جوجل تقول إنها اقتربت من “التفوق الكمومي”، فما الذي يعنيه ذلك؟

4 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قد لا يبدو الرقم 72 كبيراً، ولكنه هائل بمعايير الحوسبة الكمومية؛ حيث كشفت جوجل منذ فترة عن “بريسلكون”، وهي شريحة جديدة للحوسبة الكمومية تحوي 72 بتاً كمومياً، أو ما يسمى الكيوبت؛ وهو الوحدة الأساسية للحوسبة في الآلة الكمومية. وإن الرقم القياسي السابق -كما يظهر العداد والتسلسل الزمني للكيوبتات الخاص بنا- يعود إلى معالجٍ أعلنت عنه “آي بي إم” في السنة الماضية، لا يحتوي إلا على 50 كيوبت.

يقول جون مارتينيس -والذي يترأس عمل جوجل في هذا المجال- إن فريقه يرغب بإجراء المزيد من الاختبارات، ولكنه يعتقد أن الشريحة قد تٌحقِّق “التفوق الكمومي” هذه السنة بشكل “مرجح للغاية”، وربما حتى خلال فترة أشهر.

وتعني عبارة “التفوق الكمومي” قدرة الحاسوب الكمومي على إجراء الحسابات بشكل يتجاوز قدرات أسرع الحواسيب الخارقة التقليدية الحالية، وإذا نجح فريق جوجل -أو أي فريق من أي شركة أخرى- في هذا المضمار، يمكنك حينها أن تتوقع سيلاً من العناوين الرنانة الإعلامية حول فجر عصر جديد ومثير؛ حيث يُفترض أن الحواسيب الكمومية ستساعدنا على اكتشاف مواد دوائية جديدة، وإيجاد مواد جديدة، إضافة إلى إحداث ثورة في أساليب التشفير.

غير أن الواقع أكثير تعقيداً؛ يقول سيمون بنجامين (خبير في الحوسبة الكمومية في جامعة أوكسفورد): “إن من الصعب أن تجد أي باحث يحب استخدام مصطلح التفوق الكمومي؛ لا شك في أنه مصطلح ملفت للنظر، ولكنه مربك بعض الشيء، ويبالغ في قدرات الحواسيب الكمومية”.

أحجار بناء كمومية

لفهم معنى هذه العبارة علينا أولاً معرفة بعض المعلومات الأولية.

يكمن سحر الحواسيب الكمومية في هذه الكيوبتات؛ إذ تستطيع الكيوبتات -على عكس بتات الحواسيب التقليدية (والتي تخزن المعلومات على شكل صفر أو واحد)- أن تأخذ عدة حالات من الصفر والواحد في نفس الوقت؛ وهي ظاهرة تعرف باسم التراكب، كما يمكنها أن تؤثر على بعضها حتى لو لم تكن متصلة فيزيائياً؛ وهي عملية تعرف باسم التشابك الكمومي.

وبالتالي فإن إضافة بضعة كيوبتات إلى الآلة الكمومية تؤدي إلى زيادة قدرتها الحاسوبية بشكل مضاعف، على الرغم من أن إضافة نفس العدد من البتات العادية إلى حاسوب تقليدي لا تُحدث سوى فرق بسيط؛ ولهذا السبب -من ناحية المبدأ- لا يتطلب التفوق على أقوى الحواسيب الخارقة الحالية عدداً كبيراً من الكيوبتات.

غير أن بناء الكيوبتات يتطلب إنجازات هندسية عالية المستوى؛ مثل تركيب دارات فائقة الناقلية تبقى بشكل دائم ضمن درجات حرارة أبرد من الفضاء الخارجي (وهي طريقة جوجل)، وهو أمر ضروري لعزلها عن العالم الخارجي؛ حيث إن التغيرات في الحرارة، أو أدنى قدر من الاهتزاز -وهو ما يعرف بالضجبج- قد يتسبب في أن تفقد الكيوبتات المعلومات؛ نتيجة فقدان حالتها الكمومية الحساسة، وعند حدوث هذا تظهر الأخطاء في الحسابات.

كذلك فإن زيادة عدد الكيوبتات تعني أيضاً زيادة الأخطاء، ويمكن تصحيح هذه الأخطاء باستخدام كيوبتات إضافية، أو باستخدام برامج ذكية، ولكن هذه العملية تستهلك جزءاً كبيراً من استطاعة الحوسبة في الآلة. ورغم أن التطورات في تقنيات التبريد الفائق وغيرها في السنوات القليلة المنصرمة قد أدت إلى زيادة عدد الكيوبتات التي يمكن تصنيعها وإدارتها بفعالية، إلا أن التضارب بين القوة والتعقيد سيبقى موجوداً.

وليست هذه المرة الأولى التي يندفع فيها الباحثون نحو تحقيق التفوق الكمومي؛ فقد اعتقدوا لفترة من الزمن أن آلة كمومية تحوي 49 كيوبت ستكون كافية لهذا الهدف، ولكن تمكن باحثون في “آي بي إم” في السنة الماضية من محاكاة نظام كمومي يحوي 49 كيوبت على حاسوب تقليدي. كما أن الحواسيب التقليدية لم تستسلم؛ حيث تستثمر الصين مثلاً الكثير من الأموال في هذه التقنية، وتتباهى حالياً بامتلاك أسرع حاسوبين خارقين في العالم.

لحظة جوجل الحاسمة

ومع ذلك يقول دانييل جوتيسمان (من معهد بيرميتير للفيزياء النظرية في كندا): إن تحسين الخوارزميات على الحواسيب الرقمية قد يؤدي إلى رفع عتبة التفوق الكمومي قليلاً، ولكن تحقيقه لن يتطلب غالباً سوى بضعة كيوبتات إضافية؛ مما يعني أن هناك الكثير من القوة التي يمكن استخدامها بوجود 72 كيوبت في بريسلكون.

ويخطط مارتينيس وزملاؤه لاستخدام بريسلكون في إجراء اختبار لاستعراض التفوق الكمومي، وذلك وفق معيار صارم؛ وهو: (وجوب أن تكون المهمة مستحيلة التنفيذ على حاسوب تقليدي). ومن هنا تظهر لنا مسألة شائكة، وهي: كيف نتأكد من صحة الجواب ما لم نتمكن من مقارنته مع نتيجة حاسوب عادي؟

ولمعالجة هذه المشكلة، قرَّر فريق جوجل أن ينفذ مهمة شبه مستحيلة؛ وهي أن يستخدم الحاسوب الكمومي لحل خوارزمية تقع على أقصى حدود إمكانيات الحواسيب الخارقة التقليدية الحالية؛ يقول مارتينيس: “يمكنك أيضاً أن تُبيِّن أن تعقيد الخوارزمية هو من النوع المضاعف”؛ أي أنه إذا أُضِيفَ كيوبت واحد فقط، فستنطلق الآلة الكمومية متجاوزة حدود أداء الآلة التقليدية بفرق كبير.

لعبة جديدة

حتى لو حقق باحثو جوجل ذلك المعيار السحري، فإن فائدة الآلة الكمومية ستبقى محدودة، وذلك بسبب تعقيد عملية إدارتها وتكلفتها، وعلى الرغم من وجود بعض التطبيقات الواعدة -مثل التصميم الدقيق للجزيئات- فما زالت الآلات التقليدية أفضل وأسرع وأكثر جدوى اقتصادية في حل معظم المسائل؛ يقول بنجامين (من جامعة أوكسفورد): “إن استخدام الحاسوب الكمومي سيكون أشبه باستئجار طائرة عملاقة لعبور الشارع”.

يقترح بنجامين أنه يجب -بدلاً من التركيز على “التفوق الكمومي”- أن نركز على “التفرد الكمومي”؛ أي المهام المحددة التي لا يمكن تأديتها سوى بالحواسيب الكمومية، واقترح باحثون آخرون مصطلحات مشابهة؛ مثل: “الأفضلية الكمومية” و”التسامي الكمومي”.

ولا يمكن التقليل من شأن هذه المصطلحات والمعاني؛ فقد مرت الكثير من التقنيات -مثل الذكاء الاصطناعي- بعدة تقلبات حماسية في بدايتها قبل أن تنطلق فعلياً، وتوجد مخاطرة في رفع التوقعات إلى درجةٍ تفشل فيها الآلات الكمومية في تحقيقها؛ وهو ما يمكن أن يؤدي إلى انسحاب جماعي للمستثمرين الذين كانوا يضخون ملايين الدولارات في الشركات الكمومية الناشئة.

بل إن صاحب مصطلح “التفوق الكمومي” نفسه يحاول أن يخفف قليلاً من الضجة التي ساعد على إطلاقها؛ فقد صاغ جون بريسكل (وهو فيزيائي نظري في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا) هذا المصطلح في خطاب ألقاه في 2011، ثم نشر بحثاً في شهر يناير من هذا العام يقول فيه إن الحوسبة الكمومية على وشك دخول مرحلة أطلق عليها اسم “نيسك NISQ” (وهي اختصار لعبارة “المرحلة الكمومية المتوسطة المشوَّشة”)؛ حيث ستحوي الآلات من الكيوبتات ما بين خمسين إلى بضعة مئات. ويقول بريسكل: “إن كلمة مشوشة تعني أن تحكمنا في الكيوبتات لن يكون كاملاً، وأن الضجيج والتشويش سيحدُّ بشكل كبير من قدرات الأجهزة الكمومية على المدى القريب”، ويضيف أنه ما زال مقتنعاً أن الحواسيب الرقمية ستُحدِث تحولات كبيرة في المجتمع، ولكنه يُقر بأن هذا التحول “قد لا يحدث قبل عدة عقود من الزمن”.

ما زالت مشكلة الضجيج والتشويش قائمة؛ يقول جيل كالاي (بروفسور في إحدى جامعات الشرق الأوسط): إن المشاكل والتحديات الناتجة عن الضجيج كبيرة جداً، لدرجة أنها كافية للقضاء على أي احتمال للإفادة من الحواسيب الكمومية، ولكن الكثير من الخبراء يخالفونه الرأي؛ حيث يقول آندرو تشايلدز (المدير المساعد لمركز المعلومات الكمومية وعلوم الحاسوب في جامعة ماريلاند): “ليس من المستحيل التعامل مع الضجيج، بل نحتاج فقط إلى تحديد المقدار المسموح به”.

يدرك مارتينيس (من جوجل) أيضاً أن التوقعات يجب أن تكون منطقية، كما يخطط فريقه لاستخدام خوارزمية مخصصة تماماً لاختبار قدرات الآلات الكمومية بدلاً من تحقيق أي شيء عملي؛ يقول مارتينيس: “بمجرد أن نحقق التفوق الكمومي، فسوف نبرهن أن الآلات الكمومية قادرة على فعل شيء مفيد حقاً”.