هنالك طريقة حاسمة ولكنها ليست سهلة لإقناع الناس بالتصدي للتغير المناخي

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تخيّل العالم بعد 50 عاماً، إذا ما جرت التوجّهات الراهنة لتبدّل المناخ العالمي دون تغيير. من المرجّح أن بإمكانك استحضار صور وفيرة تعكس ما سيؤول إليه العالم إلى ذهنك: مثل ارتفاع منسوب مياه البحار لتغمر شواطئ ساحلية عريقة، وتصحّر المناطق المزروعة وتحوّل تربتها الخصبة إلى غبار منثور، وانصهار الكتل الجليدية لترفد المحيطات، ومعاناة سكان المدن من موجات الحرّ الخانقة، وهروب اللاجئين من السواحل. ربما سبق لك أن شاهدت صوراً مشابهة في نشرات الأخبار وأفلام الخيال العلمي أو التقطتَ لمحات منها في حديقة منزلك خلّفتها الأعاصير أو موجات الجفاف. ولهذا إليكم كيفية التصدي للتغير المناخي حول العالم.

اقرأ أيضاً: هل يغير المناخ المدمر الذي نراه اليوم الشركات كما فعل إعصار كاترينا؟

لكن ماذا لو حاولتَ تصوّر المستقبل، بعد أن نكون قد نجحنا في تجنّب الكوارث المناخية؟ إن كنت مثلي، فقد تجد بعض الصعوبة في إنجاز هذه المهمة بالمقارنة مع تصوّر المستقبل الكارثي. لكن خيالنا في نهاية المطاف سيتّجه بوضوح نحو تصوّر التكنولوجيات المعروفة كمزارع الرياح والألواح الشمسية والقطارات الانسيابية والسيارات الكهربائية وهي تعبر المدن المصغّرة، وربما نتصوّر أيضاً مصفوفة من مرايا الفضاء تهدف إلى حجب أشعة الشمس عن الأرض.

وسواء كنت متفائلاً أم متشائماً حيال التطوّر السيئ لتبدّل المناخ، فإن خيالك قد يُخفق في تصوّر المستقبل وقد تغلّب فيه الناس على هذه الأزمة بالتعاون والتعاضد فيما بينهم. وربّما يعود هذا إلى أن تصوّر مستقبل كوكب الأرض، وقد تغيّر بفعل التكنولوجيا، أسهل بكثير من تصوّره وهو يضمّ أناساً ومجتمعات تتعاون وتتعاضد فيما بينها. فنحن نشعر أن الناس من العصور المختلفة عن عصرنا الراهن، سواء في الماضي أم في المستقبل، هم أبعد عنا حتى من أناس ينتمون لثقافات معاصرة بعيدة جداً عن ثقافتنا.

ولعلّ هذا الإخفاق العام في تصوّر المستقبل قد لا يبدو في الظاهر أنه يمثّل مشكلة جدّية. ففي المحصلة، سيتطلّب تجنّب السيناريو الأسوأ لتبدّلات المناخ إحداث تغييرات هائلة في أسلوب استغلالنا وتوظيفنا لموارد الطاقة، وفي طريقة تنظيمنا لأنفسنا ومعالجة مسألة الانتقال من مكان إلى آخر. وهي مشكلات أبعد من نطاق تأثير وطاقة الأفراد، مشكلات يتطلّب حلّها بنى تحتية وموارد لتوليد الكهرباء وتكنولوجيا لإنتاج بطاريات تخزينها وبيانات من حسّاسات رقمية وإبداعات هندسية، لا مجرّد مشاكل بسيطة يمكن حلّها من خلال التجمّع حول النار مساءً وإنشاد الأغاني أو إخراج قمامة الجيران إلى الحاوية.

غير أن تخيّلنا للمستقبل ليس مجرّد محاولة مُترفة لاستقراء الواقع المستقبلي، بل له هدف أساسي وملحّ، ألا وهو صياغة سلوكنا في الوقت الحاضر. وخلافاً للماضي الذي سبق لنا أن اختبرناه ويمكننا تذكّره والحاضر الذي ندركه الآن بحواسّنا، فإن المستقبل مجرّد فكرة من نسج الخيال.

اقرأ أيضاً: الشباب يتولون زمام قضية التغيّر المناخي وعلى الشركات توخي الحذر

يبيّن عدد من علماء النفس في كتابهم الجديد بعنوان “دليل الإنسان البشري” (Homo Prospectus)، أن انشغال الإنسان بالمستقبل إنما هو ما يعرّفه ويميّزه عن باقي الكائنات الحية (بخلاف الفرضية المشكوك بها والتي تقول إن السمة المميزة للإنسان هي حكمته، وهو ما يُستنبط من إطلاق تعبير “الإنسان العاقل” على البشر).

إننا لا نتصوّر المستقبل في أذهاننا فقط وبمعزل عن الحاضر. وبحسب فرضية عالم النفس “روي باومايستر” فإن الأفكار المشتركة حول المستقبل هي التي جعلت التعاون بين البشر استراتيجية مفيدة لأسلافنا البدائيين الذين كانوا يعيشون على الصيد وجمع الثمار. فأنا أعزف اليوم عن تناول جميع ما اصطدته وأتقاسم بعضاً منه معك، لأنني أعرف أن هنالك غداً سنحياه معاً ستعترف لي فيه بتضحيتي لك في الماضي وستكافئني على ذلك بمشاركتك لي بما ستصطاده أنت.

واليوم تسمح الآليات المشتركة لبناء المستقبل بتصوّر الأمور العادية (القطارات التي تسير حسب المواعيد المحددة لها، والاتّفاق على الاعتقاد الواسع الانتشار بالحياة الآخرة.

ومع ذلك يبقى الهدف التطويري من تصوّر المستقبل قائماً: ألا وهو تشجيعنا على اتّخاذ إجراءات عملية في الحاضر تصبّ بنهاية المطاف في صالحنا مستقبلاً. ولعلّ تصوّراتنا عن المستقبل في هذا الخصوص، على الأقل فيما يرتبط بالتبدّل المناخي، مخيبة للآمال إلى حدّ بعيد.

كيفية التصدي للتغير المناخي

قبل عدّة سنوات، سعى عالم النفس الأسترالي بول بين وبعض من زملائه إلى تحديد صفات المستقبل المُتخيَّل التي تدفع الناس إلى دعم التغيير الاجتماعي في الوقت الراهن، وتلك التي تخفق في تحفيزهم. وفي سلسلة من ثماني دراسات، طُلب من 600 شخص تصوّر حالة المجتمع في العام 2050 بناء على سيناريو تطوّر معين.

سُئل المشاركون من ضمن السيناريوهات المختلفة أن يفترضوا على سبيل المثال أن تغييرات مناخية قاسية قد جرى تفاديها، أو أن القانون قد سمح بتعاطي المخدّرات أو بالإجهاض. وكان المشاركون ينتمون إلى ديانات مختلفة (وبعضهم كان غير ذلك) ويمتلكون قناعات سياسية متنوعة. وصف المشاركون بالتفصيل السيناريو المستقبلي الذي يتخيّلونه وتحدّثوا أمام المستجوِبين عن تصوّرهم حول المستقبل. ومن ثم طُلب منهم تحديد السياسات العامة والسلوكيات الخاصة التي يوافقون عليها اليوم لتحقيق الرؤى المستقبلية المحتملة أو لتفاديها.

اقرأ أيضاً: إلزام الشركات بكشف المخاطر المتصلة بالمناخ يعود بالفائدة على الجميع

وفي جميع تلك الدراسات وجد الباحثون أن الناس أكثر حماسة لدعم السياسات الراهنة أو تغيير سلوكهم اليوم عندما يتصوّرون العلاقات المستقبلية بين الناس في المجتمع أكثر دفئاً وإنسانية – وهي سمة أطلقوا عليها اسم “النزعة إلى فعل الخير”.

ولقد كان المشاركون أقل تحفيزاً عبر رؤى التقدّم العلمي والتكنولوجي منهم عبر فكرة أن يغدو الناس في المستقبل أكثر لطفاً وصلاحاً –سواء كانوا محافظين ومتديّنين أم غير ذلك. (ولقد وجد الباحثون حافزاً آخر ولكنّه أقل قوة، يتمثّل في تجنّب الاضطرابات الاجتماعية في المستقبل عبر انتشار الجريمة والفقر والمرض).

بالطبع لا تشكّل تلك البحوث الكلمة الفصل في الموضوع ولا يمكن النظر إلى خلاصاتها بوصفها عامّة وصالحة في كل زمان ومكان. غير أنها تشير بقوة إلى ما يُفترض أن يتّفق مع الحدس البديهي والسليم: وهو أن عدداً أكبر من الناس يتحمّسون لاتّخاذ إجراءات بشأن المستقبل عندما يمتلكون القناعة أن ما يقومون به سيؤدي في نهاية المطاف إلى تحسين حياة البشر، وعلى وجه الخصوص تحسين الطريقة التي يتعامل بها الناس مع بعضهم بعضاً. (ففي دراسة مستقلّة، أظهر “بول بين” أنّه حتى الرافضين لفرضية التبدّل المناخي يمكن إقناعهم بالحاجة إلى اعتماد قوانين مواطَنة واعية بيئياً، عندما يقوم الباحثون بوضع الإجراءات اللازمة لذلك، مثل تخفيض الانبعاثات الكربونية، في إطار تحسين وعي الناس لأساليب معاملتهم لبعضهم بعضاً).

إن غالبية الجهود الرامية إلى تثقيف عامة الناس حول خياراتنا المحتملة فيما يرتبط بالتبدّل المناخي -من قبل العلماء والمؤسسات غير الربحية والحكومات- نادراً ما كانت تركّز على تصوير المستقبل على النحو الذي يعامل فيه الناس بعضهم معاملة حسنة. وقد أكون شخصياً من المتّهمين بذلك، فلطالما روّجت لسيناريوهات تتضمّن ارتفاع درجات الحرارة من جهة، والتفاؤل بتطوّر التكنولوجيا من جهة أخرى.

ولعلّ الأمر يتطلب المزيد من الجهد –وبخاصة إذا كنت متشائماً حيال الاحتمالات المتوقّعة- من أجل استحضار الصوّر التي تعكس كيف أن الناس والمجتمع سيكونون في حال أفضل في المستقبل إذا ما عملنا الآن على تجنّب أسوأ الكوارث المناخية. غير أن بوسعنا استنباط بعض الأمثلة حول كيفية القيام بذلك من الماضي: مثل مساعدة الناس لجيرانهم الكبار في السن أثناء موجات الحرّ (كما جرى في جوار مدينة شيكاغو أثناء موجة الحرّ القاتلة عام 1995)، وتعاون المجتمعات لبناء الحدائق الطبيعية، واستمتاع الأُسر بالمناطق الرطبة المحمية بوصفها أماكن استجمام بدلاً من تخصيصها كضواحٍ سكنية، وبالطبع إبداع التكنولوجيا واستخدامها ليساعد الناس بعضهم بدلاً من التفكير فقط في مصلحتهم الخاصة.

تجربة المحاكاة في مدينة فوكوشيما اليابانية

لقد زرت مدينة فوكوشيما اليابانية في وقت مبكّر من هذا العام بمناسبة الذكرى السادسة لحادثة انفجار مفاعلها النووي، والتقطتُ لمحة عن المستقبل المُتخيَّل أذهلتني حقّاً. ففي مركز تعليمي يضمّ تكنولوجيات متطوّرة، الهدف منه تثقيف عامة الناس حول الكارثة، قام المصممون بإنشاء معرض يحتوي على تصور مستقبلي لجوار فوكوشيما كما جرت محاكاته برمجياً وهو مزوّد بما يلزمه من طاقة عن طريق مصادر الطاقة النظيفة. ويرتكز ذلك التصور على الجوانب المعهودة -من ألواح شمسية وأسطح خضراء- لكنه يحتوي أيضاً على زوار المعرض بوصفهم سكان المنطقة المستقبليين على شكل شخصيات رمزية في المحاكاة. غير أن ما ينقص ذلك التصور هو أنه لا يرينا كيف يتفاعل أولئك السكان فيما بينهم ويساعدون بعضهم البعض.

الناس ميالون بطبيعتهم لأن يسعوا إلى قطف ثمرة أعمالهم على نحو فوري ومباشر، بيد أننا بحاجة ماسّة لأن نقيّم التبعات المستقبلية لسلوكنا الحالي، كالتبدل المناخي، وندخلها في حساباتنا أثناء اتخاذ قراراتنا الراهنة. وإذا ما أردنا زيادة عدد الناس الذين يهتمّون بالنتائج المستقبلية لسلوكهم الراهن -لدرجة تكفي لتحفيزهم على الفعل- فإننا قد نحتاج إلى تصوّر المستقبل كما نتمنّاه أن يكون، والأهمّ من ذلك، كما نتمنّى أن نرى أنفسنا فيه.

اقرأ أيضاً: أهمية تضمين ممارسات حشد التأييد في إجراءات الشركات بشأن التغير المناخي

وفي نهاية الحديث عن كيفية التصدي للتغير المناخي حول العالم، يكون الناس أكثر حماسة لاتخاذ إجراءات بشأن المستقبل، عندما يمتلكون القناعة أن ذلك يؤدي في نهاية المطاف إلى تحسين حياة البشر.

ملحوظة: لقد أثار بحث “باومايستر” حول “نضوب الأنا” شكوكاً كثيرة في هذا المجال، بيد أن ذلك البحث مختلف تماماً عن الاستنتاجات التي نشير إليها هنا والتي تنبع من منطق سليم وشفّاف ولا علاقة لها بتصاميم تجريبية خاصة أو فريدة.

اقرأ أيضاً: هل يتعين أن نكون أكثر تفاؤلاً إزاء مكافحة التغير المناخي؟