى يثقوا بقدرة النظام على التقييم، يجب أن يساهموا في تصميم طريقة عمله، ويجب أن يدققوا النتائج بحرص، كما تقول ليندجرين.

تقول ليندجرين أن تطوير نظام كهذا “يتطلب جمع الخبراء في مجال عمل الشركة، أي الأفضل، وهذا يعني أنهم يجب أن يتركوا المشاريع التي يعملون عليها حالياً”. وتضيف أن الاعتماد على الأفضل أمر أساسي، لأن عملية بناء نظام الذكاء الاصطناعي كانت “مهمة للغاية، وطويلة للغاية، ومكلفة للغاية” بحيث لا يمكن الاستغناء عنهم لصالح أي مشروع آخر.

بذور الذكاء الاصطناعي

عند ظهور ابتكار جديد، كم سيستغرق من الوقت حتى ينتشر في الاقتصاد؟ توصل الاقتصادي زفي جريليكيس إلى بعض الأجوبة الأساسية في الخمسينيات، وذلك بدراسة الذرة.

درس جريليكيس معدلات انتقال مزارعي الذرة في عدة أماكن من البلاد إلى استخدام الأنواع الهجينة ذات الإنتاجية العالية. ولم يكن مهتماً بالذرة نفسها بقدر اهتمامه بالأنواع الهجينة بوصفها، وفق المصطلحات العصرية، منصة للابتكارات المستقبلية. وقد كتب جريليكيس في بحث هام في 1957: “كانت الذرة الهجينة بمثابة اختراع وسيلة للاختراع، أي وسيلة لتهجين أنواع ممتازة من الذرة لمناطق محددة”.

ظهرت الأنواع الهجينة في آيوا في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. وبحلول العام 1940، كانت تشكل تقريباً كامل إنتاج الذرة في الولاية. ولكن الانتقال إلى الأنواع الهجينة لم يحدث بنفس السرعة في أماكن أخرى مثل تكساس وألاباما، حيث ظهرت لاحقاً وأصبحت تغطي حوالي نصف المساحات المزروعة بالذرة في أوائل الخمسينيات. ومن أهم الأسباب هو ارتفاع ثمن البذور الهجينة مقارنة بالبذور العادية، كما كان يجب على المزارعين شراء بذور جديدة سنوياً. ولهذا فإن الانتقال إلى هذه “التكنولوجيا” الجديدة كان يمثل مخاطرة بالنسبة للمزارع في هذه الولايات أكثر من مناطق إنتاج الذرة الأكثر غنى وإنتاجية في الغرب الأوسط.

توصل جريليكيس إلى نتيجة هامة، وأكدها اقتصاديون آخرون لاحقاً، وهي أن انتشار التكنولوجيا لا يتعلق بخصائصها الذاتية نفسها بقدر ما يتعلق بالوضع الاقتصادي للمستخدمين. حيث أنهم لا يهتمون بقدرات التكنولوجيا الجديدة، كما يفعل أخصائيو التكنولوجيا، بل بالفائدة التي ستعود عليهم من الاستثمار فيها. حالياً، يعتبر التعلم الآلي أساس جميع العمليات في شركات مثل فيسبوك وجوجل وأمازون والكثير من الشركات الناشئة، وهو سبب الثراء الاستثنائي لهذه الشركات. ولكن خارج نطاق هذه الشركات، فإن الأمور تتغير ببطء شديد، ولأسباب اقتصادية معقولة.

في سيمرايز، يعتقد داوب أن مشروع الذكاء الاصطناعي لتصميم العطور كان انسيابياً. فقد بدأ كتجربة على نطاق صغير نسبياً، ولكنه تضمن عملاً حقيقياً للشركة، ولم يكن مجرد محاكاة مخبرية.

يقول داوب: “إننا نرزح جميعاً تحت الضغط. وليس لدى أي منا ما يكفي من الوقت حتى يشارك في عمليات تعلم أولية إلى جانب عمله الأساسي”. ولكن حتى هذا يتطلب شيئاً من الشجاعة والإيمان بقدرة التكنولوجيا، كما يقول داوب: “إن الأمر يتعلق بشكل أساسي بالقناعة. ولدي قناعة قوية للغاية أن الذكاء الاصطناعي سيلعب دوراً هاماً في معظم الصناعات الموجودة حالياً، وإن بدرجات مختلفة. وبالتالي، فإن تجاهله كلياً ليس بالخيار السليم”.