فضيحة برامج التجسس الأوروبية: جرس إنذار عالمي

4 دقائق
فضيحة برامج التجسس الأوروبية: جرس إنذار عالمي
حقوق الصورة: shutterstock.com/ Carlos Amarillo
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تقوم عدة حكومات أوروبية باستخدام أدوات مراقبة متطورة للتجسس على شعوبها، وذلك وفقاً لإدانة البرلمان الأوروبي في تقرير جديد. ويقول التقرير: “كانت عدة دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي تستخدم برامج التجسس على مواطنيها لأهداف سياسية، ولتغطية الفساد والنشاطات الإجرامية. بل إن بعضها تجاوز هذا إلى درجة إدماج برامج التجسس في برامج مصممة عمداً لترسيخ الحكم القمعي”.

اقرأ أيضاً: كيف يمكنك كشف برامج التجسس على جهازك وإزالتها؟

البداية مع بيغاسوس

أطلق البرلمان الأوروبي هذا التحقيق بعد نشر مشروع بيغاسوس لعام 2021، وهو تحقيق استقصائي عن برامج التجسس قادته 16 وسيلة إعلامية حول العالم. وقد وجد المراسلون أن الحكومات قامت باستهداف أكثر من 50,000 رقم هاتفي في كافة أنحاء العالم باستخدام أداة المراقبة بيغاسوس (Pegasus)، والتي صنعتها شركة “إن إس أو غروب” (NSO Group). وتتضمن قائمة الأفراد المستهدفين محررين ومراسلين في سي إن إن (CNN)، ونيويورك تايمز (New York Times)، ورويترز (Reuters)، وفرانس 24 (France 24)، إضافة إلى ناشطين في مجال حقوق الإنسان، ومحامين. ويوضح التقرير أننا نسمع عن استخدام هذه التكنولوجيا من قبل حكومات قمعية، ولكن الحكومات الديمقراطية متورطة في استخدام برامج التجسس لأغراض مسيئة أيضاً. إن مواجهة أخطار المراقبة حول العالم تستوجب تقبل هذا الواقع، ودفع الحكومات الديمقراطية إلى الالتزام بمعايير سلوكية أعلى.

اقرأ أيضاً: ما الذي تكشفه أحدث تسريبات برمجيات التجسس بيجاسوس؟

استخدام برامج التجسس لمراقبة الأفراد حول العالم

تسهل برامج التجسس تتبع الأجهزة وسحب المعلومات منها بصورة سرية. وما إن يصل البرنامج إلى هاتف الشخص المستهدف أو حاسوبه، تستطيع الجهة التي تتحكم بالبرنامج سحب الرسائل النصية ورسائل البريد الإلكتروني، وتنزيل كل صورة على الجهاز، بل وحتى تتبعه باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي. لقد قام أفراد مسيئون باستخدام هذه البرامج –والتي تسمى في هذا السياق في أغلب الأحيان باسم برمجيات الترصد– لمراقبة أشخاص آخرين وتعذيبهم وحتى إيذائهم جسدياً، بما في ذلك الأزواج وشركاء الحياة الحاليون والسابقون.

وفي إحصائية مثيرة للقلق أجرتها شركة نورتون لايف لوك (NortonLifeLock) في 2020، أقر واحد من كل 10 أميركيين بأنه قام بتنصيب برنامج ترصّد على جهاز شريك الحياة الحالي أو السابق. وتقوم الحكومات أيضاً باستخدام برامج التجسس بصمت، وتراقب أهدافها لتحقيق عدة غايات تتعلق بإنفاذ القانون أو الأعمال الاستخباراتية، أو لغايات قمعية.

ويتيح بيغاسوس، وهو محط تركيز التقرير الأوروبي، سحب كلمات المرور وقوائم جهات الاتصال وأحداث التقويم والرسائل النصية والمكالمات الصوتية المباشرة وغيرها من البيانات من هاتف الشخص المستهدف بصمت. حتى إنه يتيح للجهة المشرفة عليه تشغيل كاميرا وميكروفون الهاتف لمراقبة الشخص والبيئة المحيطة به. ولا داعي بعد الآن إلى خداع الشخص المستهدف لدفعه إلى النقر على رابط معين، حيث يستطيع بيغاسوس استغلال ثغرات “دون نقر” لتنصيب البرامج الخبيثة دون أي تفاعل مع المستخدم، ما يجعل تحديد بدء عملية المراقبة مستحيلاً على المستخدم العادي من الناحية العملية.

وتشتهر شركة إن إس أو غروب، والتي صنعت بيغاسوس، بتجاهلها لحقوق الإنسان. وقد قام مختبر سيتيزن (Citezen) في جامعة تورونتو بنشر العديد من التحقيقات التي تكشف استخدام بيغاسوس من قبل الحكومات القمعية في كافة أنحاء العالم، حيث تم استخدامه لاستهداف العديد من الناشطين. وبالتالي، كان لدى البرلمان الأوروبي سبب وجيه ليشعر بالقلق الشديد عندما كشف مشروع بيغاسوس في 2021 عن استهداف مواطنين أوروبيين.

اقرأ أيضاً: هل سمعت عن أكبر شركة مراقبة في العالم؟

عمليات مراقبة غير ديمقراطية

وعلى الرغم من إمكانية تخيل استخدامات مشروعة لبرامج التجسس، مثل استهداف المسؤولين الأجانب لأغراض التجسس التقليدية وفق إشراف دقيق، فإن النشاطات التي وضحها تقرير البرلمان الأوروبي تعبر عن عمليات مراقبة غير ديمقراطية مصممة لقمع التعبير والمنافسة السياسية. فقد وجد التقرير أن المسؤولين البولنديين قاموا بشراء بيغاسوس في 2017، ودفعوا جزءاً من ثمنه من أموال مخصصة لضحايا الجرائم، قبل استهداف العديد من الشخصيات المعارضة ببرنامج التجسس. كما اشترت الحكومة الهنغارية بيغاسوس في 2017 بعد لقاء مع رئيس الوزراء البولندي ماتوز مورافيتشكي وسياسيين آخرين. وعلى الرغم من أن السلطات الهنغارية تزعم أنها استخدمت البرنامج لأغراض الأمن القومي وحسب، فقد قامت باستهداف أكثر من 300 شخص، بدءاً من محامين وصحافيين وصولاً إلى رجال أعمال وناشطين وسياسيين معارضين بارزين، وفقاً للتقرير.

ولا تتوقف القائمة عند هذا الحد، فقد قام أفراد من جهات أمنية في اليونان بشراء برنامج تجسس باسم بريداتور (Predator)، وهو برنامج يُعتقد أنه من إنتاج شركة سيتروكس (Cytrox) في شمال مقدونيا، لاستخدامه ضد شخصيات سياسية محلية. كما قام مسؤولون في قبرص بشراء تكنولوجيا للمراقبة من الشركة الأوروبية إنتيليكسا أليانس (Intellexa Alliance)، وهي فيما يبدو المؤسسة الأساسية التي تتبع لها شركة سيتروكس، وذلك للقيام بعمليات تعقّب غير قانونية لأكثر من 9.5 مليون جهاز خلوي. وعلى ما يبدو، فقد قامت السلطات الإسبانية باستهداف أشخاص في إقليم كتالونيا باستخدام برنامج بيغاسوس من مجموعة إن إس أو غروب. 

من المحتمل أن الحكومات اشترت هذه البرامج التجسسية للتحقيق في تهديدات المتطرفين بإطلاق هجمات عنيفة، أو ملاحقة الجرائم الحقيقية. كما من المحتمل أنها استخدمتها في عمليات التجسس التقليدية التي تقوم بها البلدان ضد بعضها بعضاً. ولكن، وبدلاً من هذا، يشير التقرير إلى أن الكثير من الحكومات الأوروبية اشترت برامج التجسس خفية لغاية محددة، وهي استهداف المنتقدين والمعارضين المحليين.

اقرأ أيضاً: توزع كاميرات المراقبة في مدينة أميركية يثير مخاوف الخصوصية والتمييز

الديمقراطية التكنولوجية

ويبدو أن المحققين قرروا العمل وعرض النتائج من دون أي تحفظ: فقد قال مؤلفو التقرير إن إساءة استخدام برامج التجسس “تكشف وبشكل فج عن قلة النضوج والضعف لدى الاتحاد الأوروبي ككيان ديمقراطي”. فقد استفادت تجارة برامج التجسس من “السوق الداخلية وحرية الحركة” في الاتحاد الأوروبي، كما يقول التقرير، إلى درجة سمحت لبعض البائعين حتى باستخدام جملة “خاضع لقوانين الاتحاد الأوروبي” لإخفاء الطبيعة غير القانونية لنشاطاتهم في المراقبة والادعاء بأنها خاضعة لإشراف مسؤول، وهو أبعد ما يكون عن الواقع.

وعلى الرغم من أن بعض نتائج التقرير منشورة من قبل، فإنه تذكير قوي، بل وصادم بالنسبة للبعض. فعلى الرغم من كل الأحاديث في الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية عن “الديمقراطية التكنولوجية” وأهمية الخصوصية، فإن الحكومات الديمقراطية تسيء استخدام برامج التجسس أيضاً.

يمثل تقرير الاتحاد الأوروبي حول إساءة استخدام برامج التجسس تذكيراً مهماً أن بعض  الحكومات الديمقراطية التي لا تحمل من صفة الديمقراطية سوى الاسم فقط، تستخدم برامج التجسس لاستهداف السياسيين المعارضين والصحافيين المعارضين وغيرهم، وذلك بذريعة كاذبة حول مكافحة الجريمة أو حماية الأمن القومي. وهو ما يقوض حقوق الخصوصية والتعبير السياسي.

اقرأ أيضاً: كيف بنت الصين نظام تجسس سيبراني فريداً من نوعه؟

كما يقوض الرسالة الديمقراطية حول مكافحة المراقبة القمعية. وبهذا، فإن بعض هذه الحكومات يساعد في تأسيس سوق لأدوات المراقبة، ويساعد في دفع الأموال في الولايات المتحدة لشركة تُعرف على نطاق واسع ببيع نفس التكنولوجيا للطغاة. في الواقع، يثني التقرير على الولايات المتحدة لعملها ضد برامج التجسس، على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين مقصرون على المستوى المحلي، ويجب أن يضاعفوا جهودهم مع الشركاء في أوروبا وغيرها لضمان منع نشاطات كهذه.

إن السيطرة على هذه التكنولوجيا أمر بالغ الصعوبة، فإجراءات حظر التصدير التي تفرضها الحكومات على البضائع المادية الملموسة، مثل الأسلحة والمواد الكيميائية، لا تصلح للاستخدام مع البرمجيات. ولكن، وحتى تستطيع الحكومات الديمقراطية حماية الخصوصية في العصر الحديث، عليها أولاً أن ترتب بيوتها الداخلية.