عائشة بن بشر ودبي الذكية: من حلم في 2012 إلى عاصمة البلوك تشين في 2018

14 دقيقة
المدير العام لمكتب دبي الذكية، عائشة بن بشر، مع رئيسة تحرير بوبيولار ساينس-العلوم للعموم ضيا هيكل
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في مكتب دبي الذكية، لا تجد موظف استقبال. إنما تجد روبوتة (الصورة أدناه)، علمتُ لاحقاً أن اسمها فرح، ترحب بك وتطلب منك أن تلحقها إلى شاشة كبيرة (الصورة في الأعلى). على الشاشة، تُدخل اسمك، واسم الشخص الذي تود مقابلته ومن ثم تجلس ليأتي ذلك الشخص لاستقبالك. هذا الاستقبال غير التقليدي كفيل بإثارة حماسة أي زائر، وأول برهان على أن المؤسسة «تفعل ما تقول».

تدخل د. عائشة بن بشر إلى الغرفة التي اختارها فريقها الإعلامي لإجراء المقابلة، في مقر دبي الذكية (التي كانت حلماً بالنسبة لها منذ ست سنوات فقط) في حي دبي للتصميم، تغمرها أشعة شمس أبريل الساطعة معلنة بدء موسم الصيف. ترحب بنا بوجه باشّ. تبدأ بالحديث، واضعة جهازها الآيباد على الطاولة أمامها وتخبرني كم تحب قراءة أعداد بوبيولار ساينسالعلوم للعلوم.

مدخل مكتب دبي الذكية حيث تستقبلك الروبوتة فرح.

بدأت حواري معها بسؤالها عن بدايات دبي الذكية.

شغف بن بشر بالعلوم والتكنولوجيا قديم، تحدثني عنه بكاريزمتها الطاغية وتصف علاقتها بدبي الذكية بالحميمية والخصوصية. فقد شكلت فكرة تبني الحكومة لتقنيات المعلومات هاجساً لها منذ يفاعتها، خصوصاً وهي تشاهد التطور السريع للتقنيات وسرعة تبنيها. وقد تولّت في أول عمل لها مسؤولية التحول الذكي في إحدى المؤسسات الحكومية في دبي. شغلت بن بشر منصب المدير العام المساعد في المكتب التنفيذي لحكومة دبي، حيث عملت على تطوير وتنفيذ سياسات التحديث والابتكار عبر دراسة التطورات الحاصلة في العالم وإمكانية تطبيقها في دبي، ومن ضمنها كانت فكرة المدينة الذكية في 2013. تقول: «كانت حلماً بالنسبة لي بالتأكيد، وكانت تجذبني إليها مثل المغناطيس».

أما فكرة الحكومة الإلكترونية، فبدايتها كانت في عام 1999-2000 عندما طلب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم القيام بدراسة حول أهمية الاتصالات وتقنية المعلومات، وكيف لحكومة دبي أن تستفيد منها. وبناء على ذلك، قام الفريق المكلَّف بتقديم تقرير قوامه العديد من المبادرات المقترحة التي نراها اليوم على أرض الواقع، منها، مثلاً، توحيد جهود الجهات الحكومية في كيفية إدارة مواردها. تخبرنا: «نحن الحكومة الوحيدة في العالم التي تملك نظاماً واحداً يدير كافة مواردها البشرية والمالية. نطلق عليه اسم نظم تخطيط الموارد الحكومية (Government Resource Planning -GRP) أو ما يسمى في مؤسسات القطاع الخاص نظام تخطيط موارد المؤسسة (ERP). فنحن ندير أكثر من 60 جهة حكومية، وما يزيد على 75,000 موظف حكومي، وننجز معاملات أكثر من 45,000 مورّد للحكومة. كل ذلك من منصة واحدة».

“كانت حلماً بالنسبة لي بالتأكيد، وكانت تجذبني إليها مثل المغناطيس”

وكانت إحدى الأفكار الأخرى التي عُرضت في التقرير أيضاً ربط المؤسسات الحكومية بشبكة إنترنت محمية ومؤمنة، تضمن نقل البيانات بشكل سري أُطلق عليها اسم شبكة المعلومات الحكومية (GIN-Government Internet Network). وهناك أيضاً الحكومة الإلكترونية، وكذلك مدينة دبي للإنترنت، وذلك بهدف استقطاب رواد الأعمال والشركات العالمية لتنشئ مقرات لها في الإمارات، ولتدير عملياتها في المنطقة انطلاقا منها. ثم خرج مشروع مدينة دبي للإعلام.

الحكومة الذكية:

في عام 2013، وجه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بتشكيل الحكومة الذكية، بناء على الإحصاءات التي سجّلت نسبة مرتفعة من استخدام الأجهزة الذكية في دولة الإمارات، «وذلك بهدف توفير خدمات الجهات الحكومية على مدار الساعة، طيلة أيام الأسبوع من غير أي حواجز» تقول بن بشر. وقد أثمر هذا التوجه عن تحقيق المؤسسات الحكومية نقلة نوعية في آليات تقديم خدماتها للجمهور بطريقة سلسة بغض النظر عن مكان وجودهم. كان للحكومة الإلكترونية دور كبير في مرحلة التأسيس بين عامي 2000 و2013، حيث مهّدت الطريق لمجتمع معرفي متقبّل لتقنيات المعلومات المختلفة. وترافق هذا مع تطورات مماثلة شهدتها كل من المدارس والجامعات، وبيئات الأعمال.

هيكل: إذاً ما الفرق بين الحكومة الإلكترونية والحكومة الذكية؟

بن بشر: الحكومة الذكية هي تطور طبيعي للحكومة الإلكترونية. فقد قمنا بنقل تجارب المستخدمين إلى أجهزة أصغر. ما تغير أنه عبر هذه الأجهزة الصغيرة، وفي هذا العصر السريع، توجب علينا أن نعيد هندسة عملياتنا. فنحن كمستخدمين نتوقع أن تتم أي عملية بضغطة زر فقط لا أكثر. ولذلك يتوقع الناس عند تواصلهم معنا بالموبايل سرعة في الاستجابة وشفافية عالية. تخيلي مثلاً أن تطلبي معاملة حكومية معينة فيكون الجواب أنه سيتم الرد عليك بعد 24 ساعة عندما تفتح الدائرة المسؤولة، هذا جواب غير مقبول في هذا العصر. لقد انتقلنا من مجرد ست ساعات عمل إلى 24 ساعة. في الدول الأخرى، يقوم القطاع الخاص بتبني أي تطوّر قبل الحكومة، أما في دولة الإمارات فالأمر معكوس. إذ لدينا قيادة واعية ومهتمة بتطوير أداء حكومتها، تصمم المستقبل وتطبقه اليوم.  

هيكل: وما هي التحديات التي واجهتكم أثناء التخطيط والتنفيذ؟

بن بشر: في دبي انتقلنا من مفهوم الحكومة الذكية. أصبحنا مدينة ذكية. المدينة الذكية جميع عناصرها تستخدم التقنيات الحديثة والناشئة، لتصميم نماذج حياتية جديدة. فإذا كنت أتعامل مع الحكومة بسرعة وكفاءة، فليس من المنطق أن أتعامل مع القطاع الخاص ببطء، فأنا الإنسان ذاته، لم على تجربتي أن تكون مختلفة هكذا وأنا في المدينة نفسها؟

في عام 2014، وجّه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بإنشاء المدينة الذكية بحيث نحول المدينة بكافة قطاعاتها إلى مدينة تستخدم التقنيات الذكية بكفاءة وتقدم تجارب سلسة تلبي احتياجات المواطن والمقيم والزائر. ولكن أهم التحديات هي التكلفة. فنحن بحاجة مثلاً إلى وضع حساسات على الطرقات لإرسال الإشارات المناسبة، إذا كان هناك ازدحام في شارع ما، وأن تخاطب إشارة المرور السيارة. ومن الصعب أن توجد التقنيات والإجراءات، وأن تعمل بين ليلة وضحاها. لذلك كانت إحدى المنهجيات التي اتبعناها هي الشراكة مع القطاع الخاص. فقد ساعدتنا مثلاً الشراكة الاستراتيجية مع شركة الإمارات للاتصالات المتكاملة (دو) في تطوير العمود الرقمي لمدينة دبي، فمن خلاله سنقوم بجمع كافة البيانات التي تردنا من الحساسات والأنظمة المنتشرة في كل مكان، ومن ثم تحليلها وتصنيفها بطريقة علمية مدروسة ليصار إلى توفيرها بشكل يليق بالمتلقي سواء كان طالباً، أو باحثاً، أو مستثمراً، أو رجل أعمال.

أما بالنسبة للتحديات التنظيمية والتشريعية، فكان أحدها جعل التوقيع الإلكتروني مقبولاً لدى المحكمة. ففي حال كان هناك أي مشكلة أو تزوير، يجب أن يكون لهذه المشكلة حل. فالتوقيع الإلكتروني هو طابع، أو خوارزمية رقمية تظهر على المعاملة، تؤكد أن فلاناً قد قام فعلاً في الساعة كذا، من اليوم كذا بالتوقيع على هذه المعاملة. والخبراء الذين يدققون عادة صحة توقيع عادي، يجب تأهيلهم بحيث يمكنهم فهم التوقيع الإلكتروني وكيفية إثبات صحته. وهناك تعاون كبير بين دبي الذكية ولجنة التشريعات العليا في دبي، لتطوير الكثير من التشريعات. وفي هذا الصدد، أصدرنا أول قانون وهو قانون دبي للبيانات في 2015، ثم ألحقناه بحقيبة من السياسات المعنية بالخصوصية وتصنيف البيانات، وتوقيت نشرها أو المحافظة عليها بحسب سريتها. كما نعمل مع اللجنة الآن على مشروع الهوية الرقمية، ونسعى لجعلها متاحة وبشكل متكامل في جميع أنحاء الدولة، بالتعاون مع الهيئة العامة لتنظيم قطاع الاتصالات.

“إذا كنت أتعامل مع الحكومة بسرعة وكفاءة، فليس من المنطق أن أتعامل مع القطاع الخاص ببطء، فأنا الإنسان ذاته، لِمَ على تجربتي أن تكون مختلفة هكذا وأنا في المدينة نفسها؟”

أما بالنسبة لتقنية البلوك تشين. فهي تقنية ما زالت حديثة. ولا ندري تماماً كيف ستتطور. ولا ندري ما هي التشريعات التي نحن بحاجة إليها، أو البروتوكولات اللازمة. لا يوجد تطبيق عالمي على مستوى حكومة يقول إن هذه هي تطبيقاتي، وهذه سياساتي وتشريعاتي المرافقة لها. ومع أنه تحد كبير، إلا أننا نراه فرصة هامة. وهذا الذي يميز دبي عن أي مدينة أخرى، وهو ما علمنا إياه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. فهو يقول دائماً إن كل تحدٍ نراه أمامنا هو فرصة لتطوير دولتنا.

لقد قمنا باستقطاب أهم شركتين في مجال تطوير وتطبيق تقنيات البلوك تشين وهما: آي بي إم وكونسنسيس. ولكل منهما إطار عمل مختلف. ولا نعرف اليوم أيهما ستكبر وتصبح الرائدة في هذه التقنية، وهو ما يذكرنا بالعصر الذي دخلت فيه شبكة الإنترنت. لم يكن هناك آنذاك لغة برمجة واحدة أو بروتوكول موحد. كنا سابقاً ننتظر لنرى ماذا يفعل الغرب ونستفيد مما طبقه. أما اليوم، فقد أصبحنا في دبي على درجة من التطور والنضوج تؤهلنا لأن نكون الرواد في هذا القطاع، وقادة جهود تطويره. وقد قطعنا شوطاً كبيراً بالتعاون مع الشريكين المذكورين. المستقبل اليوم بحاجة إلى مهارتين: البرمجة، والتعامل مع البيانات.

دبي عاصمة البلوك تشين. وأقولها بفخر وبكل ثقة. فنحن اليوم المدينة الوحيدة في العالم التي أطلقت استراتيجية للبلوك تشين تقوم على تبني هذه التقنية والاستفادة منها في إنجاز كافة المعاملات القابلة للتحويل على شبكات البلوك تشين بنسبة 100% بحلول عام 2020. ولهذه الاستراتيجية ثلاثة محاور:

المحور الأول: يتمثل ففي تحويل الخدمات الحكومية، حيث نعمل بالتنسيق مع شركائنا في المؤسسات الحكومية لإنجاز هذه الخطوة.

المحور الثاني: هو خلق بيئة محفزة لاقتصاد البلوك تشين، والعمل على استقطاب الكفاءات ودعمها. وفي هذا الصدد تم إطلاق مبادرات عدة منها مسرّعات المستقبل، ومسابقة البلوك تشين التي ننظمها للعام الثاني على التوالي. ففي 2017 أطلقنا تحدي دبي العالمي للبلوك تشين، وتلقينا أكثر من 85 طلباً من أكثر من 19 مدينة في العالم. ووقع اختيارنا على 20 شركة تأهلت للمرحلة النهائية وجاءت إلى دبي في مايو الماضي. وقد قام الفائزون الثلاثة في هذه المسابقة بتأسيس شركاتهم في دبي، بدورنا عملنا على ربطهم مع شركاء من المؤسسات الحكومية التي ستستفيد من هذه التطبيقات. كما أننا نجري التحدي هذه السنة أيضاً ووصلنا ما يزيد على 200 طلب، من 55 مدينة، وسيتم الإعلان عن الفائزين خلال الشهر المقبل.

“كنا سابقاً ننتظر لنرى ماذا يفعل الغرب ونستفيد مما طبقه. أما اليوم، فقد أصبحنا في دبي على درجة من التطور والنضوج تؤهلنا لأن نكون الرواد في هذا القطاع، وقادة جهود تطويره”

المحور الثالث: هو الريادة العالمية في هذا القطاع الناشئ، فقد استطعنا وضع اسم دبي على خارطة البلوك تشين العالمية. وفي كافة المؤتمرات التي نذهب إليها في مدن مختلفة، لا بصفة مشاركين بل حضور فقط، نسمع المتحدثين يذكرون دبي كمثال على تطبيقات البلوك تشين. وكمثال على هذا، ما حدث حين كنا في مدينة أوستين الأميركية الشهر الفائت، في مؤتمر ساوث باي ساوث ويست (South by Southwest)، أحد أكبر المؤتمرات التقنية. ومن بين المحاور المدرجة على أجندة المؤتمر موضوع البلوك تشين، وقد حضرنا جميع الجلسات للتعرف على الجديد في هذا قطاع البلوك عالمياً، بهدف الاستفادة منه وتطبيقه لدينا، ولكن دبي كانت هي المثال الأول في كل جلسة حضرناها.

أما في ما يتعلق بالمعاملات الحكومية، فقد استطعنا عبر هذه الاستراتيجية إعادة تصميم العديد من التجارب في المدينة. نحن لا نتكلم عن «خدمة» فحسب، بل عن تجربة متكاملة ذات ارتباط بأطراف مختلفة. فمثلاً، أنا أريد شراء بيت: إذن أنا بحاجة إلى التواصل مع المطوّر، دائرة الأراضي والأملاك، البنك، كاتب العدل، الصيانة، وشركة الأثاث، وغيرها. هذه الأطراف كلها جزء من عملية شرائي لمنزلي. فكيف أستطيع من خلال تقنية البلوك تشين أن أتواصل مع الجميع عن طريق الشبكة نفسها، وأن تكون بياناتي موجودة عليها وبسرية تامة، وأتمكن من إتمام المعاملة بشكل سريع وسهل؟

آخذين هذا الأمر بعين الاعتبار، بدأنا عدداً كبيراً من التجارب لكل منها فريق معني بتجربتها وتطبيقها. ونحن لن نطبقها بشكل فوري بل على ثلاث مراحل. الأولى: إثبات المفهوم*، الثانية حالة الاستخدام** والثالثة إطلاقها كتجربة متكاملة في حال تخطت بنجاح مرحلة حالة الاستخدام. واليوم تمكنا من إطلاق شبكة بلوك تشين العقارية، بالتعاون مع شركائنا في دائرة الأراضي والأملاك، فالمطوّرون والبناؤون، وكافة الرخص العقارية موجودة على البلوك تشين.

وفي تجربة ثانية، تقع ضمن مسؤولياتنا التحويلات المالية بين الحسابات المصرفية على مستوى الدوائر الحكومية عبر بوابة الدفع الإلكتروني. حيث أن عملية التحويل من حساب لآخر في الدوائر الحكومية، تأخذ حوالي 45 يوماً، وهي ما زالت بحاجة لتدخل بشري لإتمامها. إلا أن البلوك تشين ليس سحراً أو شيئاً صالحاً لتطبيقه على كل شيء، فهناك حالات معينة تكون ناجحة لتطبيقه عليها. وبالفعل عن طريق مسرعات دبي المستقبل، استطعنا وضع هذا التحدي، وقدمت عليه العديد من الشركات الناشئة، وفازت شركة محلية اسمها أفانزا، ونجحت فعلاً في تطبيق نموذج للتسديد ومطابقة السجلات في أقل من ثانية. فبضغطة زر، تحصل جميع التحويلات المالية. ونتيجة للنجاح الذي حققته هذه التجربة في مرحلة إثبات المفهوم، قمنا بتطبيقها كحالة استخدام، ومن ثم تنفيذها على صعيد أوسع شمل جميع الحسابات البنكية لحكومة دبي.

“دبي عاصمة البلوك تشين. وأقولها بفخر وبكل ثقة”

هيكل: إذن حتى لو لم يكن ما تبحثون عنه مطبقاً، تقومون بالعمل عليه مع شركاء؟

بن بشر: بالطبع. فنحن لدينا مسرعتان: مسرعات دبي المستقبل مع مؤسسة دبي للمستقبل، و»مسرعة دبي للمدن الذكية» تضم شريكين هما شركة الإمارات للاتصالات المتكاملة (دو) وشركة فيزا. تديرها شركة ستارت أب بوت كامب (المجموعة العالمية لبرامج المسرعات) ولدينا أكثر من ألف متقدم لمسرعة دبي للمدن الذكية. ويتمثل دورنا في ربط الشركات الناشئة بالجهات الحكومية، فعندما نرى واحدة من التطبيقات المناسبة نقوم بوصل فريقه مع الجهة الحكومية المعنية.

هيكل: كيف تختلف دبي بالس عن منصة البيانات المفتوحة؟

بن بشر: هناك اختلاف كبير في الحقيقة. بداية، دبي بالس بحد ذاتها، تكاد تكون المبادرة الوحيدة في العالم التي لا تركز على البيانات المفتوحة فحسب. نرى اليوم أن لندن تتحدث عن البيانات المفتوحة، وكوريا الجنوبية تتكلم عن البيانات المفتوحة، ونيويورك وبوسطن وأمستردام ومدن أخرى كبيرة تتحدث عن البيانات المفتوحة. لكن الهيئات الحكومية تتعامل في معزل عن بعضها البعض، ولا تتواصل فيما بينها. وإذا طلب أحدهم تقرير ما، يضعونه على قرص «سي. دي» أو «يو. إس. بي» أو غيرها.

تضيف مبتسمة: في أي عصر يعيشون!

وتكمل: بالنسبة للبيانات، فوجود الحواجز التي تعزل كل مؤسسة حكومية عن الأخرى يشكل تحدياً بالنسبة للحكومات. كما أن بناء أنظمة والربط فيما بينها، مكلف جداً. لكن إذا قمنا بمشاركة البيانات، فهو أمر بسيط وغير مكلف، يجنبنا الدخول في تفاصيل بيروقراطية، ويضمن الكفاءة والربط البيني. ومبادرتنا تشمل البيانات بكافة أنواعها، سواء كانت مشاركة، مفتوحة، أم سرية/أو خاصة.

إضافة إلى أن هناك تحديث على بعض أنواع البيانات كل 15 دقيقة عبر النظام، ويتم ذلك بشكل مؤتمت دون أي تدخل بشري في رفع البيانات. ولن يجد الباحث بيانات قديمة من عام 2009 مثلاً، فهذه بيانات تتحدث تلقائياً وبشكل مباشر. ونوفر أيضاً على المنصة أدوات تحليلية، عبر نافذة واحدة تسمح للمستخدم بالتفاعل مع البيانات من استخلاصها إلى دمجها ورسمها لعمل تقارير تحليلية مختلفة. كما يمكن استخلاص واجهات برمجة التطبيقات منها وعمل لوحة قياس عليها، الأمر الذي يجعلها مختلفة عن باقي المنصات العالمية أو المحلية بكونها منصة شاملة. ولذلك هي دبي بالس، هي نبض المدينة.

هيكل: وهل لديكم أي تخوّف من سوء استخدام هذه البيانات؟

بن بشر: عندما أطلقنا قانون البيانات وألحقناه بالسياسات، كان هناك فصل خاص عن سرية البيانات وحمايتها. فمثلاً ماذا سيحصل لو دمجت مجموعتي بيانات مفتوحة مع بيانات سرية، كيف سنحمي سرية البيانات؟ ولدينا لذلك فريق متكامل ومتخصص اسمه مركز دبي للأمن الإلكتروني يعمل معنا على تنفيذ هذه الإجراءات والسياسات، ليس فقط من ناحية البنية التحتية فقط، بل من ناحية المعلومات أيضاً. فاليوم نتكلم عن الذكاء الاصطناعي في التطبيقات المختلفة، فما هي الأخلاقيات التي تحدد عمله فيما يخص البيانات؟ لذا علينا التأكد من أن البيانات السرية، فيما يتعلق بالمعلومات الشخصية لكل فرد، محمية.

وبمناسبة الحديث عن تكامل البيانات مع تقنيات إنترنت الأشياء. كيف سيتم ربط استراتيجية إنترنت الأشياء مع هذه البيانات؟

اليوم عندما نتكلم عن إنترنت الأشياء، أو البلوك تشين، أو الذكاء الاصطناعي، أو أي نوع من التقنيات، فأساسها هو البيانات. فهذه التقنيات إما تقوم بإصدار بيانات، أو تتغذى من البيانات، أو الاثنين معاً. فإنترنت الأشياء تقوم بإصدار مجموعات مختلفة من البيانات. اليوم دبي فيها حساسات في كل مكان من مباني القطاع الخاص، والسيارات، والهيئة العامة لتنظيم قطاع الاتصالات، والرادارات، وكذلك كاميرات المراقبة.

وعندما وضعنا الاستراتيجية، كان هدفنا منها أن تمكننا فعلاً من أن نصبح مدينة ذكية، وأن تغطي عدة محاور سواء كانت البيئة، أو القطاع الصحي، أو التعليم، وكيف بإمكان أي أحد الاستفادة من هذه البيانات والعمل على حالات استخدام مختلفة لأننا اليوم ما زلنا نتردد في الاستثمار في التقنية الصحيحة التي ستعود بالفائدة الحقيقة على المؤسسات المختلفة.

ولإعطاء مثال أوضح عن الربط بين البيانات وإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، أخبرتنا بن بشر عن تطبيق مذهل قاموا به في ليلة رأس السنة في دبي.

بن بشر: كانت البيانات تتدفق من كافة أنحاء المدينة بوساطة حساسات دقيقة توفرها جهات مختلفة كشركات الاتصالات وغيرها. فمن خلال هذه الحساسات الموجودة في الطرق والسيارات الخاصة وسيارات التكسي والباصات، وسيارات الشرطة والإسعاف، ومن خلال كاميرات المراقبة في الطرق ووسط مدينة دبي، تمكنا من رؤية كيفية تحرّك الناس، فكل هذه البيانات ترتسم على خريطة أمامنا، نظراً لكون النظام مزوداً بتقنيات الذكاء الاصطناعي. لم يكن الهدف من هذا معرفة كل شخص، إنما كيف يتحرك الناس في تلك المنطقة، وكيف يمكن تجنب أية تصادمات ممكنة بينهم نتيجة الازدحام. قمنا بعمل الدراسة قبل شهرين من ليلة رأس السنة، واستطاع الذكاء الاصطناعي أن يتنبأ أين يفضل أفراد جنسية معينة أن يتجمعوا ضمن المنطقة، وكيف يتحركون، والأوقات التي يتجمّعون فيها. وهذا مفيد حتى بالنسبة للشرطة، عندما تريد أن ترسل شرطياً فعليه أن يتكلم لغتهم نفسها. فمجموعة من الصينيين مثلاً لا يمكن أن يرسل لهم شخص لا يتكلم الصينية. نحن مدينة ذكية في النهاية وعلينا مراعاة مواقف مماثلة. أو مثلاً هذه المنطقة تتجمع فيها سيدات أكثر من الرجال عادة، فعندما يصبح هناك أي تغيير على ذلك، يعطينا النظام تحذير alert للشرطة، لكي تكون جاهزة لأي طارئ ممكن.  

هيكل: مذهل حقاً!

تضحك بن بشر قائلة: «نعم، نعم، عالم مختلف كلياً»

داخل مكتب دبي الذكية

هيكل: ذكرتِ سابقاً أن العوائد المتوقعة للثروة الرقمیة الخاصة بإمارة دبي خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، تصل قیمتها إلى 33.8 ملیار درهم. كیف یتم حساب هذا الرقم وكيف سيكون دوره في اقتصاد الدولة في المرحلة المقبلة؟

بن بشر: عند دراستنا لهذه الأرقام، أردنا من خلالها معرفة العائد الحقيقي من هذه التقنيات. لا أستطيع أن أرى لندن تطبق شيئاً فأعمل مثلها ببساطة. لكن هناك الكثير من التطبيقات في القطاع الخاص مثل جوجل ومايكروسوفت التي يمكننا الاستفادة منها. فعملنا على التعاون مع شركات الاستشارات مثل كي بي إم جي، ودرسنا معهم الأثر الاقتصادي من فتح ومشاركة البيانات. وبالفعل تمكنّا من وضع نموذج يرينا التأثير المترتب على مشاركة البيانات، مثل كفاءة إنجاز المعاملات، وزمن الرحلات، والكثير غيرها. فخلصنا إلى أنه إذا قمنا فعلاً بمشاركة كافة البيانات بحلول عام 2021، فإن العائد الاقتصادي سيبلغ 10 مليار درهم سنوياً على دولة الإمارات.

هدفنا من تطبيق هذه التقنيات هو تسهيل حياة الناس وجعل كل شيء مؤتمت بشكل كامل. فنحن حكومة ذكية لكن لدينا بعض الثغرات التي نعمل على سدها. مثلاً إذا أردت التقديم على رخصة تجارية، تحصل على الموافقة المبدئية خلال 15 دقيقة، لكن ماذا بعد ذلك؟ هناك أوراق مطلوبة، وإجراءات عديدة مع البنك وغيرها. لكننا مدينة ذكية، لذا يجب أن يكون كل شيء مؤتمت 100%، أي عدم استخدام أي ورقة في أي معاملة حكومية. فنحن اليوم نخطط للوصول إلى المريخ، وما زال يطلب مني أن أطبع أوراق؟ أمر غير مقبول. حلمنا في إمارة دبي أن تكون خالية من الورق في القطاع الحكومي، ليس فقط في المعاملات الخارجية، بل الداخلية أيضاً.

أجرينا دراسة شملت ثلاث جهات حكومية فقط لمعرفة كم ورقة تصدرها الحكومة، علماً أن هناك أكثر من 60 جهة حكومية. فكان الرقم أكثر من مليار ورقة في السنة! يعني ذلك أنه بإمكاننا بذلك الرقم إطعام 4 مليون طفل في العالم، وتوفير 40 ساعة للشخص الواحد يقضيها في التعامل مع هذه الأوراق. كما يعادل ذلك 130,000 شجرة. يعني أن تُغطي سنترال بارك خمس مرات في نيويورك. وكل عملية نقوم بها أو إجراء نتخذه، نحرص على دراسة جدواه.

“يجب أن يكون كل شيء مؤتمت 100%، أي عدم استخدام أي ورقة في أي معاملة حكومية. فنحن اليوم نخطط للوصول إلى المريخ، وما زال يطلب مني أن أطبع أوراق؟ أمر غير مقبول”

هيكل: ماذا عن التهديدات السيبرانية الخارجية فيما يتعلق بإنترنت الأشياء؟

بن بشر: الخطورة ليست فقط على إنترنت الأشياء إنما أي نظام يجب أن يكون له معايير وسياسات تحميه. لدينا مركز معني بالأمن السيبراني، وهو مركز دبي للأمن الإلكتروني. ونعمل معهم بشكل كبير. لا نقول أننا لا نتعرض لهجمات إلكترونية، الجميع معرّض لأمور كهذه، لكننا نحاول تجنبها من خلال إقامة شراكات مع اتصالات ودو، وهم لديهم فريق كامل لمنع حدوث مثل هذه الأشياء.

وفي كل مؤسسة حكومية يوجد فريق للأمن السيبراني. مثلاً هيئة كهرباء ومياه دبي لديها فريق مؤلف من ثلاثين شخصاً من شبان وشابات إماراتيين متخصصين في الأمن السيبراني، ونفس الأمر في الصحة والشرطة والطرق، كما أن لديهم ممثلين في مركز دبي للأمن الإلكتروني.

هيكل: ماذا عن الفرق بين بناء مدن جديدة ذكية بالكامل مثل نيوم في المملكة العربية السعودية، أو تحديث المدن القائمة وجعلها ذكية. ما الفرق من ناحية التحضير والتكاليف؟

بن بشر: كان هذا في الواقع محور نقاش عندما بدأنا في 2013. كان هناك أمثلة أمامنا تسمى «جرين فيلد» مثل سونغدو في كوريا الجنوبية وهي مشاريع جديدة تُبنى من الصفر. حيث اختاروا مساحة فارغة، وبنوها على أساس التقنيات الحديثة مثل إنترنت الأشياء والتي دخلت حتى إلى المنازل. ولكن ذلك قد يسبب صدمة للإنسان، لأن طبيعة البشر تحتاج لأن تتطور ليس فقط من الناحية الفيزيائية بل العاطفية أيضاً، وبشكل تدريجي، مع تطور التقنيات.

وكان لدينا أيضاً نموذج الـ»براون فيلد». وهو أن تأخذ مدينة موجودة وتعمل على إدخال التقنية إلى بنيتها. فكان التوجه أن نعمل على الاثنين معاً. والمكان الذي نحن فيه اليوم (حي دبي للتصميم) هو جرين فيلد. حيث تم تصميمه من الصفر ليكون مدينة ذكية. فأنا عندما أدخل بسيارتي اليوم إلى موقف السيارات، يفتح الحاجز لي دون أن أفعل أي شيء. وكذلك الأبواب والمصعد. لكن ذلك ليس متاحاً لزوارنا بعد، ونعمل على تخطيطه الآن. فإذا أرسل الزائر صورة له، سيعرف النظام أنه قادم ويأخذه المصعد إلى الطابق المحدد. إن نظام التكييف، واستهلاك الكهرباء، في نموذج جرين فيلد أيضاً مدروس بعناية.

وقد أطلقنا «إرشادات الأحياء الذكية» بحيث يصبح بإمكان المطورين العقاريين استخدامه، والبناء من الصفر باتباع هذه الإرشادات. وبدأنا العمل مع الجهات الحكومية على تطوير ال «براون فيلد». فمثلاً وضع حساسات على شارع الشيخ زايد، وإضافة حساسات إلى مواقف السيارات، وكذلك إلى المستشفيات لتقوم بتخزين البيانات الموجودة لديها مثل مستشفى راشد، ومستشفى لطيفة، وغيرها. وحتى في المنازل ركّبنا العداد الذكي. وفي ال «براون فيلد» عادة تكون التكلفة أكثر.

تضيف: «لكننا نحن نحب الصعب دائماً» وتضحك.

هيكل: كيف تعملون على تأهيل عامة الناس لتقبّل واستعمال هذه التقنيات الجديدة كلها؟

بن بشر: بدأنا ماجستير علوم المدينة الذكية مع معهد روتشستر للتكنولوجيا في مقرهم في دبي. وقمنا بتصميم البرنامج معهم، وأُطلق في دبي قبل أميركا. وتم تخريج دفعتين حتى الآن.

كما أن لدينا تعاون مستمر مع كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية لإطلاق دبلومات تنفيذية للتعامل مع البيانات ومدخل إلى علم البيانات منذ 2016. وأطلقنا أيضاً «الدبلوم المهني للسعادة المؤسسية» وهي متاحة للجميع، فحتى القطاع الخاص يمكن له أن يأخذ الاستراتيجيات ويطبقها في مؤسسته.

إن واحدة من المهارات التي تُشترى بالذهب هي خبرة التعامل مع البيانات. لذلك سنطلق في الربع الثالث من هذا العام شهادة ماجستير في علم البيانات. وستدرّس في معهد روتشستر للتكنولوجيا. وعن قريب، سيكون هناك منهاج مدرسي لنشر هذه الثقافة في أوساط طلاب المدارس.

*إثبات جدوى الفكرة، من أجل معاينة إمكانية تطبيقها

**مجموعة من السناريوهات التي تصف التفاعل بين المستخدم والنظام، وتساعد عادة في التخطيط للمشروع

نشرت هذه المقابلة في عدد مجلة بوبيولار ساينس-العلوم للعموم مارس/أبريل 2018