بعد الذكاء الاصطناعي: الحواسيب الحيوية تستهل حقبة جديدة من الابتكار التكنولوجي

4 دقائق
بعد الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية: الحواسيب الحيوية تستهل حقبة جديدة من الابتكار التكنولوجي
حقوق الصورة: shutterstock.com/ pogonici
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في عام 1965، لاحظ غوردون مور، أحد مؤسسي شركة إنتل، أن عدد الترانزستورات التي يمكن وضعها ضمن المعالج يتضاعف تقريباً كل سنتين، وقد صاغ هذه الفكرة فيما عُرف باسم “قانون مور“. ولكن بعد ما يقرب من 60 عاماً من هذه الملاحظة، لا يزال العلماء يتساءلون عمّا سيحدث عندما تصل أجهزة الحاسوب إلى أقصى قدراتها الفيزيائية، سواء من حيث عدد الترانزستورات التي يمكن وضعها على شريحة المعالج أو حجم الترانزستورات نفسها.

وقد دفع هذا الاقتراب السريع من الحدود الفيزيائية العلماء إلى البحث عن طرق جديدة لمعالجة المعلومات بطرق مختلفة عمّا تقوم به الحواسيب التقليدية المستخدمة اليوم، بما في ذلك تطوير الحواسيب الكمومية وأنابيب النانو الكربونية.

مؤخراً، اقترح عددٌ من الباحثين الذين ينتمون لمجموعة متنوعة من التخصصات والمؤسسات، حلاً جديداً واعداً قد يمكننا من معالجة المعلومات وتحليلها بطريقة مبتكرة. يتمثل هذا الحل في مجال علمي ناشئ أطلقوا عليه اسم الذكاء العضوي (Organoid Intelligence). وبشكلٍ مبسط، يسعى هذا الحقل الجديد لاستخدام عضيات الدماغ (Brain Organoids) المزروعة في المختبر لتطوير أجهزة حاسوب حيوية (Biocomputers).

الحواسيب الحيوية تستهل حقبة جديدة من الابتكار التكنولوجي

يتفوق الدماغ على الحواسيب بشكل عام في نواحٍ كثيرة. يمكن للدماغ، على سبيل المثال، أن يؤدي عدة مهام في وقت واحد، كما أنه أفضل في معالجة المعلومات المعقدة مثل الصور. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر الأدمغة أكثر كفاءة في استخدام الطاقة من خوارزميات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي.

لذلك، يرى الباحثون أن تقنيات مثل الشرائح القائمة على خلايا الدماغ (التي تحاكي الشبكات العصبونية بشكل أفضل) قد تمثل حلاً واعداً -على الأقل من الناحية النظرية- لمشكلة وصول الحواسيب إلى حدودها القصوى، لأنها تمثل المعلومات وتعالجها بطرق مختلفة، باستخدام سلسلة من الوظائف المعقدة والمتعددة الأبعاد، كما أنها تجري الحسابات بطرق أكثر دقة في مشكلات معينة.

يعمل الباحثون تحت قيادة أستاذ علوم الصحة البيئية بجامعة جون هوبكنز الأميركية توماس هارتونغ، على استخدام عضيات الدماغ لتطوير نوع جديد من نُظم الحوسبة الحيوية. والعضيات عبارة عن كتل ثلاثية الأبعاد من الأنسجة الحيوية بدأ العلماء بإنمائها وتجربتها منذ عام 2013، وقد استُخدمت في البداية كوسيلة للمساعدة في دراسة أمراض مثل باركنسون وألزهايمر.

كشف هارتونغ وزملاؤه، في دراسة نُشرت في نهاية فبراير/ شباط الماضي في دورية فرونتيرز إن ساينس (Frontiers in Science)، النقاب عن خطة شاملة لإنشاء حواسيب حيوية مدعومة بخلايا دماغية بشرية. يضم فريق هارتونغ علماء بارزين في هذا المجال، من بينهم الدكتور بريت كاغان، كبير المسؤولين العلميين في شركة كورتكال لابس (Cortical Labs) الأسترالية الناشئة، التي تصدرت عناوين الأخبار العام الماضي بعدما تمكنت من استزراع خلايا دماغية حية علّمت نفسها لعب لعبة الفيديو بونغ (Pong).

يرى المؤلفون أن هذا النوع الجديد من الحوسبة الحيوية “يعد بإحداث تطورات غير مسبوقة في سرعة الحوسبة، وقوة المعالجة، وكفاءة البيانات، وقدرات التخزين، وكل ذلك باحتياجات طاقة أقل. كما يمكن أن يحسّن الذكاء العضوي فهمنا لتطور الدماغ والتعلم والذاكرة، ما قد يسّرع تطوير علاجات جديدة للاضطرابات العصبية واضطرابات النمو العصبي”.

اقرأ أيضاً: بحلول نهاية هذا العقد سيصبح كل ما حولك ذكياً

لماذا قد نلجأ لعضيات الدماغ؟

عضيات الدماغ هي نوع من زراعة الخلايا في المختبر. وعلى الرغم من أنها ليست “أدمغة صغيرة”، فإنها تتميز ببعض الجوانب الرئيسية للوظائف الدماغية وبنيتها، مثل الخلايا العصبية وغيرها من خلايا الدماغ الضرورية للوظائف الإدراكية مثل التعلم والذاكرة. وفي حين أن معظم مزارع الخلايا مسطحة، فإن العضيات تتمتع ببنية ثلاثية الأبعاد، وهو ما يؤدي إلى زيادة كثافة الخلايا المستزرعة بمقدار 1000 ضعف، وبالتالي يمكّن الخلايا العصبية من تكوين المزيد من الروابط.

للإجابة عن سؤال لماذا قد نلجأ لعضيات الدماغ -لا سيما وأن أجهزة الحاسوب أكثر ذكاءً وأسرع من الأدمغة- يُجري هارتونغ مقارنة بين قدرات الدماغ البشري وأجهزة الحاسوب الحديثة، حيث يقول إن “أحدث حاسوب فائق، المُسمى فرونتير (Frontier) -والذي تبلغ تكلفته 600 مليون دولار ويمتد على مساحة 632 متراً- لم يتجاوز القدرة الحاسوبية لدماغ بشري واحد سوى في يونيو/ حزيران الماضي، لكنه يستخدم طاقة أكثر بمليون مرة”.

يقر هارتونغ أن أجهزة الحاسوب أسرع في معالجة الأرقام والبيانات لكن الأدمغة تظل أفضل عندما يتعلق الأمر بالمشكلات المنطقية المعقدة. ويوضح: “تتمتع الأدمغة أيضاً بقدرة مذهلة على تخزين المعلومات تقدر بنحو 2500 تيرابايت. لقد وصلنا إلى الحدود الفيزيائية لأجهزة الحاسوب المصنوعة من السيليكون لأننا لا نستطيع حزم المزيد من الترانزستورات في شريحة صغيرة. لكن الدماغ موصّل بطريقة مختلفة تماماً. لديه نحو 100 مليار خلية عصبية متصلة عبر أكثر من 1015 نقطة اتصال، وهو فرق هائل في القوة مقارنة بتقنيتنا الحالية”.

اقرأ أيضاً: علماء يصممون مواد هندسية قادرة على التفكير مثل الدماغ البشري

الوصول إلى 10 ملايين خلية

يرى العلماء أن أهم الخطوط العريضة التالية لتحقيق الإمكانات الكاملة لهذا المجال الجديد تتمثل في زيادة عضيات الدماغ الحالية وتحويلها إلى بُنى أكثر تعقيداً واستدامة وجعلها غنية بالخلايا والجينات المرتبطة بالتعلم.

حتى الآن، بنى العلماء مجموعات صغيرة من 50 ألف خلية دماغية نمت من الخلايا الجذعية، وهو نحو ثُلث حجم دماغ ذبابة الفاكهة. والهدف القادم هو الوصول إلى 10 ملايين خلية عصبية وهو رقم يقترب من عدد الخلايا العصبية في دماغ السلحفاة. وبالمقارنة، فإن الدماغ البشري العادي يحتوي على أكثر من 80 مليار خلية عصبية.

كذلك، تتضمن خطة العلماء المستقبلية تطوير نماذج وخوارزميات وتقنيات تفاعلية جديدة للتواصل مع عضيات الدماغ، وفهم الكيفية التي تتعلم بها وتجري عمليات الحوسبة، بالإضافة إلى استكشاف كيفية معالجة وتخزين الكميات الهائلة من البيانات التي ستولدها.

بالطبع، سيعني استزراع المزيد من الخلايا العصبية تطوير وظائف دماغية أكثر تعقيداً، ما يزيد من المخاوف والتساؤلات حول ما الذي يمكن اعتباره وعياً وما الذي يشكل الوعي والشعور والفكر.

اقرأ أيضاً: قبعات صغيرة لقياس نشاط حبيبات صغيرة مزروعة في الدماغ تفتح آفاقاً في علاج الأمراض العصبية

لا تزال هذه الأفكار في مرحلة التأسيس. وكما يقول هارتونغ، فإن الأمر “سوف يستغرق عقوداً قبل أن نصل إلى شيء يمكن مقارنته بأجهزة الحاسوب”. لكن في النهاية، قد تسمح هذه الرؤية للبشر بتسخير قدرات الحوسبة الدماغية لتشغيل حواسيب مختلفة تماماً عما نعرفه اليوم.

في كل الأحوال، إذا كنت من المتحمسين لهذه التكنولوجيا الثورية الجديدة، يمكنك أن تنضم إلى هارتونغ والدكتورة لينا سميرنوفا وغيرهما من الباحثين في جلسة افتراضية يعقدها منتدى “فرونتيرز ديب دايف”، يوم 21 يونيو/ حزيران من عام 2023، للنقاش حول آخر ما توصل إليه هذا الحقل العلمي، والخطوات التالية المطلوبة لتحقيق إمكاناته الكاملة.