بين الفوضى والاستقرار: حالات الدماغ الغريبة

4 دقائق
هل يمكن الاستفادة من دراسة النشاط العصبي الدماغي في علاج الاضطرابات العصبية؟
صورة التصوير المقطعي: مايكل وارد
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

وفقاً لدراسة قام فيها الباحثون بتسجيل النشاط الدماغي لمجموعة من المتطوعين على مدار أسبوع، توجد أدمغتنا في حالة وسيطة بين الفوضى والاستقرار في أثناء محاولتها مساعدتنا على فهم العالم. على سبيل المثال، عند الانتقال من قراءة كتاب ما إلى الدردشة مع صديق، تنتقل أدمغتنا من حالة شبه مستقرة إلى حالة شبه مستقرة أخرى. ولكن لا يحصل ذلك إلا بعد المرور بشكل عشوائي عبر العديد من الحالات المتعددة وفق نمط يبدو عشوائياً تماماً.

يمكن أن يساعد فهم الطريقة التي تحتفظ وفقها أدمغتنا بدرجة ما من الاستقرار بعد المرور بحالات الفوضى على علاج الاضطرابات الناجمة عن حالتي الفوضى والاستقرار المتطرفتين. يقول علماء الأعصاب الذين ألفوا الدراسة الجديدة إن الدماغ يمر بمرحلة من الفوضى الشديدة في أثناء النوبات، بينما يؤدي المرور في حالة من الاستقرار المفرط إلى الإصابة بالغيبوبة.

اقرأ أيضاً: هل يُعتبر تحفيز الدماغ عملية توغليّة؟

يمكن أن يساعد فهم ما يحدث في الدماغ بشكل أفضل على استخدام المحاكيات الدماغية لوضع الدماغ في حالة مثالية ما بين الحالات المتطرفة التي تتمثل في الفوضى والاستقرار.

أسبوع في الدماغ

كشفت تقنيات تصوير الدماغ الكثير عن آلية عمل هذا العضو، ولكن كمية المعلومات التي يمكننا كشفها من خلال جعل الأشخاص يستلقون ساكنين في أجهزة مسح الدماغ لنصف ساعة من الزمن محدودة.

رغب الباحثان من جامعة بيتسبرغ، أفنيل غومان (Avniel Ghuman) وماكسويل وانغ (Maxwell Wang)، بمعرفة ما يحصل في الدماغ على المدى الطويل. ففي النهاية، يقول وانغ إن أعراض العديد من الاضطرابات العصبية تتطور على مدار ساعات أو أيام. لفهم الظواهر التي تحدث في الدماغ بشكل أفضل. صمم الباحثان تجربة تتيح لهما مراقبة النشاط الدماغي لمدة أسبوع كامل.

استعان غومان ووانغ وزملاؤهما بالأشخاص الذين يحتاجون الخضوع لعمليات الجراحة الدماغية لعلاج الصرع. يختار بعض الأشخاص الذين يعانون من الصرع الشديد أو غير القابل للعلاج دون التدخل الجراحي إزالة الأجزاء الصغيرة من أدمغتهم التي تحفّز نوبات الصرع جراحياً. قبل الخضوع للعمليات الجراحية، قد يتم زرع أقطاب كهربائية في أدمغة هؤلاء المرضى لمدة أسبوع أو نحو ذلك. خلال ذلك الوقت، تراقب هذه الأقطاب النشاط الدماغي لمساعدة الجراحين على تحديد المناطق التي تبدأ فيها نوبات الصرع والأجزاء من الدماغ التي تجب إزالتها.

اقرأ أيضاً: ما حقيقة الشرائح الإلكترونية التي تُزرع في الدماغ؟

شارك 20 شخصاً من الذين زرعت الأقطاب في أدمغتهم في الدراسة الجديدة، وتم زرع ما بين 10 و15 قطباً كهربائياً في دماغ كل مشارك لفترة تتراوح بين 3 أيام و12 يوماً.

جمّع الباحثون تسجيلات الأقطاب الكهربائية التي أجريت طوال تلك الفترة. كان المتطوعون جميعاً ضمن المستشفى في أثناء خضوعهم للمراقبة، ولكنهم مارسوا النشاطات اليومية الاعتيادية مثل تناول الطعام والتحدّث إلى الأصدقاء ومشاهدة التلفاز وقراءة الكتب. يقول غومان: “نعرف معلومات قليلة للغاية عن نشاط الدماغ في أثناء القيام بهذه السلوكيات الطبيعية الحقيقية في بيئة العالم الحقيقي”.

حافة الفوضى

لاحظ الفريق بعض الأنماط المفاجئة في النشاط الدماغي للمرضى على مدار الأسبوع. وفقاً للباحثين، الذين قدموا نتائجهم في الاجتماع السنوي لجمعية علم الأعصاب في مدينة سان دييغو لعام 2022، يبدو أن هناك بعض الشبكات العصبية الدماغية التي تتواصل مع بعضها بطريقة بدت وكأنها “رقصة”، حيث بدت بعض المناطق وكأنها “تُنصت” بينما بدت المناطق الأخرى وكأنها “تتحدّث”.

على الرغم من أن أدمغة المتطوعين انتقلت بين الحالات المختلفة بمرور الزمن، فهي فعلت ذلك بطريقة غريبة. بدلاً من الانتقال ببساطة من نمط محدد من النشاط إلى نمط آخر، لاحظ الباحثون أن أدمغة المتطوعين مرت بسرعة عبر العديد من الحالات الأخرى بين النمطين بشكل يبدو أنه عشوائي. ومع انتقال الأدمغة من حالة شبه مستقرة إلى أخرى، بدت وكأنها متكيفة مع الفوضى.

وفقاً للطبيب النفسي وعالم الأعصاب في كلية لندن الجامعية، ريك أدامز (Rick Adams)، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة، فإن ما لاحظه الباحثون منطقي. يقول أدامز: “على الأرجح، لا توجد عقدة عصبية مركزية توجه نشاط الدماغ”، ويضيف: “يشبه الأمر هز كرة الثلج؛ إذ إن ما تقوم به هو إحداث تغيير عشوائي والوثوق بأنه إذا مرت الكرة بعدد كافٍ من التكوينات، فإن التكوين المثالي سيظهر في النهاية بطريقة ما”.

تقول عالمة الأعصاب في جامعة أوكسفورد، هارييه كاغنان (Hayriye Cagnan)، والتي لم تشارك في الدراسة الجديدة: “هناك حالات مستقرة، وحالات انتقالية متقلبة ولا يمكن التنبؤ بها”. تضيف هارييه قائلة إنه إذا تمكّنا من اكتشاف النمط المرتبط مع الأدمغة السليمة، فقد نتمكن من استخدام المحاكيات الكهربائية لعلاج الاضطرابات العصبية.

اقرأ أيضاً: قبعات صغيرة لقياس نشاط حبيبات صغيرة مزروعة في الدماغ تفتح آفاقاً في علاج الأمراض العصبية

هذا ما يأمله غومان، والذي يقول إن الأنماط الصحية لنشاط الدماغ “توجد في مكان ما على الحد بين النظام والفوضى”، ويضيف: “قد تكون هذه الحالة الوسيطة مثالية بالنسبة للدماغ”.

لم تبين النتائج الجديدة بعد ما هو النشاط العصبي للدماغ السليم الذي يؤدي وظائفه في بيئة طبيعية. في النهاية، كان جميع المتطوعين في المستشفى خلال الدراسة، في انتظار العمليات الجراحية الدماغية لعلاج نوبات الصرع الشديدة التي يعانون منها. مع ذلك، يأمل فريق المؤلفين أن تمثّل دراستهم الخطوة الأولى لحل هذا اللغز.

يمكن أن يساعدنا هذا النهج في تطوير علاجات أفضل للصرع أيضاً. يختار بعض الأشخاص زرع الأقطاب الكهربائية في أدمغتهم والتي تتحسس النوبات وتولّد النبضات الكهربائية لإيقافها. مع ذلك، لا تعمل هذه الأجهزة بشكل مثالي، ووفقاً لعالمة الأعصاب في كلية بايلور للطب في مدينة هيوستن في ولاية تكساس الأميركية، كيلي بيجانكي (Kelly Bijanki)، من الممكن تحسين أداء هذه الأجهزة إذا تم تصميمها للتعرف على الحالات الانتقالية العشوائية وتحفيز الدماغ على الدخول في حالة وسيطة ما بين الفوضى والعشوائية.

في المستقبل، يأمل كل من غومان ووانغ في استخدام النهج نفسه لاكتشاف ما يحدث في أدمغة الأطفال وما إذا كان نشاطها مختلفاً عن نشاط أدمغة البالغين. كما يأملان في تعلّم المزيد عن كيفية تغيّر أدمغة البشر خلال يوم أو أسبوع واحد، وما علاقة ذلك بالساعة البيولوجية.