الذكاء الاصطناعي لا يهدد وظيفتك بالضرورة لكنه سيغيرها

5 دقائق
عملك ليس مهدداً بسبب الذكاء الاصطناعي بالضرورة ولكنه سيتغير
مصدر الصورة: ستيفاني أرنيت. إم آي تي تي آر
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عادة ما تكون التطورات في الذكاء الاصطناعي متبوعة بمخاوف تتعلق بالوظائف والعمل. ولا تمثل أحدث موجة من نماذج الذكاء الاصطناعي؛ مثل تشات جي بي تي (ChatGPT) وجي بي تي 4 (GPT-4) الجديد من أوبن أيه آي (OpenAI)، خروجاً عن هذه القاعدة. ففي البداية، شهدنا جميعاً إطلاق هذه الأنظمة، والآن بدأنا نرى التوقعات المتعلقة باستخدامها في الأتمتة.

ففي تقرير نشره بنك غولدمان ساكس (Goldman Sachs) مؤخراً، توقع البنك بأن تؤدي الإنجازات الجديدة التي يحرزها الذكاء الاصطناعي إلى أتمتة 300 مليون وظيفة بطريقة أو بأخرى؛ أي ما يقارب نسبة 18% من إجمالي القوة العاملة العالمية. أيضاً، نشرت أوبن أيه آي مؤخراً دراسة خاصة بها بالاشتراك مع جامعة بنسلفانيا، تقول فيها إن تشات جي بي تي يمكن أن يؤثر في أكثر من 80% من الوظائف في الولايات المتحدة.

أرقام مخيفة لكن مبهمة

ومع أن هذه الأرقام تبدو مخيفة؛ إلا أن صياغة هذه التقارير غامضة على نحو مخيب للآمال في بعض الأحيان، فكلمة “يؤثر” يمكن أن تحمل الكثير من المعاني؛ كما أن التفاصيل غير واضحة على الإطلاق.

فمن البديهي أن النماذج اللغوية الكبيرة مثل تشات جي بي تي وجي بي تي 4 ستؤثر بصورة خاصة في من يتعاملون مع اللغة في وظائفهم، ومن الأمثلة عن هذه الوظائف: المحاماة. أمضيت بعض الوقت في الفترة الأخيرة في دراسة المجال القانوني والتأثير المحتمل لنماذج الذكاء الاصطناعي فيه، ووجدت ما يدعو إلى التفاؤل بقدر ما وجدت ما يدعو إلى القلق.

لقد أصبح مجال العمل القانوني القديم العهد الذي تسير عجلة تطوره ببطء، عرضةً للزعزعة التكنولوجية منذ بعض الوقت. وفي هذا المجال الذي يعاني من نقص في العمالة ويستدعي التعامل مع كميات هائلة من الوثائق المعقدة، يمكن للتكنولوجيات القادرة على فهم النصوص وتلخيصها بسرعة أن تكون مفيدة للغاية. إذاً، كيف ينبغي لنا أن نفكر في التأثير المحتمل لنماذج الذكاء الاصطناعي هذه في القطاع القانوني؟

اقرأ أيضاً: البوت المحامي «دونت باي» ينسحب من المحاكم الأميركية

الذكاء الاصطناعي في القطاع القانوني

أولاً، التطورات التي أُحرزت مؤخراً في الذكاء الاصطناعي ملائمة للعمل القانوني على نحو خاص، فقد نجح جي بي تي 4 في الامتحان العام لنقابة المحامين (Universal Bar Exam)؛ وهو الاختبار المعياري المطلوب للحصول على رخصة مزاولة المحاماة (في الولايات المتحدة). ولكن هذا لا يعني أن الذكاء الاصطناعي جاهز للقيام بدور المحامي،

فمن المحتمل أن عملية تدريب النموذج تضمنت الآلاف من الاختبارات التجريبية، وهو ما يمكن أن يجعله بارعاً في اجتياز هذا الاختبار ولكنه لا يجعله محامياً بارعاً بالضرورة. ومن الجدير بالذكر أننا لا نعرف الكثير حول البيانات المُستَخدَمة في تدريب جي بي تي 4، لأن أوبن أيه آي لم تصرّح عن هذه المعلومات بعد.

ومع هذا، فإن النظام بارع للغاية في استيعاب النصوص، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى المحامين.

يقول أستاذ القانون في كلية شيكاغو-كينت للحقوق، دانييل كاتز الذي نظّم امتحان جي بي تي 4: “تمثل اللغة أساس مجال العمل القانوني واختصاص القانون، فلا يمكن اتخاذ أي خطوة دون الحاجة إلى مستند أو وثيقة ما. تجب عليك دائماً قراءة وثيقة ما أو استيعابها أو كتابتها، وهي بمثابة عملة يتبادلها العاملون في هذا المجال”.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يحل الذكاء الاصطناعي محل المحامين والقضاة؟

ثانياً، يتضمن العمل القانوني الكثير من المهام التكرارية التي تمكن أتمتتها؛ مثل البحث عن القوانين القابلة للتطبيق والقضايا، وتجميع الأدلة والقرائن المهمة، وذلك بحسب تعبير كاتز.

كان أحد الباحثين المشاركين في الورقة البحثية حول الامتحان، بابلو أريدوندو، يعمل سراً مع أوبن أيه آي لاستخدام جي بي تي 4 في الأدوات القانونية التي تطورها شركة كيس تيكست (Casetext) التي تتعاون معها منذ خريف 2022. تقول شركة كيس تيكست في موقعها الإلكتروني إنها تعتمد على الذكاء الاصطناعي في “تدقيق الوثائق، وصياغة مذكرات البحث القانوني، وتحضير الإفادات، وتحليل العقود”.

يقول أريدوندو إنه عندما استخدم جي بي تي 4، ازداد حماسه كثيراً إزاء إمكاناته في مساعدة المحامين، وإن هذه التكنولوجيا “مذهلة” و”دقيقة”.

ولكن استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني ليس بالفكرة الجديدة، فقد استُخدم من قبل في تدقيق العقود، والتنبؤ بالنتائج القانونية؛ كما أجرى بعض الباحثين مؤخراً دراسة حول إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي في إقرار القوانين. وفي الآونة الأخيرة، درست شركة حقوق المستهلك دو نات باي (DoNotPay) استخدام مرافعة يكتبها نظام ذكاء اصطناعي يدعى “المحامي الروبوتي” ويستمع المحامي إليها عبر سماعة للأذن في المحكمة. ولكن دو نات باي لم تنفّذ هذه التجربة؛ كما أنها تواجه دعوى قضائية بتهمة مزاولة المحاماة دون رخصة.

وعلى الرغم من هذه الأمثلة، فاستخدام هذه التكنولوجيات في مكاتب المحاماة ما زال محدوداً حتى الآن؛ ولكن هل يمكن لهذا أن يتغير مع النماذج اللغوية الكبيرة الجديدة؟

اقرأ أيضاً: كيف تسعى أوبن أيه آي إلى جعل تشات جي بي تي أكثر أماناً وأقل تحيزاً؟

ثالثاً، المحامون معتادون على تدقيق العمل وتعديله.

ليست النماذج اللغوية الكبيرة مثالية على الإطلاق، وما زال عملها بحاجة إلى الكثير من التدقيق، وهو أمر مرهق. ولكن المحامين معتادون إلى درجة كبيرة على تدقيق الوثائق التي كتبها شخص آخر، أو شيء آخر في حالتنا هذه. كما أن الكثيرين منهم متمرسون ومُدَرّبون على تدقيق الوثائق؛ ما يعني أن زيادة استخدام الذكاء الاصطناعي، تحت الإشراف البشري، يمكن أن تكون عملية وسهلة نسبياً بالمقارنة مع استخدام هذه التكنولوجيا في مجالات أخرى.

أما السؤال المهم فيتمحور حول إمكانية إقناع المحامين بوضع ثقتهم في نظام آلي بدلاً من محامٍ متدرب أمضى 3 سنوات في كلية الحقوق.

وأخيراً، لا بد من التحدث عن قيود هذه الأنظمة ومخاطرها.

على سبيل المثال؛ إن جي بي تي 4 يكتب في بعض الأحيان نصوصاً مُقنِعة للغاية ولكنها غير صحيحة؛ كما أنه يرتكب بعض الأخطاء الفادحة فيما يتعلق بالمصادر. يقول أرودوندو إن جي بي تي 4 أثار لديه في إحدى المرات بعض الشكوك حول قضية عمل عليها بنفسه، ويسهب موضحاً: “قلت له: أنت مخطئ، فقد عملتُ على هذه القضية بنفسي. وردّ عليّ الذكاء الاصطناعي قائلاً: يمكنك أن تتباهى بالقضايا التي عملت عليها يا بابلو قدر ما تشاء؛ ولكنني محقّ وإليك الدليل. وعندها، قدم لي عنوان صفحة إلكترونية لا وجود لها على الإنترنت. إنه مختلّ بعض الشيء”!

اقرأ أيضاً: أهم 5 مجالات تثير اهتمام شركات الذكاء الاصطناعي في الوقت الراهن

الإشراف البشري على أنظمة الذكاء الاصطناعي: أولاً وأخيراً

يقول كاتز إن الإشراف البشري ضروري عند استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي، ويؤكد التزام المحامين المهني بتوخي الدقة: “يجب ألا تستخدم نتائج هذه الأنظمة وتعطيها للناس دون تدقيق”.

يبدي الآخرون درجات أعلى من التشكيك؛ إذ يقول مدير مشاريع الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان في مركز معلومات الخصوصية الإلكترونية، بين وينترز: “هذه ليست أداة يمكنني الوثوق بها لضمان الحصول على تحليلات قانونية جيدة وحديثة”. ويصف وينترز ثقافة الذكاء الاصطناعي التوليدي في المجال القانوني بأنها: “تتسم بالثقة المفرطة وغير خاضعة للمساءلة”. إضافة إلى هذا، ثمة العديد من الأبحاث الموثقة جيداً حول انتشار التحيز العرقي والتحيز ضد المرأة في أنظمة الذكاء الاصطناعي.

ثمة حيثيات أخرى بعيدة المدى وعلى مستوىً عالٍ من الحساسية؛ إذا قلّت الأبحاث القانونية التي يجريها المحامون، فما عواقب ذلك على الخبرات والإشراف في هذا المجال؟

اقرأ أيضاً: كيف يستخدم خبراء الذكاء الاصطناعي جي بي تي 4؟

ولكن ما زال من المبكر الحديث عن هذه المسألة في الوقت الحالي، فمنذ فترة وجيزة، تشاركت مع زميلي والمحرر المسهم في تكنولوجي ريفيو، ديفيد روتمان، في كتابة مقال حللنا فيه تأثير عصر الذكاء الاصطناعي الجديد في الاقتصاد، لا سيما من حيث الوظائف والإنتاجية.

قلنا فيه: “تقول وجهة النظر الإيجابية إن الذكاء الاصطناعي سيكون أداة عالية الفعالية بالنسبة إلى الكثير من العاملين؛ حيث ستحسّن قدراتهم وخبراتهم وتعزز الاقتصاد عموماً. أما وجهة النظر السلبية فتقول إن الشركات ستستخدم الذكاء الاصطناعي ببساطة لتدمير وظائف كانت تبدو فيما مضى عصيّة على الأتمتة بأجور مرتفعة تتطلب مهارات إبداعية وتفكيراً منطقياً؛ ما يعني زيادة ثراء مجموعة صغيرة من شركات التكنولوجيا المتطورة والنخب التكنولوجية ولكن دون أثر يستحق الذكر على النمو الاقتصادي الإجمالي”.