إلى أي حد كانت هناك نقاط مشتركة بين المخاوف التي أثارها فيلم جاتاكا وواقع الهندسة الوراثية؟

6 دقائق
إلى أي حد كانت هناك نقاط مشتركة بين المخاوف التي أثارها فيلم جاكاتا وواقع الهندسة الوراثية؟
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

مثل العديد، شاهدت فيلم جاتاكا (Gattaca) أول مرة عندما كنت في المدرسة. كنت في الصف السابع حينها، وقد وصلنا إلى منتصف وحدة الوراثة. تدور أحداث الفيلم، والذي صدر في عام 1997 ومثّل بداية علاقة إيثان هوك وأوما ثورمان المشؤومة، حول عالم يسمح فيه الانتقاء الجيني بإنجاب أطفال يتمتعون بأفضل السمات- وظروف الحياة- الممكنة. يركز الفيلم على فينسينت فريمان (الذي قام بدوره هوك)، وهو شخص “غير صالح للخدمة” وُلد بشكل طبيعي ومعرض لخطر كبير للإصابة بمرض في القلب. نظراً لأنه لا يستطيع العمل إلا في وظائف التنظيف الوضيعة، فقد قرر أن يتنكر على أنه “صالح للخدمة”، مستخدماً عينات الحمض النووي من نجم سباحة سابق ليضمن الحصول على وظيفة في شركة “جاتاكا إيروسبيس كورب”. كان أستاذي يأمل أن يستغل الفيلم ليظهر لنا المعضلات الأخلاقية للجينوزم -التمييز على أساس الجينات- ولتحسين النسل (وربما ليرتاح لبضعة فصول دراسية).

اقرأ أيضاً: سماعة طبية جديدة تعمل بالذكاء الاصطناعي يمكنها تشخيص قصور القلب في 15 ثانية

جاتاكا: المرادف لمستقبل فاسد

تمر الذكرى السنوية الـ 25 لإطلاق الفيلم في شهر أكتوبر من هذا العام. منذ ذلك الحين، أصبحت كلمة “جاتاكا”، والتي تمثل الأحرف التي تعبّر عن القواعد النيتروجينية الأربع التي تشكل جيناتنا، مرادفاً لمستقبل فاسد أصبح ممكناً بفضل الهندسة الوراثية. تقول الخبيرة في الآثار الأخلاقية والقانونية والسياسية للتقنيات الطبية الحيوية في مركز هاستينغز، جوزفين جونستون: «نتحدث عن رواية “عالم جديد شجاع”، عن ديستوبيا رواية 1984، عن فرانكشتاين، نتحدث عن جاتاكا. الفيلم أحد طرق التمثيل الثقافي لنوع معين من بواعث القلق». 

صدر الفيلم بعد نحو عام من استنساخ أول حيوان ثدي، النعجة دوللي، لذلك فقد استفاد كثيراً من الجدل الشعبي الدائر حينها حول الأخلاق والتكنولوجيا الجينية. كتب الناقد السينمائي روجر إيبرت في مراجعة بعد عرض الفيلم مباشرة: «لقد قرأنا عن الأغنام المستنسخة والأطعمة المعدّلة وراثياً، ولكن العلم في فيلم جاتاكا ممكنٌ نظرياً».

ومنذ ذلك الحين، كان الناس يستخدمون الاسم كنوعٍ من التحذير؛ حيث يرمز “جاتاكا” إلى المستقبل الذي تخلق فيه الهندسة الوراثية مجتمعاً يحدد فيه العلماء جيناتك وتحدد جيناتك من أنت. يقول أحد الأطباء خلال بث أحد البرامج في عام 2000 على قناة “سي إن إن”، وكان يتناول قضية الأطفال المصممين وراثياً لتكون لديهم سمات معينة: «الوعي والمراقبة الاجتماعية هما الشيئان الوحيدان اللذان يتمتع بهما المجتمع للحيلولة دون الانحدار في بيئة من نوع جاتاكا؛ حيث إن الأطفال مصممون وهناك عروق متفوقة».

اقرأ أيضاً: تكنولوجيا كمومية جديدة واعدة في تشخيص وعلاج أحد أمراض القلب

في عام 2008، أصدر الكونغرس قانون عدم التمييز للمعلومات الجينية (GINA)، والذي يُمنع بموجبه أرباب العمل وشركات التأمين الصحي من استغلال المعلومات الجينية ضد الأفراد. على الرغم من اقتراح هذا القانون لأول مرة قبل بضع سنوات من صدور فيلم جاتاكا، فقد استُخدم الفيلم في أثناء النقاش حول القانون. وقد كان العنوان الرئيسي لمقالة حول القانون في مجلة “ديسكوفر” عام 2009: «لا جاتاكا هنا: قانون مكافحة التمييز الجيني يدخل حيز التنفيذ». 

على وجه الخصوص، يبدو أن الناس يستخدمون كلمة جاتاكا عندما يتحدثون عن تقنيات مثل أداة تعديل الجينات “كريسبر-كاس-9” أو عند القيام ببعض الإجراءات مثل الاختبار الجيني قبل زرع الأجنة في الرحم (PGT)، والذي يسمح للأطباء بفحصها بحثاً عن سمات معينة على غرار ما كان يحدث في فيلم جاتاكا تماماً. (يُحظر استخدام تقنية كريسبر-كاس-9 لتعديل الحيوانات المنوية أو البويضات البشرية والأجنة البشرية في الولايات المتحدة، ولكن يُسمح باستخدام تقنية “بي جي تي” إلى جانب تقنية التلقيح المخبري في عيادات الإنجاب).

العلم وراء جاتاكا ممكن ومستخدم

في عام 2013، طرح مقال في مجلة “ساينتفيك أميركان” المقارنة من خلال مناقشة التقدم في استخدام تقنية الاختبار الجيني قبل الزرع والآثار الأخلاقية لها متسائلاً: «هل اقتربنا جداً من جعل جاتاكا حقيقة واقعية؟».

بعد أن استخدم أحد العلماء تقنية كريسبر لإنشاء أول طفل معدل وراثياً في عام 2018، كتب إد يونغ في مجلة “ذي أتلانتيك”: «حتى دون أي تكهنات بمستقبل يوجد فيه أطفال مصممون وشبيه بجاتاكا، والذي قد يتحقق أو لا، فإن تفاصيل ما حدث مزعجة جداً وتثير الغضب بالفعل». تعرض ذلك العالم لانتقادات واسعة وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات.

هذه مجرد أمثلة قليلة من المقالات التي لا تعد ولا تحصى التي تناولت أخلاقيات الهندسة الوراثية التي استُشهد فيها بجاتاكا. في الواقع، يقول محرر قسم “فيوتشر تينس” في موقع “سليت” إنه يقوم باستمرار بحذف الإشارات إلى فيلم جاتاكا من المقالات لأنها أصبحت مملة بعض الشيء.

نظراً للعلاقة القوية الواضحة بين الفيلم والتقنيات الجينية الحديثة، شعرت بالفضول، وتساءلت هل سئم أولئك الذين يستخدمون هذه الأدوات والمفاهيم يومياً من جاتاكا أيضاً؟ لذلك قررت أن أتواصل معهم لمعرفة إلى أي مدى تتكرر كلمة جاتاكا في حياتهم اليومية، وما إذا كانوا يعتقدون أن الفيلم يخدم المجتمع أو كان مجرد وسيلة لخلق حالة من الذعر الأخلاقي.

اقرأ أيضاً: جوجل تدعم محاولة لاستخدام تقنية كريسبر للوقاية من أمراض القلب

جاتاكا والمفاهيم الخاطئة حول التقنيات الجينية

تحدثنا إلى ديانا دارنز، وهي مستشارة في علم الوراثة، وتقدم معلومات إلى المرضى حول العيوب الخلقية وتشوهات الكروموسومات واضطرابات الجينات الفردية وتساعدهم في العثور على خيارات الاختبارات الجينية. تقول دارنز: «لقد لاحظت أن الفيلم قد خلق عند بعض المرضى- ممن هم في عمري تقريباً أو أكبر سناً- التباساً حول كيفية عمل التقنيات الجينية وما يمكن أن تقدمه التكنولوجيا للأجنة المصابة بأمراض وراثية». وتشير دارنز إلى أن بعض المرضى قد كونوا نظرة مبسطة جداً عن الجينات من الفيلم، مثل أن كل جين يشفّر سمةً واحدة فقط.

وتضيف دارنز: «يسعدنا أن يعرف المرضى ماهية الجينات بالفعل، ولكن الفيلم يرسّخ الاعتقاد لديهم بأن أشياءً معينة في الجينات هي دائمة بينما هي في الحقيقة ليست كذلك. لا يفهم الناس أن الجينات تعمل في دارة كبيرة متكاملة متناغمة فيما بينها كما لو أنها أعضاء تعزف في فرقة موسيقية، وليست مفتاح إضاءة تقوم بعمل محدد فقط. نحتاج إلى الابتعاد عن نباتات البازلاء ومربعات بونيت البدائية التي تقول “إما هذا وإما ذاك”، لأن الأمر ليس كذلك. إنها طيف كامل». 

لاحظ خبراء يعملون في مجالات أخرى على الجينات أيضاً أن النكات حول جاتاكا بدأت تفقد معناها مع مضي 25 عاماً تقريباً على الفيلم.

تقول أخصائية طب الغدد الصماء التناسلية والعقم في جامعة كولومبيا، بولا برادي: «أعتقد أني أفكر في الأمر أكثر مما يفكر به مرضاي لأنهم عندما يسألون عما نقوم باختباره في الأجنة أجيبهم أحياناً بأنه “ليس مثل جاتاكا، لا يمكننا اختبار السمات. عندما نفحص الأجنة بشكلٍ عام، فإننا نفحص الكروموسومات». وتضيف برادي أن الفيلم أصبح قديماً جداً ولم يعد يمثل إطاراً مرجعياً.

وتشير برادي إلى كيفية استناد الفيلم إلى فرضية أن الجينات قدرية وكيف فشل في إيصال فكرة أن تعبير جينات معينة يمكن أن يختلف إلى حد كبير من شخص إلى آخر.

اقرأ أيضاً: جينات المتعافين من فيروس كورونا قد تكون مفيدة في علاج المرض

وتضيف موضحةً: «يفترض الفيلم أن الاستعداد الوراثي أمر حتمي، ونحن نعلم أن هذا ليس صحيحاً». كما يشكو بعض مرضاها الذين يعتمدون على الذين يتبرعون بالبويضات و/أو الحيوانات المنوية من عدم قدرتهم على التحكم في عملية الإنجاب. فتقول لهم إن “الطريقة التي تجتمع من خلالها الجينات معاً لتصنع الأجنة والإنسان أشبه بماكينة الحظ (آلة سلوت). إنه شيء لا يمكننا التحكم به في الواقع”. 

كما تلاحظ برادي كيف أن الفيلم فشل في معالجة العوامل الأخرى التي يمكن أن تؤثر على تطور الطفل. تقول في هذا الصدد: «عند مشاهدة الفيلم الآن، يحزنني مدى تهميشه لدور الوالدين ورعايتهما، حيث نعلم أن هذا ليس صحيحاً».

لكن الفيلم نقض الحتمية الجينية

لكن عالم الوراثة جوناثان يعتقد أن الفيلم يلمح إلى فكرة أن الجينات ليست أهم وكل شيء في النهاية.

يقول بيتيت في مقالة له على موقع “ذي كونفرسيشن” عام 2016: «في فيلم جاتاكا، تم نقض اليقين الجذاب الذي توفره الحتمية الجينية بذكاء في النهاية عندما أثبت فينسنت (إيثان هوك)، أحد الأشخاص القلائل الذين ولدوا خارج إطار عملية الانتقاء الجيني المسبق، أن بإمكانه التفوق على أقرانه المثاليين وراثياً. الرسالة النهائية للفيلم هي أن السمات التي يحملها الحمض النووي ليس من المحتوم ظهورها، وهو بالضبط ما يدعمه العلم الآن بشكل متزايد. وبما أن هذا هو الحال، فالسماح للخيال العلمي بتضليلنا أمر مؤسف وغريب حقاً».

لم يسمع بعض الأشخاص الذين يتعاملون بشكل مباشر مع تكنولوجيا شبيهة بالتكنولوجيا التي ظهرت في فيلم جاتاكا بهذا الفيلم كما يظن البعض. حصلت ميغان هوشستراسر، التي تعمل حالياً كمحررة رئيسية في مجلة “أركاديا ساينس”، على درجة الدكتوراة من جامعة كاليفورنيا بيركلي في العمل على أنظمة كريسبر الطبيعية.  كانت هوشستراسر تعمل في المختبر عندما بدأ استخدام تقنية كريسبر بالبروز كأداةٍ لتعديل الجينات. حيث لم تتضح علاقة عملها بجاتاكا إلا بعد ظهور تقنية التحرير الجيني الحديثة هذه.

تقول موضحةً: «نظراً لأن عملي كان أساسياً جداً، ولم يكن ينطوي على تعديل الجينات في البداية، لم أكن أنظر إلى فيلم جاتاكا كشيء ينطبق على حياتي المهنية أو أبحاثي الخاصة. عندما بدأ الناس يتداولون هذا الاسم باستمرار وأصبح شائعاً في كل مكان، بدأت أفكر به أكثر». وأشارت إلى أن مجموعة من أعضاء المختبر اجتمعوا في إحدى المرات يسترجعون بعض الذكريات (وكان البعض قد شاهد الفيلم لأول مرة).

وتضيف هوشستراسر: «لا أعتقد أن الفيلم يثير اهتمام الناس العاديين للإشارة إليه كثيراً. ولكن يبدو أنه شيء يحب المجتمع العلمي الإشارة إليه كثيراً، وبالتأكيد يعرفه الكثير من الأشخاص العاديين، لكنني لا أعتقد أنه يثير اهتمامهم إلى هذه الدرجة كما نعتقد».

اقرأ أيضاً: أداة جديدة في تعديل الجينات ستُحسّن تقنية كريسبر بشكل جذريّ

وبغض النظر عما احتواه الفيلم من كليشيهات ومفاهيم خاطئة، فإن جميع الخبراء الذين تحدثت معهم يرون أنه يعبّر بشكلٍ مناسب عن مخاوف الناس المتعلقة بعلم الوراثة الإنجابية وعلم تحسين النسل.

تقول جونستون: «في البداية، بدا أن الناس يذكرون اسم الفيلم كثيراً، واعتقدت أنه لا ينبغي لي أن أحذو حذوهم، الأمر مبالغ به قليلاً. لكن أدركت بعد ذلك أن جاتاكا مرتبط بعملي بشكلٍ يبعث على السخرية، لذلك بدأت في الإشارة إليه في الكثير من المواقف. غالباً ما شعرت أن الأفلام والكتب تؤدي دوراً أفضل من علماء أخلاقيات البيولوجيا الأكاديميين في معالجة بعض المخاوف والجدل حول من نحن كبشر ومن نحن كآباء، وما يعنيه أن نحب دون قيد أو شرط وما هو صحي وما هو الخير والشر».

الأهم من ذلك، يمثل الفيلم نقطة انطلاق جيدة لنقاش أخلاقيات البحث الجيني.

اقرأ أيضاً: بعض خبراء تقنية كريسبر يدعون إلى وقف عالمي لتعديل الجينات القابلة للتوريث

تقول هوشستراسر: «أعتقد أنه اختزال لطيف للمستقبل الفاسد وطريقة الناس لتخيله، ونقطة انطلاق للتفكير في الأشياء بطريقة أكثر عمقاً. في بعض الأحيان يكون خيال الناس محدوداً، لذلك قد يكون من المفيد أن تكون لدينا نقطة مرجعية من هذا القبيل عندما نحاول نقاش الآثار المجتمعية للعلم وكيف أننا جميعاً نحتاج إلى الاهتمام بهذه الأشياء من أجل ضمان المستقبل الذي نريده».