جسيمات نانوية قد تكون المفتاح لتطوير لقاح شامل لوباء كوفيد-19

10 دقائق
جسيمات نانوية قد تكون المفتاح لتطوير لقاح شامل لوباء كوفيد-19
الصورة تقدمة من ويلكوم ليب وكالتيك ومعهد ميركن
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قبل أن يسمع ألكسندر كوهين وغيره بمتحورات كوفيد-19 ألفا ودلتا وأوميكرون، كان يعمل بالاشتراك مع مستشارته في مرحلة الدراسات العليا باميلا بيوركمان على بحث قد يؤدي قريباً إلى الحصول على لقاح واحد قادر على هزيمة هذا الفيروس سريع التطور، إضافة إلى أي متحورات أخرى يمكن أن تظهر لاحقاً.

فقبل الوباء، كان كوهين طالب دكتوراة في مختبر بيوركمان للبيولوجيا البنيوية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وكان يعمل على تصميم نوع جديد من لقاح “عام” للإنفلونزا. وقد تم تصميم هذا اللقاح لتدريب النظام المناعي للجسم على التعرف إلى أجزاء محددة من فيروس الإنفلونزا، وهي أجزاء لا يستطيع هذا العامل الممرض تغييرها أو إخفاءها حتى مع التطور.

وهكذا، وفي بدايات 2020، عندما بدأ الفيروس بالتفشي وكان كوهين يوشك على تلقي درجته العلمية، قرر بالاشتراك مع بيوركمان وأفراد آخرين في المختبر البدء بالعمل على تصميم لقاح عام لكوفيد، بحيث لا يقتصر عمل هذا اللقاح على تأمين الحماية ضد جميع المتحورات، بل تأمين الحماية ضد جميع الأنواع الجديدة تماماً من الفيروسات التاجية (كورونا) أيضاً.

اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي يساهم في حل ألغاز كوفيد-19 طويل الأمد

يقول كوهين: “لا شك أننا سنحتاج إلى شيء كهذا لمكافحة كوفيد-19 مع ظهور متحورات جديدة”. “ولكن، ومن وجهة نظر أوسع، فإن احتمال ظهور أوبئة وأمراض جديدة بسبب فيروسات تاجية أخرى أصبح واضحاً. ونحن في حاجة إلى شيء يستطيع منع أي سيناريوهات مشابهة لما حدث مع كوفيد-19، وفي أقرب وقت ممكن”.

لطالما اشتكى مسؤولو الصحة العامة والعلماء من ضعف التمويل، وضعف الاندفاع الطارئ لتمويل لقاحات تحمينا من الأوبئة في المستقبل. ولكن، وعلى إثر كوفيد-19، بدأت المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة بضخ عشرات الملايين من الدولارات إلى مجموعات البحث التي تعمل على ابتكار لقاحات عامة للفيروسات التاجية.

ويبدو أن الأمور أصبحت على المحك بصورة غير مسبوقة. ففي يناير/ كانون الثاني، وصف مدير المؤسسة الوطنية للحساسية والأمراض المعدية، أنتوني فاوتشي، عملية تطوير لقاحات عامة للفيروسات التاجية بأنها “حاجة طارئة”، مضيفاً أن ظهور متحورات جديدة لكوفيد-19 على مدى السنتين الماضيتين يشير إلى وجود أخطار كبيرة بعيدة الأمد. وقال منذ ذلك الحين إننا بحاجة إلى تخصيص المزيد من الموارد لمواصلة هذا الكفاح، كما بدأ بالضغط علناً على المشرعين لتخصيص هذه الموارد.

اقرأ أيضاً: من التعريف وحتى الأعراض والتأثيرات: جدل متصاعد حول كوفيد طويل الأمد لدى الأطفال

وقد كتب فاوتشي في مقال شارك في تأليفه مع خبيرين آخرين في الأمراض المعدية للمجلة الطبية نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسين (New England Journal of Medicine): “تشير الأدلة الطبية والوقائع البيئية إلى أن الفيروسات التاجية ستعود إلى الظهور في المستقبل، ما يمكن أن يمثل خطراً وجودياً”.

وكما تبين مجموعات مثل مجموعة بيوركمان، فإن المفتاح نحو مواجهة هذا التحدي قد يكمن في القدرة على استخدام أدوات البيولوجيا الاصطناعية لخداع الأسلحة المجهرية لنظام المناعة، وهي الأسلحة الموجودة مسبقاً في الجسم البشري.  وقد بدأ الباحثون باكتشاف وسائل لتعزيز هذه الخلايا المناعية لتوفير حماية شاملة إلى درجة كبيرة ضد الميكروبات المهاجمة. وإذا نجحت هذه الوسائل، فلن تتمكن فقط من توفير حماية أكثر فعالية ضد كوفيد، بل يمكنها أيضاً أن تحدث ثورة في طريقتنا لابتكار لقاحات للفيروسات المعقدة بشكل عام.

وبعد قيامهم بدور ريادي في تطوير هذه التقنيات، أصبح كوهين وبيوركمان والزملاء الآخرون قريبين للغاية من تحقيق هدفهم في تصنيع لقاح قادر على تحفيز استجابة مناعية شاملة لكوفيد ومتحوراته، بل ولمجموعة أكثر شمولاً من الفيروسات التاجية.

ويتألف اللقاح من نواة بروتينية كروية مغطاة برؤوس بروتينات “مسمارية” مأخوذة من سطح ثمانية متحورات من الفيروسات التاجية، موزعة بنمط مشابه لتصميم كرة القدم، وهو ما يطلق عليه العلماء اسم جسيم نانوي فسيفسائي. ومن المذهل أن النتائج الأولية للتجارب في أنابيب الاختبار بينت أن الأجسام المضادة التي ينتجها هذا اللقاح الاصطناعي تمكنت من كشف جميع الفيروسات التاجية الثمانية الموجودة على الجسيم النانوي والالتصاق عليها، بل وتمكنت أيضاً من فعل هذا مع أربع متحورات إضافية من الفيروسات التاجية التي لم يتم استخدامها في صنع اللقاح. وفي مارس، قالت المجموعة إن اللقاح قادر، حسب ما يبدو، على حماية الفئران والقرود التي تعرضت إلى مجموعة متنوعة من الفيروسات التاجية.

اقرأ أيضاً: كيف نجحت فايزر بإنتاج دواء فعال لمرض كوفيد؟

في يوليو/ تموز، قامت المجموعة بنشر نتائجها في مجلة ساينس (Science)، حيث بينت أن لقاح الجسيم النانوي الفسيفسائي الذي ابتكرته تمكن من حماية الفئران والرئيسيات غير البشرية من متحوري دلتا وبيتا لكوفيد-19، إضافة إلى الفيروسات البشرية التي تسببت بأول أوبئة سارس في 2003. وقد تكون هذه النتائج الدليل الإيجابي الأحدث والأقوى الذي يشير إلى أن هذا النوع من اللقاحات المصممة بشكل خاص بالهندسة البيولوجية يمكن أن يكون الحل الذي نحتاج إليه حاجة ماسة لتفادي انتشار أوبئة الفيروسات التاجية في المستقبل.

أما الخطوة التالية فهي اختبار هذا اللقاح على البشر. وسيؤمّن تحالف الابتكارات المتعلقة بالاستعداد لمواجهة الأوبئة ما يصل إلى 30 مليون دولار للبدء بالتجارب على البشر. وستقوم شركة التكنولوجيا الحيوية إنغينزا (Ingenza) في إدنبرة بتصنيع العقار.

وبما أن هذه الطريقة جديدة تماماً، فقد يستغرق بدء التجارب فترة تصل إلى سنتين. ولكن، إذا نجحت التجربة، فقد يحمينا هذا اللقاح بشكل دائم من أي احتمال لفرض الحجر الصحي مرة أخرى.

لقاح كرة القدم

على غرار الكثير من الفيروسات، أثبت كوفيد-19 أنه فائق البراعة في التنكر. فهو يعتمد على الأداة الأكثر قوة لظاهرة الاصطفاء الطبيعي، وهي التحورات العشوائية، لتغيير شكله بعدة أساليب أثبتت على الأقل في حالة متحور أوميكرون أنها تتيح للفيروس التملص من أكثر الأدوات التي يستخدمها الجسم للتصدي للفيروسات انتشاراً، أي الأجسام المضادة.

فالأجسام المضادة هي بروتينات بشكل الحرف Y ضمن مجرى الدم، وهي تلتصق على سطح عوامل ممرضة معينة، وتلتف عليها بشكل يؤدي إلى شلها وخنقها حتى تقضي عليها. ولحمايتنا من أي شيء يمكن أن تعرضنا الطبيعة إليه، فإن الجسم البشري يتمتع بالقدرة على تصنيع أنواع مختلفة كثيرة للغاية من الأجسام المضادة التي يتميز كل منها بشكل مختلف قليلاً عن غيره. إن الحموض الأمينية المتشابكة التي تشكل ذراعي الجسم المضاد تتميز بأشكال محددة مصممة للتراكب بشكل محكم، مثل قطع الألعاب التركيبية، على البروتينات ذات الأشكال الموافقة والموجودة على سطح عوامل ممرضة معينة تهاجم الجسم.

أما الفيروسات التي تتسبب بأكبر قدر من المتاعب فهي تلك التي تستطيع أن تستبق النظام المناعي البشري (وأفضل جهودنا لتدعيمه باللقاحات) بتغيير شكل بروتيناتها السطحية بسرعة كافية، أو بالتطور إلى أشكال تزيد من صعوبة ارتباط الأجسام المضادة بها. وعلى سبيل المثال، فإن البروتينات على سطح فيروس الإيدز (HIV) متباعدة عن بعضها لدرجة أن الجسيم المضاد بشكل حرف Y قادر على التشبث به بذراع واحدة فقط. أما البروتينات على سطح فيروس الإنفلونزا فتتحول وتتطور إلى أشكال جديدة بشكل متكرر إلى درجة أن الأجسام المضادة التي ننتجها لم تعد تستطيع التشبث عليها بإحكام. ولهذا، فنحن بحاجة إلى لقاح جديد سنوياً حتى نستطيع مجاراة هذه التغيرات.

لقاح كرة القدم
ألكسندر كوهين. مصدر الصورة: تقدمة من كالتي

ولكن، ماذا لو تمكنا من تحديد شكل بالغ الأهمية لتماسك بنية الفيروس إلى درجة استحالة تغيره أو تحوله –ما يطلق عليه البيولوجيون اسم ميزة “محفوظة”- ومن ثم قمنا بتصميم الجسيم الميكروسكوبي للتشبث على هذا الشكل؟

يقول كوهين شارحاً: “هناك أجزاء ثابتة دون تغير في الكثير من الفيروسات. ولكن، ومن سوء الحظ، فإن جسمنا يعاني من صعوبة في التعرف إلى هذه الأشكال المحفوظة. ويبدو أن الأجسام المضادة تفضل التعرف إلى الأشكال كثيرة التغير. كما أن الفيروسات بارعة في تغيير الأجزاء التي يتعرف إليها النظام المناعي بسهولة أكثر من غيرها”.

اقرأ أيضاً: الكشف عن المناعة ضد كورونا: ما هي اختبارات الأجسام المضادة؟

بحلول عام 2019، كان كوهين منهمكاً في العمل على مشروع محاولة لتطوير لقاح عام للإنفلونزا، وذلك بتصميم لقاح يحفّز النظام المناعي على استهداف المناطق المحفوظة الموجودة على سطح معظم فيروسات الإنفلونزا. وكان يعمل باستخدام التكنولوجيا التي ابتكرها وطورها البيولوجي المختص بالبروتينات في جامعة أوكسفورد، مارك هاوارث، وهي عبارة عن جسيم نانوي ذاتي التجميع مع 60 منطقة مفتوحة على السطح، وكل منها مصممة بخصائص مماثلة لشريط الفيلكرو اللاصق. وقد تم تصميم هذه المساحات لاجتذاب الجزيئات التي تمتلك مساحات سطحية مصممة مخبرياً حتى تتميز بشكل لاصق مقابل، والارتباط معها.

ويستطيع البيولوجيون مثل كوهين إلحاق هذه اللصاقات الإضافية الشبيهة بالفيلكرو بأي بروتين، وسيثبت هذا البروتين نفسه على الجسيم النانوي. وفي شكله النهائي، يقوم هذا الجسيم بتجميع نفسه متحولاً إلى بنية شبيهة بكرة قدم مغطاة بالمسامير وتحمل تشكيلة فسيفسائية من البروتينات متنوعة الأشكال، والتي تحتفظ بمكانها بفضل ما يشبه الصمغ البروتيني شديد اللصق.

وبفضل هذه التكنولوجيا، والتي جعلها هاوارث متاحة لمجموعات الأبحاث في جميع أنحاء العالم، أصبح من الممكن تصميم اللقاحات بشكل هندسي انتقائي. وقد بدأ كوهين وزملاؤه بإجراء التجارب على البروتينات المأخوذة من عدة أشكال من فيروس الإنفلونزا، وقياس قدرة تراكيب مختلفة على حماية الفئران من أنواع جديدة من الإنفلونزا. وكان قد أنهى منذ فترة قصيرة وضع اللمسات الأخيرة على أطروحة الدكتوراة، وبدأ بالاستعداد لإجراء مجموعة جديدة من التجارب.

ولكن، ظهر كوفيد-19.

اقرأ أيضاً: كورونا والأنفلونزا: ما هي أوجه التشابه والاختلاف بينهما؟

أهداف مشتركة

سمع كوهين بالفيروس الغامض الجديد الذي ظهر في ووهان في الصين لأول مرة عندما كان يتصفح موقع الويب المفضل لديه، وهو موقع على الإنترنت لتتبع الأمراض المعدية ومراقبة الأوبئة الجديدة لدى البشر والحيوانات في جميع أنحاء العالم. وعندما اكتشف أن سعيه لتصميم لقاح عام للإنفلونزا قد يتعرض لتوقف مؤقت، اقترح على بيوركمان على الفور إطلاق مشروع لتطبيق نفس المقاربة على فيروس كوفيد-19 (أي محاولة تحديد الأجزاء المحفوظة لكوفيد) المعروف باسم سارس-كوف-2، والتي قد تكون موجودة في فيروسات أخرى مماثلة لسارس بحيث يستطيع اللقاح استهدافها أيضاً.

وبحلول أبريل/ نيسان من عام 2020، عاد كوهين إلى المختبر. وللعثور على الأشكال الموجودة على سطح الفيروس، والتي يُرجح أن تكون محفوظة، اعتمد بيوركمان على نطاق واسع من الأبحاث العلمية التي تقوم بتوصيف ومقارنة السلاسل الجينية للفيروسات التاجية.

وتتألف معظم الفيروسات التاجية، بما فيها تلك التي تتسبب بكوفيد-19، من قطعة من المادة الجينية الملتفة ضمن بروتين داخل غشاء رقيق واقٍ أشبه بفقاعة صابون، وهو غلاف يصعب على الجهاز المناعي تمييزه عن الأغلفة الخارجية للخلايا البشرية المجاورة. ولكن هذه الفيروسات تحمل نقطة ضعف، وهي البروتينات البارزة خارج الغشاء بشكل خطافات تتيح للفيروس التشبث بالخلايا المضيفة المستهدفة فترة كافية لحقن مادته الجينية فيها والسيطرة على عملية صنع البروتين في الخلية، وذلك لإنتاج نسخ جديدة منه. فهذه المسامير تتميز بشكل خاص مصمم، في حالة كوفيد-19، للتشبث بالبروتينات المسماة بمستقبلات “إيس 2” (ACE2)، والموجودة على سطح الكثير من الخلايا البشرية.

اقرأ أيضاً: التصدي لكوفيد أم إنقاذ الاقتصاد؟ يمكن تحقيق الهدفين معاً

وهذه المسامير أهداف جذابة للأجسام المضادة. ولكنها تتحول بسرعة إلى أشكال جديدة تتيح لها التملص من الاكتشاف. ومن بين 53 تحولاً جديداً تم اكتشافه في متحور أوميكرون، على سبيل المثال، يوجد 30 تحولاً متعلقاً بالجين المسؤول عن البروتين المسماري. ويقوم 13 تحولاً بتشكيل 3 مجموعات متمايزة، ويقوم اثنان بتغيير شكل المسمار قرب الطرف، على حين توجد مجموعة ثالثة تؤدي إلى تغيير المنطقة الأقرب إلى القاعدة. ومعاً، تؤدي هذه التحولات إلى تغيير شكل المسمار بما يكفي لتفادي الأجسام المضادة التي يمكن أن تلتصق بشدة بهذه النسخ من فيروس كوفيد-19.

ويكمن المفتاح لتصميم لقاح عام في الجسيم النانوي الفسيفسائي الذي يحمل الكثير من القطع الفيروسية المتجمعة على سطحه. ومن المرجح أن تتمكن خلايا B في النظام المناعي، والتي تولد مجموعة محددة من الأجسام المضادة، من اكتشاف بعض هذه الأجزاء المحفوظة من الفيروس على الأقل والارتباط بها، وهي أجزاء لا تتغير في المتحورات الجديدة. وبالتالي، فإن خلايا B ستتمكن من صنع أجسام مضادة فعالة حتى ضد المتحورات الجديدة تماماً.

ولصنع الجسيم النانوي الفسيفسائي، اختار كوهين وبيوركمان وزملاؤهم بروتينات من سطوح 12 فيروس من الفيروسات التاجية التي اكتشفتها مجموعات بحثية أخرى ونشرت تفاصيلها في الأبحاث العلمية. وتتضمن هذه المجموعة الفيروسات التي تسببت بأول وباء سارس والفيروس الذي تسبب بكوفيد-19، وأيضاً الفيروسات غير البشرية الموجودة في الخفافيش في كل من الصين وبلغاريا وكينيا. وزيادة في الاحتياط، أضافوا أيضاً الفيروس التاجي الموجود في آكل النمل الحرشفي المعروف باسم بانجولين (أم قِرفة). وقد خضعت جميع هذه الأنواع لعملية تحديد السلاسل الجينية من قبل مجموعات بحثية أخرى، وهي تشترك في نفس المادة الجينية بنسبة تتراوح من 68% إلى 95%. ولهذا، يمكن لكوهين وبيوركمان أن يكونا متأكدين نسبياً من أن بعض الأجزاء من كل بروتين مسماري مميز من البروتينات التي اختاروها لوضعها على الجسيم النانوي، على الأقل، ستكون مشتركة مع بعض الفيروسات الأخرى.

ويكمن المفتاح لتصميم لقاح عام في الجسيم النانوي الفسيفسائي الذي يحمل الكثير من القطع الفيروسية المتجمعة على سطحه.

وبعدها، قاموا بصنع ثلاثة لقاحات. وقد تم تصميم اللقاح الأول، ولأهداف المقارنة، بحيث تحمل جميع الفتحات الستين جسيمات مأخوذة من نوع واحد من سارس-كوف-2، الفيروس الذي تسبب بكوفيد-19. أما اللقاحان الآخران فقد كانا فسيفسائيين، وكل منهما يحمل تشكيلة من القطع البروتينية المأخوذة من ثمانية أنواع من أنواع الفيروسات التاجية لدى الخفافيش والبشر والبانجولين. أما الأنواع الأربعة الباقية فلم توضع في اللقاح، بحيث يستطيع الباحثون اختبار قدرة اللقاح على التصدي لها على أي حال.

اقرأ أيضاً: ما هي الأدوية الأكثر فعالية في علاج كوفيد-19؟

وفي الدراسات التي أجريت على الفئران، تمكنت اللقاحات الثلاثة من الارتباط بشكل جيد مع فيروس كوفيد-19. ولكن عندما دقق كوهين في النتائج، أصيب بالصدمة لاكتشافه مدى فعالية الجسيمات النانوية الفسيفسائية عند تعريضها لأنواع مختلفة من الفيروسات التاجية التي لم تكن موجودة في المسامير الموجودة عليها.

فقد كان اللقاح يحفز إنتاج جحافل من الأجسام المضادة لمهاجمة أجزاء البروتينات الأقل تغيراً بين الأنواع المختلفة من الفيروسات التاجية، أي الأجزاء المحفوظة.

عهد جديد

في الأشهر الماضية، كانت المجموعة المؤلفة من بيوركمان وكوهين والزملاء الآخرين تعمل على اختبار اللقاح على القرود والقوارض. وحتى الآن، يبدو أنه فعال.  وقد سارت بعض التجارب ببطء بسبب الحاجة إلى إجرائها من قبل أفراد مشاركين في العمل ضمن مختبرات خاصة تتمتع بمعايير مرتفعة من الحماية البيولوجية لضمان عدم تسرب الفيروسات شديدة العدوى. ولكن عندما ظهرت النتائج أخيراً في مجلة ساينس (Science)، تلقى البحث المنشور اهتماماً واسع النطاق.

باميلا بيوركمان
باميلا بيوركمان. مصدر الصورة: تقدمة من كالتيك 

وعلى التوازي، يجري العمل أيضاً على جهود أخرى. ففي معهد تصميم البروتينات بجامعة واشنطن، قام مختص الكيمياء الحيوية نيل كينغ بوضع تصاميم خاصة للمئات من الأنواع الجديدة من الجسيمات النانوية، “بنحتها ذرة تلو الأخرى”، كما يقول، بطريقة تتيح تجميع الذرات ذاتياً، وانجذابها إلى المواضع الصحيحة عن طريق قطع أخرى مصممة خصيصاً لحمل مزايا هندسية وشحنات كيميائية موافقة. وفي 2019، كان مساعد كينغ في المعاهد الوطنية للصحة، بارني غراهام، أول من أثبت بنجاح إمكانية استخدام الجسيمات النانوية الفسيفسائية بفعالية ضد أنواع فيروسات الإنفلونزا المختلفة. وقام كينغ وغراهام وغيرهما بتأسيس شركة لتعديل التقنية وتطويرها، وتمكنوا من إيصال لقاح جسيم نانوي للإنفلونزا إلى المرحلة الأولى من التجارب السريرية. وهم يعملون الآن على تطبيق التكنولوجيا الجديدة ضد عدة أنواع من الفيروسات، بما فيها سارس-كوف-2.

وعلى الرغم من التطورات الواعدة الأخيرة، تحذر بيوركمان من أن لقاحها لن يكون كافياً على الأرجح للحماية ضد جميع الفيروسات التاجية. فهناك أربع عائلات مختلفة من الفيروسات التاجية، وكل منها تختلف عن الأخرى بقليل، ويقوم بعضها باستهداف مستقبلات مختلفة كلياً في الخلايا البشرية. ولهذا، فإن عدد المواقع المحفوظة في كامل عائلات الفيروسات التاجية قليل. ويركز اللقاح الذي أنتجه مختبرها على تحقيق حماية عامة ضد فيروس ساربي التاجي، أي العائلة الفرعية التي تحتوي على فيروس سارس التاجي وفيروس سارس-كوف-2.

وتقول بيوركمان: “لست متأكدة من إمكانية تصميم لقاح واحد يشمل جميع الفيروسات التاجية على الإطلاق. ولهذا، فنحن نحاول تحقيق هدف أكثر سهولة نسبياً، وذلك بتصميم لقاح شامل لعائلة فيروس ساربي التاجي (sarbecovirus). ولكنني أعتقد أنه أمر مهم، بما أنها العائلة التي تسببت بالكثير من الأوبئة التي شهدناها مؤخراً”.

إضافة إلى ذلك، فإن البحث الذي تم إجراؤه في مختبر بيوركمان يفتح مجالاً جديداً في تصميم اللقاحات بنتائج تتجاوز هذا البحث بكثير. فقد يؤدي هذا العمل إلى القيام بأبحاث لاستهداف الفيروسات التاجية في عائلات أخرى، بل وحتى فيروسات مختلفة تماماً. كما قد يكون فاتحة عهد جديد في تطوير اللقاحات حيث يمكن تطوير لقاحات قادرة على التصدي لنطاق أوسع من العوامل الممرضة الصعبة وتعديلها بسهولة أكبر.

ولكن العوائق المتعلقة بالقواعد التنظيمية التي يجب تجاوزها كبيرة للغاية. فاللقاح التقليدي المُنتج عبر عملية تقليدية يحتاج إلى إثبات وجود “عوامل ارتباط تتعلق بالحماية” مع اللقاحات الموجودة، أي وجود دليل على استجابة النظام المناعي للقاح كما يستجيب للقاحات الموجودة. ولكن، وبما أن لقاحات الجسيمات النانوية جديدة، يجب على الباحثين أن يثبتوا أن اللقاح يمنع إصابة الأفراد بالمرض، وهو ما قد يستغرق وقتاً أطول بكثير ويحتاج إلى تكاليف باهظة.

ويشير كوهين إلى أن مجرد البدء بالتجارب قد يحتاج إلى سنتين، بما أن اللقاح يجب أن يخضع لاختبارات سمّيّة صارمة ويحقق معايير تصنيعية صارمة حتى يثبت توافقه مع الأنظمة المتبعة. ولكن، وبوجود تمويل أولي جاهز، وجهة محددة ستقوم بعملية التصنيع، ونشر أوراق بحثية في أهم المجلات العالمية لإثبات الاحتمالات الواعدة، قد يكون أمامنا سبب يدعو أخيراً إلى التفاؤل.